Skip to main content

الفصل السابع: الألم في اختبار الفرد

لماذا يسمح الله بآلام أولاده؟ ولماذا يرضى بآلام الأبرياء؟ لا شك في أن الألم هو القاسم المشترك الأعظم في هذا الوجود، وهو الميراث القديم الذي لا بد أن يرثه كل فرد، ومع أن طبيعة البشر تنفر من الألم، وتهرب من العذاب إلا أن الألم هو "الطبيب الأعظم" للإنسانية في هذه الأرض.

يقيناً أن الحيرة تأخذنا عندما نفكر في كثير من الآلام التي تصادف المؤمنين القديسين، فنقف أمامها في تأمل عميق، فلماذا يرضى السيد له المجد أن يموت بطرس الرسول منكس الرأس على صليب، ويقول له "لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء. ولكن متى شخت فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يمجد الله بها" يو 21: 18 و 19، بل لماذا يسمح الرب أن يقتل بولس رسول الأمم والجهاد في روما بسيف نيرون؟ وأن تنتهي حياة يعقوب الرسول بسيف هيرودس الماجن؟!

قالت لي سيدة رقيقة القلب، ما زالت في سن الشباب مات زوجها في حادث أليم، قالت لي والدموع تملأ عينيها: لماذا سمح الله بأن يموت رجلي وهو ما زال في ربيع العمر؟! والسؤال لماذا يسمح الله؟ هو السؤال الخالد على جميع الشفاه! هو سؤال من فقد ماله، أو زوجه، أو عياله، أو صحته، أو مركزه، هو سؤال الفاشل في الحياة، والفاشل في الامتحانات والدراسات!!

ولا جدال في أن الكتاب المقدس يريق كثيراً من النور على آلام البشر، ويعلن لماذا يسمح الله بهذه الآلام؟

1- إن الله يسمح بآلامنا حتى نعود إليه ونرتاح بين يديه:

لنسمع كلمة الرب في سفر هوشع وهو يتحدث إلى إسرائيل المرتد "لأن أمهم قد زنت – أي خانت الرب – التي حبلت بهم صنعت خزياً. لأنها قالت أذهب وراء محبي الذين يعطون خبزي ومائي صوفي وكتاني زيتي وأشربتي. لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها فتتبع محبيها ولا تدركهم وتفتش عليهم ولا تجدهم. فنقول أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذٍ كان خير لي من الآن" هوشع 2: 5 – 7 .

أجل، لقد وضع الله الأشواك في طريقي أولاده، حتى يعودوا إليه، بل أنه أكثر من ذلك بنى حائط هذا الطريق حتى لا يجدوا المسالك التي تبعدهم عنه، وهذا ما نقرأه عن الملك منسي، الذي عندما أغراه سلطان الملك، دنس هيكل الله بالأصنام، وعندئذٍ استخدم الله الألم لإرجاعه فأرسل إليه جنود ملك أشور "فأخذوا منسي بخزامة وقيدوه بسلاسل نحاس وذهبوا به إلى بابل. ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه" 2 أخبار 33: 11، فما أجمل أن نشكر الله في آلامنا أضعاف ما نشكره في مسراتنا، لأن الآلام هي طريق عودتنا إليه كما نقرأ عن يهوذا وبنيامين أنهم "رجعوا عندما تضايقوا إلى الرب" 2 أخبار 15: 4

2- إن الله يسمح بآلامنا حتى تلمع حياتنا وتخلو من الزغل:

أتدري ما هو أصل الماس؟ ذلك الحجر الكريم اللامع الخلاب الذي يجذب الأبصار بلمعانه؟! إن هذا الحجر هو كربون نقي، أي فحم متبلور بلورات مختلفة، كلها مشتقة من الشكل المكعب ... إن الماس هو ذات الفحم الذي يستعمل وقوداً في المنازل والمصانع، غير أن هذا الفحم قد انصهر في باطن الأرض في درجة حرارة عالية جداً، فتبلور وصار نقياً ... صار ألماساً.

ومرات يصهر الرب حياتنا ليخرج الزغل منها. ويجعل منا آنية للكرامة نافعة لخدمته "لأنه مثل نار الممحص ومثل أشنان القصار فيجلس ممحصاً ومنقياً الفضة فينفي بني لاوي ويصفيهم كالذهب والفضة ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر" ملاخي 3: 2 و 3

ومن ذا الذي أظهر لمعان حياة الفتية الثلاثة ومحبتهم للرب سوى أتون النار المتقدة سبعة أضعاف؟! ومن ذا الذي أعلن لمعان حياة بولس سوى الشوكة التي أعطاه إياها الله؟

هل تعرف كيف تصنع القوقعة اللآلئ؟ تدخل حبة رمل إلى داخل الصدفة التي تحتويها وتؤلم جسم القوقعة الحساس، فبدلاً من أن تبكي القوقعة متذمرة من شدة آلامها، تبدأ في إفراز مادة من جسدها في مكان الألم، وتتبلور هذه المادة قليلاً قليلاً إلى أن تصير لؤلؤة ....

