Skip to main content

دعوة رفقة

تكوين 24

رأينا في تقديم إسحق في إصحاح 22 رمزاً بديعاً لموت وقيامة المسيح، كما رأينا في موت سارة ودفنها في إصحاح 23 إشارة إلى وضع إسرائيل شعب الله الأرضي جانباً الأمر الذي تم بعد رفضهم للمسيح مباشرة، ونرى الآن في هذا الإصحاح صورة جميلة لدعوة الكنيسة خلال تلك الفترة.

ثلاث حقائق عظيمة

نحن نعلم أنه بعد ما مات المسيح وقام صعد إلى المجد آخذاً مكانه عن يمين الله، وتبع ذلك هذا الحدث العظيم إذ جاء الروح القدس الأقنوم الإلهي ليمكث مع المؤمنين ويسكن فيهم هنا على الأرض، ومن هنا تتضح لنا ثلاث حقائق عظيمة يتميز بها الوقت الحاضر وهي: أولاً – وجود إنسان في المجد هو المسيح يسوع. ثانياً – وجود أقنوم إلهي على الأرض هو الروح القدس. ثالثاً – غرض الروح القدس من مجيئه لتكوين الكنيسة وقيادتها في العالم حتى يجيء بها إلى المسيح الممجد.

مشهد رائع

هذه الحقائق الهامة تستعرض أمامنا بكيفية رمزية في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين، وترتكز أهمية هذا الإصحاح على ما يقدمه لنا من عمل كل أقنوم من الأقانيم الإلهية الثلاثة في الوقت الحاضر. نحن إذا نظرنا حوالينا نرى شر العالم المتزايد، كما نرى فشل المؤمنين وضعفهم، وعندما نتطلع إلى هذا التشويش الرهيب فإنها تسبب لنا الحزن والأسى، ولكن إذ ننظر إلى الصورة التي أمامنا في هذا الإصحاح نرى بكيفية عجيبة، أن الله ماض في تنفيذ مقاصده الخاصة. توجد فصول كتابية أخرى تستعرض أمامنا إيمان بعض رجال الله لتشجيعنا، كما توجد فصول أخرى تكلمنا عن فشلهم أيضاً وذلك لتحذيرنا، لكن في هذا الإصحاح الذي أمامنا نرى لبركتنا ما يعمله الله لمجد المسيح على الرغم مما يرى فينا أو العالم بل وعلى الرغم من محاولات العدو الكثيرة. وإذ نرى عمل الله، والغرض الذي يعمل لأجله، وإنه لابد أن يتمم كل ما قصده، عند ذلك تحفظ نفوسنا في حالة الهدوء، في وسط كل الاضطرابات التي تحيط بنا، بل نُرَى فاهمين فكر الله، وهذا كفيل بأن يخلصنا من كل يأس وكل فشل نتعرض له، بل أكثر من ذلك يخلصنا من بذل جهودنا في أنشطة كثيرة لفائدة العالم ولكنها خارج دائرة مقاصد الله.

وفي هذه القصة التي أمامنا نرى ثلاثة موضوعات رئيسية: أولاً – توجيهات إبراهيم لعبده (ع 1 - 9). ثانياً – مهمة العبد في أرام النهرين (ع 10 - 61). ثالثاً – ملاقاة إسحق ورفقة في أرض كنعان (ع 62 - 67).

قصد الآب

إن توجيهات إبراهيم لعبده توضح لنا مشورات الآب من جهة ابنه، وما يعمله الله في العالم اليوم بواسطة الروح القدس لتنفيذ هذه المقاصد.

نتعلم أولاً أن الغرض الأسمى من إرسالية العبد، كان كما قال له إبراهيم "تأخذ زوجة لابني". وهكذا مضى العبد إلى أرام النهرين، ولم يكن أمامه سوى هذا الغرض الواحد، وإذ وجد هذه الزوجة وأحضرها إلى إسحق انتهت مهمته في أرام النهرين. إذن لم يكن جزءاً من مهمة العبد أن يتدخل في شئون أهل تلك البلاد سياسية كانت أم اجتماعية، ومن هذا نفهم أن وجود الروح القدس هنا ليس لإصلاح العالم أو تحسينه أو لإيجاد السلام بين الأمم أو لتجديد العالم. إنه ليس هنا لإنصاف الفقراء، أو لخلاص الإنسان من المرض والحاجة والبؤس، ليس هذا هو غرض الروح القدس من وجوده هنا.

