Skip to main content

الخروج الثالث: تألم الرب يسوع خارج أبواب أورشليم

انسحاب المجد خارجاً

ولما مات رئيس الحياة ورب المجد، انسحب المجد من وسطهم مرة أخرى- خرج الرب خارج المحلة- خارج أورشليم، خارج المدينة المقدسة وخارج ذلك الشعب. بهذا أعني أن المجد انسحب خارجاً عندما تألم الرب خارج الباب، وكان ذلك خروجاً للمرة الثالثة. وثلاثة هو عدد أكثر مما يلزم للشهادة الكاملة. تكون الشهادة صادقة على فم شاهدين، لكن هنا نجد شهادة مثلوثة على أن قلب الإنسان ليس فيه شيء لله. إذ ليس فقط لما أخذ الناموس كسره. بل أيضاً للأسف اهتمام الجسد هو عداوة لله. وكان الصليب هو كل ما قدموه للمخلص المُنقذ. ولقد انسحب مجد الله خارج المحلة عندما تألم الرب يسوع خارج الباب. والآن لسنا نجد رفضاً صريحاً وحاسماً لذلك الشعب فقط، بل أيضاً نجد قضاءً صريحاً وحاسماً على الإنسان كإنسان. لقد ظهر أن الإنسان فاجرٌ، وظهر أنه بلا قوة في ذاته، وظهر أن اهتمام طبيعته البشرية عداوة لله، وهذه هي الدينونة بأركانها الثلاثة.


انتهاء اليهودية وإعلان الإنجيل

وهكذا تنتهي بالطبع الديانة اليهودية. ولماذا؟ لأن اليهودية هي الديانة التي فيها يطلب الله شيئاً لعله يجده في الإنسان. صحيح يعرف الله مُسبقاً ويعرف تماماً أن لا شيء لله في الإنسان، ويعرف كيف ينتهي المطاف. لقد نطق بحكمه على الإنسان من قبل أن يكون هناك ناموس على الإطلاق. لقد قال عنه "إن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تكوين6: 5) وإنما كان الامتحان لإبراز هذه الحقيقة، والإنسان لم يُرد أن يصدقها، لكنه قسراً جعلها تظهر اختبارياً. وكما قلنا فإن الديانة الناموسية التي رُتبت لأجل امتحانه- التي وُضعت لتكون واسطة لإثبات بره، إن أمكن ذلك، انتهت. وكان لابد أن تذهب وتنتهي (لأنها أظهرت وكشفت عجزه المطلق ولم تُقدم له أية قوة على الإطلاق). كان لابد أن تنتهي لأنه لم يكن في الإنسان شيء لله تبرزه هذه الديانة غير ذلك الذي حكم عليه الله قبل هذه الديانة بزمان طويل وهو "إن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تكوين6: 5).

والآن، لنُلق نظرة فاحصة على تلك الديانة اليهودية. لقد كان فيها كل شيء يخلب قلب الإنسان الطبيعي. كان فيها كل شيء يجذب العيون مثل الطقوس والمراسم بمظاهرها اللامعة. وكان فيها كل شيء يجذب الآذان مثل أصوات آلات الغناء وألحان التسابيح. وكان فيها كل شيء يجعل الإنسان متديناً لأن جميع العلاقات الطبيعية كانت تُحرضه على ذلك فالأمة كلها، الأبناء والآباء، الشعب والقضاة كان مطلوب منهم أن يتبعوا الرب معاً. كان فيها كل دافع مؤثر على الإنسان. فالعواطف الطبيعية ومقتضيات العرفان بجميل الله عليهم وإحسانه إليهم بل ومصلحتهم الذاتية، لأنهم إذا هم أطاعوا تباركوا في السلة وفي المخزن، في المعجن وفي المعصرة. وإن كانت لهم آذان لتسمع وإن كان لهم قلب ليفهم وإن كان فيهم أي شيء لله، لصنع الله منهم ثمراً لنفسه. لأن كل شيء انتهى بالفشل. وكان الصليب هو حكم القضاء الرهيب على الإنسان بأنه ليس فيه أي من طبيعته البشرية أي شيء صالح. ولا بر وأكثر في ذلك لا قوة على الإطلاق. وأكثر وأكثر، لا جواب في قلبه على نعمة الله الكاملة. لقد صلب الإنسان رب المجد.

