Skip to main content

حياة القائد الداخلية

كان البابليّون شعباً فظّاً قاسياً. وكان دستورهم في الأخلاق والعدالة شاذّاً وغريباًَ، حتى أنهم نظروا إلى قتل الإنسان كأنه لا يختلف عن قتل ذبابة. وهكذا عندما احتلّ جيشهم أورشليم قديماً وسبوا من أهلها عدداً من الشبّان، وجد أولئك الشبّان أنفسهم وسط مجتمع تتناقص مبادئُه مع كل ما تعلّموه منذ نشأتهم. لقد كانوا واقعين وسط جوّ عدائي لا يقاوَم. ومع ذلك فقد ارتقى أحدهم إلى مركز القوّة والسلطة في إمبراطورية كانت غارقة في العنف والخرافات وعبادة الأوثان، وخلال سنوات العبودية، دعي هذا الرجل من قبل الملوك الوثنيين إلى أعلى المناصب، في تلك البلاد. وكان أهم ما يُلاحظ في هذا الرجل هو مبادئه القويمة، وتمسّكه بعبادة الله الحق. لا شك في أننا سنتعلم كثيراً من الإطلاع على الحياة الداخلية لهذا القائد المرموق.

كان دانيال شاباً عندما اختاره الملك نبوخذنصّر لمهمة خاصة. لقد كان أحد أفراد مجموعة، وتقرَّر أن "يعلِّموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم" (دانيال 1: 4). وقد كان يشكل مع ثلاثة من رفاقه، نخبة من الشبان ذوي المؤهّلات الخاصة، "فتياناً لا عيب فيهم، حسان المنظر، حاذقين في كل حكمة، وعارفين معرفة وذوي فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك" (دانيال 1: 4). وهذا يعني بلغة هذا العصر أنهم كانوا لائقين بدنيّاً وإجتماعيّاً، أذكياء حاذقي التفكير، مثقَّفين ومؤهَّلين ديبلوماسيّاً.

ويمكن القول أن أي عميد في أية جامعة، بعد أن يطّلع على هذه المؤهّلات، سوف يرحِّب بهؤلاء الشبان بين طلاّبه. أما المؤسسات فسوف تسعى جاهدة لتضم أمثالهم إلى موظَّفيها. ولكن هناك نقطة تثير الإهتمام. لقد رفع الله واحداً منهم فقط إلى أحد أعلى مناصب الإرشاد الروحيّ. لماذا؟ لوجود بعض الصفات الأساسية في الحياة الداخلية لهذا الرجل. دعونا إذن نبحث ثلاثا ًمن أهم هذه الصفات.


نقاوة الحياة:

من أولى الصفات المميّزة للشاب دانيال كانت نقاوة حياته. "أما دانيال فجعل في قلبه أنه لا يتنجَّس" (دانيال 1: 8). من المهم ملاحظة أن أول ما عمله الله في فجر الخليقة هو أنه فصل بين النور والظلمة. يرمز هذا العمل إلى حقيقة روحية عظمى. فأنت إما أن تكون في هذه الناحية أو في الأخرى. ليس بالإمكان القفز فوق السياج.

ففي الجحيم لا يوجد نور، وفي السماء لا يوجد ظلام. ونحن الذين أعطينا حياتنا للمسيح، وجرَّبنا حبّه وغفرانه، سوف نجتمع به أخيراً في السماء. ولسوف ندخل مساكنه وننعم بحضوره. واستعداداً لذلك اليوم العظيم نحتاج أن نتعوَّد السير في النور ونحن لا نزال على الأرض.

إن بولس الرسول يكمّل هذا الموضوع بقوله: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبرّ والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي إتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن، وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان. فإنكم أنتم هيكل الله الحي" (2 كورنثوس 6: 14- 16).

لقد استعمل بولس الأسئلة الخمسة المقتبسة أعلاه، ليرسم خطّاً فاصلاً بين الله والمعارضة. ففي ناحية يجمع الصلاح والنور والمسيح والإيمان وبيت الله. أما في الناحية الأخرى، فهناك الضلال والظلام والشيطان والكفر والعبادة المزوّرة. وهو حين يبيّن بأنه لا يمكن الخلط بين الناحيتين فهو يدعوك لتختار أن تحيا في هذه الناحية أو في الأخرى. إن هذه حقيقة واضحة، ومع ذلك فهناك كثيرون يحاولون إيجاد تسوية مع الخطيئة. فالقائد ملزم بأن يقدّم القدوة في تصرفاته التي تتفق مع الكتاب "فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم". (1 تيموثاوس 3: 2).

يهتم الله كثيراً بحياة القائد الداخلية. عندما نبذ الله الملك شاول واختار بديله قال لصموئيل "لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته.... لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1 صموئيل 16: 7). فأنت وأنا نميل إلى تقدير الناس بالمعيار الخارجي فقط، وهو ما نراه. أما الله فينظر إلى الداخل.