حدثنا دكتور ستانلي جونس في كتابه "المسيح والآلام البشرية" عن رجل شغل منصباً من أرقى المناصب في الهند، سئل مرة عن الجامعة التي تخرج منها فقال "جامعة الألم" فقد حالت ظروفه دون الاستمرار في العلم، لكن الله أدخله مدرسة الألم وعلمه أفضل الدروس! وما زال الرب يعمل هذا مع كثيرين وكثيرات من أولاده وبناته.

3- إن الله يسمح بآلامنا حتى يظهر إيماننا للعالم المحيط بنا:

يكتب بولس الرسول إلى الفليبيين قائلاً "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن ترمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله" فيلبي 1: 29 ولقد كانت آلام الشهداء بغير شك سبباً في بناء الكنيسة على هذه الأرض، لأنها أعلنت إيمان هؤلاء الأبطال أمام المضطهدين الأشرار.

يحدثنا مستر فوكس في كتابه "الشهداء" عن سيدة شابة اسمها "بربتيوا Perpetua" في السادسة والعشرين من عمرها. آمنت بالرب يسوع المسيح، فحكمت عليها السلطات الوثنية بأن تطرح للحيوانات المفترسة جزاء إيمانها، ويصورها الكاتب الجليل، وطفلها الصغير الجميل على صدرها، ووالدها الشيخ الوقور يتوسل إليها أن تنكر إيمانها لأجل خاطر طفلها، وأبيها، وتقدم القرابين لآلهة الرومان. لكن "بربتيوا" بدلاً من أن تتخلى عن فاديها تخلت عن ابنها وأبيها ووقفت تنتظر اللحظة التي تدخل فيها إلى ساحة الموت!!

لكن لماذا رضي الله لهذه الفتاة، ولعشرات الشهداء معها أن يموتوا بين براثن الأسود؟! إن السر في هذا كله بحسب اعتقادي هو أن الله أراد أن يقول للناس أنه يوجد أشخاص عاشوا مثلهم على الأرض أحبوه أكثر من أولادهم، ومن أنفسهم، وماتوا باسمين لكي يحيوا معه في المجد الأسنى.

وهكذا يقود الله الكثيرين بواسطة الإيمان الظافر المنتصر إلى صليب محبته واختبار خلاصه.

فالنصرة على الألم، هي انتصار لله في قديسيه، وهل يمكن أن نرى منظراً كمنظر استفانوس الشهيد الأول في الكنيسة المسيحية، والعيون الغاضبة تنظر إليه، وأسنان سامعيه تصر من فرط حنقهم عليه، وهو يشخص إلى السماء، وهو ممتلئ من الروح القدس، فيرى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله، ولا نمتلئ دهشة؟! بل هل يمكن أن نتأمل هذا الشاب الظافر والأشرار يرجمونه، والحجارة تمزق جسده وهو يدعو ويقول "يا رب لا تقم لهم هذه الخطية" أع 7: 60 ولا تمتلئ أفواهنا هتافاً لمجد الله.

يقيناً أن الآلام تظهر إيمان المؤمنين أكثر من آلاف المواعظ ومئات الترانيم!!

منذ وقت ليس ببعيد ذكرت إحدى الصحف الكبرى قصة امرأة اسمها "دورتيا كوبنج" قال لها الأطباء إنها لن تعيش طويلاً وكانت تتألم من مرض عسير الشفاء، لكن المرأة بدلاً من أن تستسلم للدموع أو تقضي بقية حياتها في الأحزان نظرت إلى الله ووضعت كتاباً هاماً أسمته "فن الحياة" وسجلت في هذا الكتاب خلاصة اختباراتها في معاملة الناس، ونظرتها إليهم وهي على شاطئ الأبدية!! وبهذه الكيفية انتصر الله في هذه المرأة العظيمة التي حولت آلامها بنعمته إلى بركات" .... وذكرت صحيفة أخرى منذ وقت قصير قصة تلك النبيلة الإنجليزية الكونتس أوف وارنلي، فقد فقدت هذه السيدة نور عينها اليمنى منذ ولادتها، وعرضها والدها على مئات من أطباء العيون، فأجمعوا على أن نور العين اليمنى لن يعود، ثم تزوجت الكونتس ومرضت ابنتها الصغيرة بالشلل، وأجمع الأطباء على أنه لا أمل في شفائها، وفي غمرة آلام هذه الأم المسكينة راحت تتطلع إلى السماء وتقول: يا رب، لقد أخذت عيني، فلا تأخذ قلبي؟ فإن ابنتي هي قلبي! يا رب أنا مؤمنة بك واثقة بمحبتك برغم كل ما أصابني، فلا تهز إيماني ... واستمرت تدعو الله حوالي العام! فجأة قال لها الأطباء: لقد حدثت معجزة، إن ابنتك ستشفى! وما كادت الأم تسمع كلام الطبيب حتى فتحت النافذة وتطلعت إلى السماء لتشكر الله .... ولما أغلقت النافذة: أحست بشيء غريب! أحست كأن الغشاوة التي على عينها اليمنى ترتفع ببطء ... وبدأت ترى بهذه العين خيالات، ثم أشباحاً، ثم أجساماً، ثم بدأت تميز هذه الأجسام ثم عاد لها البصر كاملاً ... وقال الناس: معجزة ومجدوا الله. لقد وضعت هذه المرأة إيمانها في القدير، ولم يمنعها الألم من الثقة في محبته فحول الله آلامها إلى مسرات، وأعلن لمعان إيمانها للناس.