ومن هنا نفهم كيف أن الله احتمل بصبر أولئك الذين تشبثوا باليهودية رغم أنه قد أصدر حكمه عليها، وكيف كان بطيئاً في قطع كل الروابط التي كانت تشدهم إلى تلك الديانة. لكن وبالضرورة حتماً كان لابد أن يأتي الوقت الذي فيه تقطع هذه الروابط إلى الأبد. كان لابد أن يأتي وقت الفطام. وعند فطام اسحق مثلاً طُردت بعيداً طبيعة إسماعيل. إسماعيل وأمه كان يجب أن يُطردا من البيت. الناموس وبنو الناموس ينبغي أن يذهبوا. والآن كلمة الرسول لأولئك المؤمنين من العبرانيين تقول "لنخرج إذاً إليه خارج المحلة" بلا تأخير وبلا إبطاء. لنحس الأمر الآن. لنخرج كلنا معاً. والرب قد خرج خارجاً، فلنخرج إذاً خارج هذه الأطلال الخربة.


خراب الإنسان المطلق

والآن لنطبق هذا على حالتنا، فكما قلنا لم يكن هذا حكم إسرائيل وحده. هل نحن أفضل؟ هكذا يسأل الرسول. لقد أخذ الله تلك الأمة وتعامل معها وفقاً لأحكام الناموس لكن لماذا، ولأجل أي سبب؟ "نحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس". ولأجل أي سبب؟ "لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله" (رومية3: 19) فلم يكن السبب لكي يصير إسرائيل وحده تحت قصاص من الله بل كل العالم أيضاً. وفي الواقع لم يكن الصليب جريمة إسرائيل وحدهم. ولم يكن اليهود وحدهم هم الذين صلبوا الرب يسوع، بل الأمم أيضاً. كان الصليب كما عبّر عنه الرب نفسه وهو يتطلع إليه هو "دينونة هذا العالم". فهو كان حكم دينونة هذا العالم وليس دينونة إسرائيل وحدهم.


دينونة مطلقة أو نعمة مطلقة

فإذا كان الإنسان قد رُفض هكذا بالتمام، وانتهى أمره كلية من جهة إمكانية وجود شيء فيه يصلح لله فماذا بقي؟ الجواب يبقى أمامه إما دينونة مطلقة وإما نعمة مطلقة ولا شيء آخر ينفع معه. ولا شيء وسط بين الاثنين. وهذه هي الحالة التي عليها الإنسان الآن. وليس كما يزعم الناس أنهم الآن تحت الاختبار ولا يعرفون ماذا يكون المآل. لكن الأمر صريح ولا غموض فيه. إن الناس ليسوا تحت الاختبار- لقد كانوا تحت الاختبار، وكانت النتيجة أنه "ليس بار ليس ولا أحد" (رومية3: 10و 11و 12) هذه هي دينونة العالم والإنسان كبشر، أسير مقيد تحت الدينونة وتحت الحكم. ليس هو أمام المحاكمة بل هو تحت الحكم فعلاً أي محكوم عليه.

ولكن ما أعظم إنجيل الله!! إنه إنجيل رحمة الله في وسط كل هذه الظروف التعسة. والسؤال الوحيد الآن هو: هل يقبل الإنسان البائس نعمة الله؟ ليس السؤال هو عما إذا كان الإنسان مُستذنباً أثيماً، لأن كل الناس خطاة أثمة مُستذنبون لدى الله. والمسألة ليست هي ما إذا كانت للإنسان فرصة أخرى للامتحان، لأن ليس هناك حجة جديدة يدفع بها الإنسان التهمة عن نفسه، بل المسألة الآن هي أن الله في نعمته الغنية- تبارك اسمه- يطلب الإنسان الهالك- الإنسان الفاجر الذي بلا قوة- الإنسان الخاطئ والعدو لله. هذا ما يقرره الرسول بولس الذي يعتبر نموذجاً تحققت فيه كل هذه التعبيرات حين يقول "لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" وأيضاً "ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رومية5: 8، 10) ههنا يتلاقى إنجيل نعمة الله مع الفُجار الضعفاء والأعداء. هذه النعمة المباركة مقدمة لكل من يقبلها.

  • عدد الزيارات: 9342