منذ أشهر اجتاحت مدينتنا عاصفة رملية وقد اقتلعت زجاج النوافذ في مخازن المدينة ومصارفها. وكان هيرب لوكبار الرجل الذي يقوم بالتدريس في صف مدرسة الأحد، مع زوجته آرديس عائدين بالسيارة إلى منزلهما، عندما رأت آرديس منظراً هالها. رأت إحدى أجمل أشجار المدينة وقد اقتلعتها العاصفة من جذورها. لفتت نظر زوجها إلى أن تلك الشجرة الجميلة كان السوس قد نخرها من الداخل.

لقد انكشف سرٌّ كان مدفوناً. فإن الشجرة التي كانت مثار الإعجاب لعظمتها وجمالها، كانت مهترئة من الداخل. لذلك عندما جاء اليوم الذي واجهت فيه العاصفة الشديدة، لم تستطع الصمود أمامها فسقطت، والناس الذين كانوا يعجبون بفروعها الباسقة وأوراقها الجميلة عرفوا الحقيقة. كان منظرها الخارجي جميلاً، أما داخلها فكان مهترئاً فاسداً.

وهذا هو الواقع في حياة البعض منا. إذا حاول القائد المسيحي الإهتمام بالمظهر الخارجي دون تحصين الداخل بالنقاوة والقداسة أمام الله، فإن وضعه يكون ضعيفاً. والإمتحان لابد سيكشف حقيقة طبيعته وأخلاقه. لذا يجب أن يحيا القائد حياة نقية.

كتب بولس الرسول إلى تيموثاوس، عن سبب آخر لنقاوة الأخلاق. "وليتجنّب الإثم كل من يُسمّي اسم المسيح. ولكن في كل بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط، بل من خشب وخزف أيضاً، وتلك للكرامة وهذه للهوان. فإن طهّر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2 تيموثاوس 2: 19- 21).

تظهر هذه الفقرة حقيقة واضحة في بيتنا. فهناك أوانٍ مختلفة لإستعمالات مختلفة. لدينا في البيت إناء للنفايات وآنية أخرى للطعام. وزوجتي لا تخلط بينها ولا تغيّر استعمالها. فالحقيقة الروحية البسيطة هي أن بإمكان الإنسان أن يختار أي إناء يريد أن يكون بين آنية بيت الله. وعليه أن يقرّر هل يكون إناءً للكرامة أم إناءً للهوان. فإن المقياس الذي بموجبه يقرّر الله من يستخدم لأي من مقاصده الأبدية على الأرض، هذا المقياس مبيّن في آخر الفقرة، أي في الآية 21. إن الذين يطهّرون أنفسهم من الصفات المعيبة هم الذين سيكونون آنية للكرامة.

أهدانا السيد آرت عمّ زوجتي قبل عدّة سنوات مجموعة من أكواب البلّور الفاخر احتلّت مكان الصدارة بين الأواني المنزلية في بيتنا، ولم نستعملها إلاّ في المناسبات الخاصّة. فلو فرضنا أنك جئت إلينا يوماً لتزورنا وكنت عطشان. فأدخلتك إلى المطبخ ودعوتك لتشرب بنفسك كوباً من الماء البارد من الحنفية. فإنك بلا شك ستفتح الخزانة لتأخذ كوباً من تلك المجموعة البلّورية، لكنك إذ تجد أن تلك الأكواب يعلوها الغبار من قلَّة الإستعمال، فإنك ستفضّل عليها أي وعاء آخر نظيف وإن لم يكن بلّورياً.

أما لماذا تفعل ذلك، فالسبب واضح بسيط، إذ أن المطلوب هو وعاء نظيف. الله أيضاً يريد حياة نظيفة نقيّة ليستخدمها. إنه يريد "إناء للكرامة مقدَّساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح".

لاحظ كلمة "مقدّس". إن لهذه الكلمة معاني متعدِّدة، لكن من أبرز معانيها هو التخصيص أو التكريس. فالشيء المقدّس هو الموضوع على حدة، المخصّص لشخص أو لغرض معيّن. دعني أوضّح فكرتي. كان لي صديق برتبة ضابط وذو منزلة عالية في سلاح البحرية. وكان قد أُعطي بحكم وظيفته سيارة جيب لإستعماله الخاص، فكانت تلك السيارة دائماً على أهبة الإستعداد، ويعرف أين يجدها عندما يحتاج إليها. والويل لأي ملازم شاب يستعمل تلك السيارة لأغراضه الخاصّة، إذ كانت تلك السيارة مقدّسة وفي خدمة ذلك الضابط ولا يستعملها أحد سواه.

إن القائد الذي يحيا حياة مقدّسة أو مكرّسة للرب. يكون له تأثير على العالم حوله. لقد وعد الله بأن يظهر نفسه للآخرين من خلال القادة.

"فأقدّس اسمي العظيم المنجّس في الأمم، الذي نجّستموه في وسطهم، فتعلم الأمم أني أنا الرب، يقول السيد الرب حين أتقدّس فيك قدّام أعينهم (حزقيال 36: 23).