4- إن الله يسمح بآلامنا ليدربنا على فضيلة الصبر ويعدنا لمركز أسمى في هذه الحياة:

هذا هو ما يقرره يعقوب الرسول في كلماته "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً. وأما الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء" يعقوب 1: 2 – 4 وفي الواقع أننا نحتاج إلى الصبر في عصر الكهرباء والذرة الذي نعيش فيه كما يقول كاتب العبرانيين "لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد" وأين نتعلم الصبر إلا في مدرسة الألم؟! عندما يوقف الله عجلة حياتنا بمرض مفاجئ؟ أو يوقف اتساع آمالنا البشرية بفشل غير منتظر، في التجارة، أو الزراعة، أو الامتحان، أو الحياة العائلية.

لقد كان يوسف شاباً مدللاً في بيت أبيه، فاحتاج أن يتدرب على الصبر في مدرسة الألم فوضعه الله في بيت السجن ليصنع منه شخصية عظيمة من شخصيات التاريخ.

وكان أيوب رجلاً تقياً، لكنه احتاج أن يتعلم الصبر فتعلمه في غمرة أحزانه حتى صار مثالاً للصابرين قال عنه يعقوب "قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب".

ويحدثنا التاريخ عن سيدة أمريكية اسمها فرنسيز ماتيلدا" تزوجت من رجل عبقري هو الكاتب "روبرت لويس ستيفنسون" ذلك الرجل الذي ألف أجمل الكتب، وكان الرجل يوم تزوجته فرنسيز مصاباً بالتدرن الرئوي ذلك المرض المخيف الذي يأكل جسم الإنسان لكن المرأة العظيمة لم تعتبر نفسها يوم تزوجت هذا الرجل المريض فريسة أخطأت الاختيار ولم تتذمر؛ ولم تتراجع، بل أخلصت لزوجها كزوجة وفية أمينة ورعت ذلك الرجل وسهرت على صحته، وشرعت تطوف به البحار وتصعد به الجبال، إلى أن أبل من مرضه وكتب للعالم كتبه الباقية الأثر، اسمع كلمات الرجل الذي سجل فضل زوجته العظيمة عليه في آخر كتبه، إنه يهدي إليها الكتاب بهذه العبارات "خذي لك هذه الكتابة فإنها من حقك، إذ من غيرك الذي صقل السيف، ونفخ في الفحم الهامد، ورفع الدرع، وزهد في الثناء، وسخا بالرأي والنصيحة ... من سواك".

فيا أخي هل أنت فريسة لآلامك، أم أنت بطل منتصر ظافر بقوة الله، ويا أختي هل حياتك مجرد مأساة مريرة، أم أنت قد حولت دموعك إلى خدمات؟! ليقل كل متألم حزين "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"

ولنذكر دائماً في تجاربنا هذه الكلمات المشجعة التي قالها رب المجد لبطرس "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد يو 13: 7

5- إن الله يسمح بآلامنا ليزيد في أمجادنا:

هذه كلمات بولس الرسول "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً، لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً" 2 كو 4: 16 و 17 "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" رو 8: 18

فعلى قدر آلامنا في هذه الأرض تزداد أمجادنا في السماء "إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" والكثيرون منا عندما يرفع ستار المنور ويروا غير المنظور، سيتمنون لو أن آلامهم تضاعفت وهم في الجسد؛ لكي تتضاعف مسراتهم في المجد.

فيا نفسي اصبري في عالم الدموع

وسيري معتمدة على ذراعي المسيح يسوع

فبعد قليل جداً سينتهي كل اختبار مرير

عندما يأتي مخلصك الوطيد

سر الاختبار المجيد.

  • عدد الزيارات: 7276