إنه يوجد واحد هو الذي سيأتي في الوقت المعين بالسلام والبركة للعالم. لقد كان يوماً هنا على الأرض، وبرهن على أن له القوة وفيه النعمة لخلاص الإنسان من كل بؤس، ولكن مع الأسف نحن الذين رفعناه فوق الصليب، وهو تبارك اسمه مضى إلى المجد تاركاً البؤس في العالم، لكنه سيأتي ثانية بالبركة. وهو الآن في المجد، والروح القدس هنا ليأتي بعروس للمسيح، عروس سماوية ويقودها للمسيح في المجد.

لقد أخطأت المسيحية بصفة عامة في فهم فكر الله، فظنت أن المسيحية هي نظام ديني الغرض منه تحسين حالة الإنسان، ورفع مستواه، وإيجاد عالم أحسن وأجمل. إن كان هذا هو كل ما يراه الإنسان في المسيحية، فلا عجب إذن إن كنا نرى الكثيرين لا يعترفون بالمسيحية لأنه واضح لهم انه بعد مرور تسعة عشر قرناً يرون العالم إلى أردأ وليس إلى أحسن. لقد امتلأ العالم شراً وفساداً وامتلأت قلوب الناس رعباً مما هو آت على الأرض.

صحيح إن الله في عنايته الإلهية، يعتني بخلائقه المسكينة، ويستطيع بل يحجز فعلاً شرور الناس، وإنه حينما يقبل الحق يحصل قدر من التحسين في الأمور الزمنية، ولكن إذ تتكيف أفكارنا تماماً بكلمة الله، نرى أن غرض الروح القدس هنا هو لكي يأخذ أناساً من العالم للمسيح في المجد.

ثم يخبر إبراهيم العبد أن الزوجة التي يأتي بها لإسحق لا تكون "من بنات الكنعانيين" بل يقول له "من عشيرتي". لقد كان الكنعانيون تحت اللعنة والقضاء. إنه لا توجد علاقة بين المسيح في المجد، وبين العالم الذي هو تحت القضاء. عروس إسحق لا تكون غريبة بل من عائلة إبراهيم، وهكذا نرى أن الكنيسة – عروس المسيح – ليست هي جماعة من غير المؤمنين ولا هي خليط من مؤمنين وغير مؤمنين، بل جميعهم من أهل الإيمان.

أيضاً يحذر إبراهيم العبد من الرجوع بإسحق إلى أور الكلدانيين. ففي كل الوقت الذي كان فيه العبد في أور الكلدانيين كان إسحق في كنعان، ولم تكن هناك علاقة بين إسحق وأهل أور الكلدانيين، ومن هنا نعلم أنه لا علاقة مباشرة في الوقت الحاضر بين المسيح في المجد والعالم، وعدم إدراك هذه الحقيقة يجعل مساعي المسيحية، لا بل مساعي كثيرين من المسيحيين المخلصين محاولة لعمل ما منع العبد عن عمله – مرتين – لقد بذلت المحاولات بمختلف الوسائل للرجوع بالمسيح إلى العالم فربط اسمه الكريم بكثير من المشروعات الخيرية بغرض إصلاح وتحسين العالم، لكن كل هذه المساعي هي خارج نطاق عمل الروح القدس الذي يعمل الآن، لا لإعادة المسيح إلى العالم، لكن لا ننسى أن آخر مرة رأى فيها العالم المسيح هي المرة التي كان فيها فوق الصليب حيث صلبوه، والمرة الأخرى التي سيرى فيها العالم المسيح هي عندما يأتي "في نار لهيب معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح" (2 تس 1: 7 - 9).