كثيراً ما يوجّه أفراد الشبيبة أسئلة إلى القائد حول تفاصيل يتحدَّد بها ما هو الصواب وما هو الخطأ. فهم يريدون أن يهتدوا لحياة نقية ولكنهم غير واثقين من بعض النتائج. فالكتاب المقدس لا يتطرّق إلى بعض القضايا الفرعية، بل يركّز على المبادىء الأبدية. وهناك أربعة من هذه المبادىء اُستعملت في حياتي.

بعد أن صرت مؤمناً بالمسيح بقليل من الوقت تبيّن لديّ أن بعض العادات والتصرُّفات في حياتي يجب إبطالها. كنت أعرف أنها خاطئة ولا ترضي الله. وكانت هناك أشياء أخرى غير واضحة ولم أعرف بالضبط إن كانت خاطئة أم لا. إن الكتاب المقدس واضح في ما يتعلق بالتجديف والسرقة والكذب، ولكن هناك بعض الأشياء التفصيلية التي لا يعطي الكتاب المقدس كلمة واضحة عنها. بعد أن بدأت أتساءل عن ذلك بوقت قصير، أعطاني الله ثلاث آيات من الكتاب المقدس، كانت لي عوناً عظيماً خلال السنوات التالية. لقد كانت تلك الآيات تحتوي على "كيف تعرف الصواب من الخطأ". إني أدعو هذه المبادىء 6- 8- 10 لأنها موجودة في رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس والإصحاحات 6 و8 و10. ولكي أعرف إن كان أمر ما صواباً أم خطأ أسأل نفسي الأسئلة التالية:

1- هل الأمر يساعدني؟

كل الأشياء تحلّ لي، لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحلّلي لكن لا يتسلّط عليّ شيء (كورنثوس 6: 12) على أساس هذه الآية يمكن أن أسأل نفسي: هل هذا الأمر يساعدني؟ هل إذا فعلته ينفعني أم يضرُّ بي؟ هل هذا العمل سيساعد فكري وصحتي، أم على العكس سيدفع بي نحو الخطيئة؟ لقد استطعت، بناء على أسئلة كهذه، أن أقرّر ما هو الصواب في ما يختصُ بالسينما، والتلفزيون، وقراءة بعض الكتب والمجلات. صرت أسأل: هل هذه ستساعدني إن شاهدتها أو اقتنيتها؟ هل ستساعدني على النمو روحياً أم ستعيقني وتؤخّرني.

2- هل الأمر سيتسلّط عليّ؟

لقد تبيّن لي ممّا جاء في 1 كورنثوس 6: 12 أن كل ما يمكن أن يستعبدني هو ضار وعليّ أن أتجنّبه. كيف أرضى أن أوقع نفسي في عادة يصعب عليّ أن أتركها فيما بعد؟ لي أصدقاء هم اليوم عبيد للتدخين أو المسكر أو المخدّر، وقد قال بولس الرسول "لا يتسلّط علي شيء".

3- هل الأمر يجعلني عثرة للآخرين؟

"وهكذا إذ تخطئون إلى الأخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف، تخطئون إلى المسيح. لذلك إن كان طعام يُعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد لئلا أُعثر أخي" (1 كورنثوس 8: 12- 13).

هل عملي هذا يُعثر الآخرين؟ ربما كان بإمكاني التغلّب عليه. ولكن هل يؤثر على الذين يرونني أعمله؟ هل يُسبّب لهم مشاكل؟ هل يكون عملي سبباً لإزعاجهم؟ لا يعيش الإنسان في عزلة تامّة. فالناس يرونه وقد يتمثلون به. إن على المسيحي الحقيقي أن يكون قدوة. إن عليه عند كل قول أو عمل أن يفكّر بالآخرين وما وقع أقواله وتصرّفاته عليهم.

4- هل الأمر يمجّد الله؟

"فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كورنثوس 10: 31). هل عملي هذا بالنتيجة يمجّد الله؟ لاحظ أن السؤال الأول في تعليم وستمنستر الكنسي القصير يقول "ما هو الهدف النهائي للإنسان؟". والجواب هو أن الهدف النهائي للإنسان هو تمجيد الله والتنعّم به للأبد.فأنت وأنا نحيا حياتنا لنسبّح مجد الله. وعليه يجب أن أسأل نفسي: هل أستطيع عمل هذا الأمر لمجد الله؟.

هذه المقاطع الثلاثة في الكتاب المقدس واجهت محك الزمن. فهي تحتوي على المبادىء الثابتة من الله الكلي المعرفة والكلي المحبّة.

إذن فالسؤال الذي يطرحه الله هو: ماذا في الداخل؟ فالمظاهر الخارجية تعكس الحياة الداخلية. على القائد أن يحتفظ بإتجاه إلهي أمام رفاقه وأن يطبق باستمرار الآية في 1 يوحنا 1: 9 والقائلة: "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم".


التواضع:

هناك ميّزة هامة في اعتبار الحياة الداخلية للقائد وهي التواضع في مواجهة الموقف حيث يكتفي معظمنا بالبقاء حياً. ارتفع دانيال إلى مركز القوة والنفوذ، وتحت إرشاداته ازدهرت المملكة. وكان بمقدوره إسداء النصح والإرشاد للملك، وخلال كل ذلك بقي خادماً متواضعاً لله. وغالباً عندما كان بإمكانه أن يرفع نفسه، كان يكتفي بإعطاء كل الفضل للرب. فقد أجاب دانيال بحضور الملك: "السرُّ الذي طلبه الملك، لا تقدر الحكماء، ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجّمون على أن يثبتوه للملك. لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار، وقد عرّف الملك نبوخذنصّر ما يكون في الأيام الأخيرة. حكمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا. أنت يا أيها الملك، أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا، وكاشف الأسرار يعرّفك بما يكون. أما أنا فلم يُكشف لي هذا السر لحكمة فيَّ أكثر من كل الأحياء. ولكن لكي يُعرَّف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك" (دانيال 2: 27- 30).

إن الروح المتواضعة هي سمة يتميّز بها الرجل الذي يستخدمه الله. إن الله يطلب هذا من خادمه "أنا الرب هذا إسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات" (أشعيا 42: 8) وعندما ينحرف رجاله عن جادة التواضع ويبدأون بالتفاخر وتعظيم أنفسه يجد الله طريقه لإعادتهم إلى الطريق القويم.

زرت في صيف إحدى السنين حقلاً ارسالياً في الخارج، وهناك ذكر لي أحد المرسلين هذه القصة المدهشة:

قال، أنه عندما سافر ليلتحق بالعمل الإرسالي، اعتقد انه عطيّة الله للعالم وللبلاد التي سافر إليها. كان موقفه ولسان حاله "انتظروا حتى أصلّي وأريكم ماذا سأفعل. سأصحِّح كل الأخطاء واجعل العمل ناجحاً ومنتجاً"، وعلى ذلك وصل وبدأ عمله.

إن الذي حدث هو أن موقف هذا المرسل من زملائه لم يحبِّبه كثيراً إلى قلوبهم. فقد رأوا روحه المتعجرف وابتعدوا عنه. والأسوأ من ذلك هو أن الله أيضاً لم يُسرَّ بأسلوبه ولم يُنجح جهوده. عمَّ الاضطراب حياته وأخفقت كل مخطَّطاته. يقول الكتاب: "كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ، وكونوا جميعاً خاضعين بعضكم لبعض وتسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعين فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القويّة لكي يرفعكم في حينه" (1 بطرس 5: 5- 6) إن الله يقاوم المتكبّر ولا يباركه. من أنت لتجابه الله العظيم؟ وهكذا غمر الفشل والحزن حياة ذلك المرسل.

لكن للقضية نهاية سعيدة. صار المرسل يرى خطأ طريقته فندم على خطيئته. وبدأ يسير بتواضع مع الله فأصبحت حياته مباركة. "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك" (ميخا 6: 8).

هناك فقرات كثيرة في الكتاب المقدس تعالج هذا الموضوع وهاك بعضاً منها:

أمثال 6: 16- 17:

"هذه الستّة يبغضها الرب وسبعة هي مكرهة نفسه: عيون متعالية، إنسان كاذب، أيدٍ سافكة دماً بريئاً" لاحظ العبارة الأولى في هذه القائمة.

أمثال 8: 3:

"مخافة الرب بغض الشرّ. الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت." لاحظ باهتمام الكلمة الأولى في هذه القائمة.

لماذا يقاوم الله بشدّة كل تكبّر وعجرفة؟ هل هي مجرد وصيّة أمر بها الله ولا نجد لها معنى؟ لا، بالطبع لا. كما في كل شيء في الكتاب المقدس، عندما يطلب منا العمل بوصاياه والعيش بحسب مقياسه فهو لأن ذلك يؤول لخيرنا. إن الطريق إلى السعادة هي بأن نحوِّل النظر عن أنفسنا ونعمل لخير الآخرين. إن القائد الروحي لا ينجح إلاّ إذا سار في الحياة بهذا الروح. والكبرياء هي إحدى أدوات الشيطان التي يستخدمها لكي يجعل المؤمنين يركِّزون أنظارهم في أنفسهم بعيداً عن الآخرين.

عندما تحصر اهتمامك في نفسك، تفقد الشعور بحاجات الآخرين. عن هذا يجعل حياتك مصدر أذى لشعور الآخرين وسبب إهانة لهم واستغلال دون أن تدري.فلقد لاحظت ذلك في حياة أشخاص لهم مراكز قيادية وكان من المحزن مراقبة تقهقرهم الروحيّ.

فيلبي 2: 3- 4:

"لا شيء بتحزُّب أو بعجب بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً".

نجد مثلاً واضحاً على تأثير الكبرياء الهدّام في حياة عُزيّا، أحد ملوك يهوذا. "كان عزيّا ابن ست عشرة سنة حين ملك. وملك إثنين وخمسين سنة في أورشليم، واسم أمه يكليّا من أورشليم". (2 أيام 26: 3). كان سلوك هذا الملك في البدء مستقيماً. "كان يطلب الله في أيام زكريا الفاهم بمناظر الله، وفي أيام طلبه الرب أنجحه الله (الآية 5) وأصبح ناجحاً ومشهوراً. وأعطى العمونيون عُزيّا هدايا، وامتد إسمه إلى مدخل مصر لأنه تشدَّد جدّاً (الآية 8). لقد جمع جيوشاً قوية وباركه الله.