أخيراً يخبر إبراهيم العبد أن ملاك الله سيذهب أمامه، ونحن نعلم أن الملائكة هم "أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص". نعم إن خدمة الملائكة تنحصر في أعمال الحراسة والعناية. فبينما نرى الروح القدس هو الذي يتعامل مع النفس، نرى الملائكة تعمل في دائرة الظروف. فنرى مثلاً ملاكاً يوجه فيلبس إلى الطريق التي يسير فيها، بينما نرى الروح القدس هو الذي يتعامل مع النفس فيوجه فيلبس إلى نفس الخصي (أعمال 8: 26 و 29).

مهمة العبد (10 - 61)

في هذا الفصل الغني بالتعاليم لا نرى فقط بكيفيةٍ رمزيةٍ الغرضَ من مجيء الروح القدس، بل نرى أيضاً الكيفية التي يجريها الروح القدس لتنفيذ هذا الغرض.

لقد جاء العبد إلى أور الكلدانيين مهيئاً تماماً للخدمة لأننا نقرأ "جميع خيرات مولاه في يده" صورة للروح القدس الذي جاء ليعلمنا "كل شيء" ويرشدنا إلى "جميع الحق" ويرينا "كل ما للآب" (يوحنا 14: 26، 16: 13 - 15).

إن عمل العبد في أور الكلدانيين تضمن أربعة أشياء: أولاً – وجد العروس المعينة لإسحق (10 - 21). ثانياً – إذ وجد العروس ميزها عن غيرها (22). ثالثاً – فطم قلبها عن أور الكلدانيين وربط عواطفها بإسحق (23 – 53). رابعاً – قادها في الطريق إلى إسحق (54 - 61).

وجد العروس

أولاً من صلاة العبد نفهم الغرض السامي لمهمته، فهو لم يقدم صلاة لأجل رجال المدينة أو فتياتها، بل كانت صلاته مركزة في نقطة واحدة وهي أن يجد العروس المعينة لإسحق، والروح القدس إنما أتى لا لخير العالم بل ليخرج منه المعينين من الله أي العروس المعينة للمسيح.

والعلامة الصحيحة التي حددها العبد لتتوافر في العروس، هي التحلي بروح النعمة فصلى العبد وقال "فليكن أن الفتاة التي أقول لها أميلي جرتك لأشرب فتقول: اشرب وأنا أسقي جمالك أيضاً هي التي عينتها لعبدك إسحق". واضح كل الوضوح من هذه الكلمات أن العبد لم يرسل ليختار عروساً من بنات الناس لإسحق بل ليجد العروس المعينة (عدد 14) وتكون النعمة هي العلامة المميزة لها.

وقد أجيبت الصلاة لأن رفقة إذ ظهرت في المشهد، ووضعت تحت الامتحان جاءت متفقة تماماً ورغبة العبد فقالت "وأنا أسقي جمالك" أيضاً، وهذا يتطابق مع عمل الروح القدس بالنعمة في الذين هم "مختارون بمقتضى علم الله السابق في تقديس الروح" (1 بط 1: 2).

ميّز العروس بالحلي

وإذ وجد العروس المعينة لم يكتف بعمل النعمة الذي رآه، بل ميزها بكيفية ظاهرة عن غيرها فجملها بخزامة وسوارين من ذهب، بحيث يستطيع الآخرون أن يروا فيها هذا الجمال. والروح القدس لا يكتفي بما ينشئه من عمل النعمة في المؤمن بل يظهر فيه ثمر ختمه بالروح القدس من محبة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان ووداعة وتعفف هذه الجواهر الغالية تصبح شهادة أمام الآخرين وتميز المؤمن عن كل الذين حواليه من أهل العالم.