ثم أتت بداية تقهقره. "ولما تشدّد ارتفع قلبه إلى الهلاك وخان الرب إلهه ودخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور" (الآية 16). ماذا كانت مشكلته؟ لم يتمكن من السيطرة على نفسه في وقت النجاح. لقد سيطر عليه التكبّر. فضربه الله بالبرص.

على القائد أن يكون قادراً على تحديد أهدافه، ثم تعيين الطرق الواجب إتباعها للوصول لتلك الأهداف. إن التكبُّر هو ألدّ أعدائه في هذا الظرف. فعندما يمتلئ الإنسان من التكبّر، لا يعود قادراً على رؤية الطريق التي توصله للهدف، بل يرى فقط الطريق التي توصله إلى العظمة والهتاف. وعلى نحو ما فالتكبّر يعمي الإنسان فلا يعود يرى الطريق القويم، ويفقد عقله القدرة على التمييز. يرى فقط ما يريده التكبُّر، وهذا يقوده إلى العواقب الوخيمة.

وقد سقط الملك نبوخذنصّر بسبب التكبّر "فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبّراً، انحطَّ عن كرسي ملكه ونزعوا جلاله" (داود 5: 20).

ومن ناحية أخرى يصوّر أشعيا صفة الملك الذي يستخدمه الله. "هكذا قال الرب: السموات كرسيّي والأرض موطئ قدميّ. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي. وكل هذه صنعتها يدي، فكانت كل هذه يقول الرب. وإلى هذا انظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (أشعيا 66: 1- 2) لقد سمعت بيلي غراهام يقول في مناسبات عديدة أنه يعطي كل المجد لله بالنسبة لما يتم من خلال تبشيره. وهو يقرّ بتأكيد بأنه لو نسب المجد لنفسه لقضى على خدمته.

يعتبر روح التكبّر إذن النهاية الحتميّة للقائد. إنه يفسد فعّاليته في خدمة الله لأنه يسبب مرضين خطيرين في الروح. الأول هو الجهل.فالتكبّر يجعل الإنسان يعتقد في نفسه الإكتفاء الذاتي وعدم إمكانية التعلّم. إنه يعميه عن احتياجاته ويبعده عن قبول النصيحة الطيّبة واستشارة الآخرين.

نجد في أكثر أسفار الكتاب المقدس كيف يوجّه الله أنظارنا إلى القيمة العظيمة للمشورة "مقاصد بغير مشورة تبطل، وبكثرة المشيرين تقوم" (أمثال 15: 22).

فالمشورة الروحية لابد أن تكون تلك الموجهّة لمرضاة الله. كثيرون هم الذين يطلبون نصيحة نزيهة غير متحيّزة. المشورة حتى لو أعطيت من شخص يحبك فعلاً، ومهتم لمصلحتك، يمكن أن تكون خاطئة.

إني أذكر كيف ناقشت ذلك مع كريستيان ويس، وهو مرسل ومدير لعمل إرسالي، فقال لي أنه هو نفسه ما كان ليلبّي دعوة الله له ويذهب للقيام بالعمل الإرسالي لو أنه أصغى لنصائح بعض الأصدقاء والأقارب. لقد اعتقد أولئك بأنه كان يخاطر بحياته ويقضي على مستقبله، مع العلم بأن أولئك الأصدقاء كانوا أوفياء ويريدون له الخير.

على القائد أن يضع هذه الأشياء نصب عينيه عندما يأخذ أو يعطي المشورة. إذ يجب عليه أن تكون له قابليّة التعلّم، دون أن يكون ساذجاً. بل يجب عليه أن يزن المشورة التي تعطى له بميزان الكتاب المقدس ولمصلحة ملكوت الله. يجب أن يُبقي قلبه مفتوحاً للآخرين، قابلاً للتعلم. "حيث لا تدبير يسقط الشعب، أما الخلاص فبكثرة المشيرين" (أمثال 11: 14).

أما المرض الثاني الذي يسبّبه التكبُّر فهو عدم الأمان. فالقائد الذي ينظر إلى نفسه كثيراً يهتم كثيراً بمظهره أمام الآخرين. فهو يقيس نفسه باستمرار بمقياس تصرفات الآخرين. إن كلمة الله تبيّن أن هذا موقف غيبيّ سخيف وغير عاقل. "لأننا لا نجترىء أن نعدّ أنفسنا بين قوم من الذين يمدحون أنفسهم، ولا أن نقابل أنفسنا بهم، بل هم إذ يقيسون أنفسهم على أنفسهم ويقابلون أنفسهم بأنفسهم لا يفهمون" (2 كورنثوس 10: 12).

من المفترض أن نستريح في المعرفة المباركة بأنه "قد وضع الله الأعضاء كل واحد منها في الجسد كما أراد". إلا أن القائد قد يكون قلقاً يهتم دائماً بتفكير الآخرين من جهته. إن هذا يجعله قليل التأثير في عمله، إذ لا تكون أنظاره دائماً على الهدف، ويصبح مساعدوه مصدر تهديد له بدلاً من المساعدة.

ولابد من أن ينجم عن ذلك موقفان متطرِّفان. فهو إما أن يؤثر على الآخرين، بخطط طامحة ليريهم ما يستطيع أن يعمله، أو أن يتراجع إلى نقطة الجمود. إذ لو طرح للعمل برنامجاً ضخماً فإنه يكون على الأرجح مدفوعاً بدافع جسدي وينتهي بالنتيجة إلى الفشل.

أذكر مرة أني راقبت رجلاً عمل هذا، فكانت النتيجة كارثة. فقد كان ذلك أشبه بمصنع ضخم يتصاعد منه الغبار، وتدور الآلات بأقصى سرعتها والعمّال منهمكون في التحرك، بينما لم تكن أية نتيجة على صعيد الصناعة وتجميع الأجزاء. ذلك لأن قلق القائد دفع به إلى خلق جو نشاط مؤقت، بينما لم يكن أساس للعمل ولم يُحز على بركة الله.

أما الموقف المتطرّف الآخر فهو بالطبع الخوف من الفشل الذي يدعو إلى الجمود. فبدلاً من أن يقرّ المرء بضعفه ويخطو في الإيمان، يقف ولا يعمل شيئاً. إن بولس الرسول اكتشف ضعفه ولكنه اعتبره مصدر قوّة في عمله للمسيح إذا كان يسير في الإتجاه الصحيح. "من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوّتي في الضعف تُكمَل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح" (2 كورنثوس 12: 8- 9). إن روح التواضع في حياة القائد هو قوّة جبّارة في الله القدير.

كيف يمكن للقائد أن يحتفظ بروح التواضع أمام الله؟ إن هذا يتعلق بالطبع بأشياء كثيرة، ولكن أحدها يبرز أكثر من سواه. لكي يسير الإنسان بتواضع أمام الله يجب أن يحيا حياة تسبيح حقيقيّ. ففي السماء كائنات تحيط بالعرش قائلة "قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء" (رؤيا 4: 8) فلو عاش القائد بروح التسبيح، فسوف يُذكّره هذا بخطئه وضعفه. فبدل أن يجيء التذكير بالخطيئة عن طريق الإستبطان وفحص الإنسان لداخله يجيء نتيجة لقلب مملوء من التمجيد وتسبيح الرب على قوّته: وهذا بدوره يمكن أن يستعمله الله لدفع القائد في الإيمان واثقاً من الوعد "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني" (فيلبي 4: 13).


الإيمان:

أما الميزة الحيوية الثالثة في حياة القائد فهي الإيمان. جاء في الكتاب المقدس: "ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه، لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه" (عبرانيين 11: 6). غالباً ما نسمع أن الله يطلب أن يكون في المؤمنين إيمان يشبه إيمان الأطفال، فما هو ذلك؟ وما هو محتواه؟ سوف نناقش أربع نواحٍ:

1- أولاً:

الإيمان يعني أننا نؤمن أن الله سوف يُدبّر. "فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (فيلبي 4: 19). كان تعييني لأول مرة كعامل مسيحي في مدينة بتسبرغ. سافرت إلى هناك ولم أكن أملك غير ملابسي التي كنت ألبسها. وكانت احتياجاتي كثيرة، وكان علينا أنا وزوجتي أن نستعمل بيتنا للخدمة واستقبال الناس. كانت غرفة الجلوس خالية من الأثاث، ما عدا أريكة أمام الشباك، فقرَّرنا، بالإشتراك مع القسّ كنيث سميث، أن نصلّي طالبين من الله أن يدبِّر لنا طاولتين صغيرتين لتوضعا على طرفي الأريكة، وطاولة ثالثة لتحمل فناجين القهوة، وكرسيّ للزاوية.

وفي صباح اليوم التالي رنَّ جرس الهاتف وطلب أحدهم أن يتكلم مع القس سميث وقال: "يا قس سميث، لا أدري إذا كنت تتذكّرني، ولكنك أخبرتني في المدينة قبل يومين عن كيفية الحصول على الخلاص. لقد انتقل عملي إلى مدينة بفالو في ولاية نيويورك، حيث سأعمل في صقل الزجاج. لقد بعت عدة قطع من أثاث بيتي، إنما بقي لديّ بعض القطع التي لست بحاجة إليها. آمل ألا يكون لكم أي إحراج فيمكنني إعطاؤكم هذه القطع، وهي طاولتان صغيرتان وأخرى للقهوة وكرسيّ للزاوية".

أفلتت السماعة من يد سميث لشدة دهشته، فالتقطتُها وأجبت الرجل قائلاً "سنحضر إليك في الحال". واستأجرنا شاحنة صغيرة، ولم تغب الشمس حتى كانت تلك الطاولات والكرسيّ في غرفتنا.

وكنا نسكن في الناحية الشمالية من المدينة، ونجد صعوبة في الوصول إلى الجامعة الواقعة في الجزء الشرقي من المدينة. كنت أقضي ثماني ساعات يومياً في حرم الجامعة لأبشر الطلاب، وكنت فعلاً بحاجة ماسّة لسيارة. تعوََّدت الإجتماع مع راي جوزيف لنصلّي، وهو طالب في كليّة اللاهوت، وكان موعدنا الساعة الخامسة من صباح كل أربعاء. كنا نصلّي طالبين أن يساعدنا الله في خدمتنا له، وطلبنا أيضاً أن يدبِّر لي سيارة كي أستخدمها في ذهابي إلى الجامعة.

وفي يوم الأربعاء التالي رنَّ جرس الهاتف، وإذ بإحدى سيدات الكنيسة المشيخيّة على الخط، وهي المعلّمة لأحد صفوف الفتيان في مدرسة الأحد. قالت السيدة أن المدعو بيل نيوتن قد اشترى سيارة جديدة. وإذ لم يُعرض عليه كثمن لسيارته القديمة غير مبلغ زهيد، قرّر أن يهبها لشخص قد يكون بحاجة ماسّة لسيارة. وسألتني السيدة إذا كنت أقبل تلك السيارة كهديّة، فقلت: "مع الشكر، فقد كنت أصلّي من أجل ذلك". فأجابتني: "لقد استجاب الله صلاتك".

وهنا أضيف أن بيل نيوتن وأخاه أدي لم يكتفيا بإعطائنا السيارة بل إن طلاب الصف الآخرين جمعوا في ما بينهم تبرعاً لدفع مبلغ 125 دولاراً لإصلاح المحرك، وأعطونا فوق ذلك 50 دولاراً للوقود.

بعد انتقالي من الساحل الغربي إلى بتسبرغ، تبين لي أن ملابسي من طراز لا يتماشى مع تلك المدرسة الشرقية المحافظة. فقد كان الطلاب يرتدون بذلات رمادية غامقة وربطات عنق مقلّمة بالأسود والرمادي، وأحذية وجوارب سوداء، وفي كل يوم اثنين نتناول طعام العشاء في أحد بيوت الأخوة، ونقرأ الإنجيل. في وسط هذا البحر من الألوان السوداء والرمادية كنت أبدو مستهجن الشكل ببذلتي ذات اللون الأخضر الفاتح، ورباط العنق الملوّن وحذائي الأصفر.

وعليه فقد بدأت بالصلاة من أجل ملابسي وفي غضون أسبوع دبّر لي الله بذلة غامقة ملائمة تماماً. وفي الأسبوع التالي كنت مع زوجتي نساعد سيدة مسنّة في عمل روتيني في منزلها. وعندما انتهينا وقمنا لننصرف دسَّت تلك السيدة تحت إبطي كيساً من الورق، وعند وصولي إلى المنزل، وجدت في هذا الكيس حذاء أسود ملائماً تماماً.

كنت بحاجة أيضاً إلى ساعة، لأن ساعتي كسرها بعض الأولاد في مدرسة الكتاب المقدس الصيفيّة. وبما أنه لم تكن لديّ ساعة فكنت كثيراً ما أتأخر عن مواعيدي، وكنت أعلم أن هذا لا يجوز، فصلّيت طالباً أن يدبِّر الله هذا الأمر.

ودُعيت يوماً لأتكلم لصف يجتمع لدرس الكتاب المقدس مساء كل سبت، وكان هذا الصف قد شكّله في أثناء خدمته الدكتور دونالد ج. بارنهاوس. بعد ذلك وفي مساء الأربعاء التالي جاء إلى بيتنا أحد أفراد ذلك الصف وكان يحمل إلينا هديّة شكر. كانت الهديّة في علبة من الورق المقوى في حجم "دليل هاي للكتاب المقدس" فسررت ظاناً أن الهديّة هي هذا الكتاب القيِّم. وعندما فتحت العلبة وجدت أن الهدية ساعة أوميغا أوتوماتيكية، وهي هذه الساعة التي لا تزال معي إلى اليوم. لقد أظهر الله لي آنذاك، أنا القائد المسيحي الشاب، وبيّن ذلك مراراً أنه مستعدّ وراغب وقادر على تدبير احتياجاتي.

2- وثانياً:

الإيمان يعني أن نؤمن أن كل ما نفعله من أجل الله سوف ينجح. "فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح" (مزمور 1: 3).

لنا قطعة أرض يجري في وسطها جدول، وهذا الجدول تحيط به الأعشاب والأشجار والأزهار البرية. ولزوجتي هناك بستان أيضاً هو موضع فخرها وفرحها. وقد غرست فيه نباتات وأزهاراً، وتواصل العناية بها فتسقيها وتضع لها أسمدة لتقويتها. لكن زوجتي لا تبذل جهداً في العناية بالأشجار والأزهار البرية. إن الذي يهمّها تلك النباتات والأزهار التي زرعتها بيدها. والكتاب المقدس يعلمنا بأننا لسنا نباتات بريّة تنمو هنا وهناك، بل نحن كرمٌ غرس أشجاره أبونا السماوي، وأننا دائماً تحت رعايته وحمايته، تحيط بنا أنهار محبّته ورحمته ونعمته.

يؤكد صاحب المزامير هذه الحقيقة مرة أخرى إذ يقول "لا يدع رجلك تزلّ، لا ينعس حافظك. إنه لا ينعس ولا ينام... .... الرب حافظك، الرب ظلّ لك عن يدك اليمنى" (مزمور 121: 3- 5).

لقد قرأت مؤخراً عن حدث في حياة قباطنة البحر الذي عمل في زمن المراكب الشراعية. فقد كان يقطع بسفينته المحيط من ليفربول في غرب انكلترا إلى نيويورك، عندما هبّت عاصفة شديدة، وكانت الأمواج والرياح تعصف بقوة والسفينة تتمايل بعنف وشدّة.

وأصاب المسافرين رعب شديد، فارتدوا أطواق النجاة واستعدوا لأسوأ الإحتمالات. وكان للقبطان إبنة في الثامنة من عمرها ترافقه في تلك السفرة، وقد أفاقت من نومها على الضجّة، وصرخت بذعر سائلة ما الخبر؟ فأجابوها بأن العاصفة جعلت السفينة في حالة الخطر الشديد. فسألت: أين أبي؟ هل هو الذي يتولّى القيادة؟ فأجابوها: نعم. فابتسمت وألقت برأسها على الوسادة واستغرقت في النوم بعد دقائق. هذا هو إيمان الأطفال الذي يرضي الله. إن وعده يؤكد لنا أنه يحفظ أرواحنا وأنه لا ينعس ولا ينام.

3- ويعني الإيمان ثالثاً

أن نؤمن أن الله أهل لثقتنا المطلقة. رأيت هذا ممثلاً مرة في إبني الأصغر. لقد كبر فطلب مني أن أشتري له دراجة أكبر من دراجته الصغيرة. فذهبنا إلى محل بيع الدراجات، وألقينا نظرة على محتوياته. لم يتذمر الطفل ولم ينتحب عندما ناقشنا إمكانية شراء أو عدم شراء الدراجة. لقد ظلّ هادئاً وكأنه يقول: "إن ما تراه هو الأفضل يا أبي".

"بارٌّ أنت يا رب وأحكامك مستقيمة. عدلاً أمرت بشهاداتك وحقاً إلى الغاية" (مزمور 119: 137- 138). لم يعمل الله قط أي شيء خطأ. فإن ما يطلب منا أن نؤمن به ونعمله هو بالتأكيد حقّ. إن كلمته هي أهل للثقة التامّة، فما يقرِّره وكيفما يرشد وكل ما يقوله هو حق. إن وعوده ثابتة وإرادته حسنة مقبولة وكاملة.

بالإضافة إلى الإعتماد على وعود الله وحمايته وصدقه يمكننا تمييز شعاع آخر صادر من مزايا الله ويرتبط بالإيمان. إنه قوة الله. في هذا الصيف كنت أتأمل في قصّة الأب والطفل كما وردت في إنجيل مرقس الإصحاح 9. كان يسوع مع ثلاثة من تلاميذه عائدين من جبل التجلّي فوجدوا مشهداً مروّعاً. فهناك رجل أحضر ابنه إلى بعض تلاميذ يسوع كي يشفوه ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك. فسأل يسوع الرجل منذ متى أصابه ذلك المرض فأجاب الرجل منذ صباه (الآية 21) وأضاف "أنه كثيراً ما ألقاه في النار أو في الماء ليهلكه، لكن إن كنت تستطيع شيئاً فتحنّن علينا وأعنّا" (الآية 22) لاحظ الكلمة "شيئاً"، فإن الرجل كان مستعداً، للقبول بأي قدر من المساعدة.

ولكن يسوع أجابه: "إن كنت تستطيع أن تؤمن كل شيء مستطاع للمؤمن" (الآية 23).

كان جواب يسوع مدهشاً، إذ أن الرجل قال "إن كنت تستطيع" وكان جواب يسوع "إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن". بينما الرجل يطلب "شيئاً" يجيب يسوع "كل شيء". ليست المشكلة في ما إذا كان يسوع يقدر، أو إلى أي مدى تبلغ قدرته. المشكلة هي في مدى إيماننا. لقد قال يسوع لإثنين من العميان في مناسبة أخرى "بحسب إيمانكما ليكن لكما" (متى 9: 29).

إن الحياة الداخلية في القائد المسيحي هي التي تقرر نجاحه أو فشله. فإذا لم يحفظ نفسه طاهراً متواضعاً مؤمناً فسيجد نفسه عاجلاً أم آجلاً في خطر السقوط. لكنه إذا صمّم على أن يكون الرجل الذي يُرضي الله فإن "عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه" (2 أيام 16: 9) بنعمة الله تستطيع أن تكون رجلاً كهذا.

  • عدد الزيارات: 11040