القصة تخبر

وثالثاً نرى المجهود الذي قام به العبد في ربط عواطف رفقة بإسحق، وفي هذا صورة لعمل الروح القدس الذي يعمل في تقوية الإنسان الباطن في المؤمنين لكي يحل المسيح بالإيمان في قلوبهم. ولقد بدأ العبد هذا العمل بسؤال رفقة "هل في بيت أبيك مكان لنا لنبيت؟" فكان جواب رفقة على الفور "عندنا علف وتبن كثير ومكان" (عدد 25) ولابان أيضاً بدوره قال للعبد "ادخل يا مبارك الرب" وهكذا نقرأ "فدخل الرجل إلى البيت" (عدد 31 و 32) والروح القدس جاء ليأخذ مما للمسيح ويخبرنا (يوحنا 16: 14). جميل إذاً أن نسأل أنفسنا "هل يوجد مكان؟" وهل نفسح للروح القدس مكاناً في قلوبنا؟ الجسد والروح "يقاوم أحدهما الآخر" (غل 5: 17) ونحن لا نقدر أن نفسح المجال للروح طالما كنا نخدم الجسد لأنه من المستحيل أن نهيئ مكاناً للروح القدس ونحن مهتمون بأمور الجسد. فهل نحن نرفض انغماس الجسد في أمور هذه الحياة الزائلة؟ وهل نعطي للروح القدس مجالاً لكي يقودنا بعمق إلى أمور الله الأبدية؟ وهل هيأنا مكاناً وإمداداً للروح؟ لقد تهيأ البيت والإمداد في بيت بتوئيل لعبد إبراهيم فأعطيت له الفرصة للتحدث عن إسحق ليربط عواطف رفقة به، ويقودها إليه.

اجتذاب العروس

وإذ استقبل العبد بحرارة داخل البيت بدا يشهد ويعلن فكر سيده إبراهيم بخصوص إسحق، وهكذا كان يخبر رفقة، تحدث عن غنى إبراهيم وأبان أن الكل لإسحق "أعطاه كل ماله". وهكذا يخبرنا ربنا بنفسه قائلاً "كل ما للآب هو لي" وأن عمل الروح القدس هو أن يأخذ مما له ويخبرنا (يوحنا 16: 15).

التجارب

وإذ تكلم العبد عن إسحق، وأوضح قصد إبراهيم في بركة إسحق، انتظر حتى يرى تأثير رسالته. ألا يتعامل الروح القدس معنا بهذه الكيفية؟ ألا ينتظر الروح القدس حتى يرى ما إذا كانت قلوبنا في تجاوب من إعلاناته لنا عن المسيح، وذلك قبل أن يستخدمنا لنكون شهوداً بكيفية علنية لشخص المسيح؟ في الصورة التي أمامنا نرى التجاوب كان سريعاً إذ نقرأ "فأخرج العبد آنية فضة وآنية ذهب وثياباً وأعطاها لرفقة" ونحن إذ نتجاوب مع ما يعلنه الروح القدس لنا عن المسيح أفلا نصير شهوداً للبر الإلهي، كما نرى ذلك في آنية الذهب، شهوداً للتقديس العملي، وهذا ما نشاهده بكيفية رمزية في الثياب التي أعطاها العبد لرفقة.

القرار

أخيراً إذ ربط العبد عواطف رفقة بإسحق، لم يبق أمامه إلا أن يقودها لإسحق، فقال العبد "اصرفوني إلى سيدي". لقد جاء ليجد العروس وإذ تمم الأمر أراد أن ينصرف. إنه لم يأت ليجد العروس ويستقر في بيتها القديم ولكن لكي يقودها إلى بيت جديد.

لقد حاول الأقرباء أن يبقوها عشرة أيام على الأقل، لكن العبد أصر على المضي فوراً. وبحديثه عن إسحق نجح في إيجاد ذات الفكر في رفقة. ونحن المؤمنين إذا يسرنا للروح القدس أن يأخذ طريقه فينا. ولم نعقه بشيء، لابد أن يجعل أفكارنا كفكره، وينأى بقلوبنا عن الأشياء التي لا يوجد فيها المسيح، وهكذا يشغل عواطفنا بكل شيء فيه المسيح بل بالمسيح نفسه. نحن كثيراً ما نعيق عمل الروح فينا للانشغال بالعالم بسياساته ومسراته ودياناته، لكن العالم لا يستطيع أن يعيقنا متى كانت قلوبنا متعلقة بالمسيح في المجد وهي تركض للوصول إليه. الأخ والأم سعيا أن يعيقا رفقة بعض الوقت، لكن الكلمة الأخيرة أعطيت لرفقة "فقالوا ندعو الفتاة ونسألها شفاهاً" وقدموا لها هذا السؤال الهام "هل تذهبين مع هذا الرجل؟" هذا سؤال غاية في الأهمية. هل نحن مهيئون – مهما كلفنا الأمر – أن نتبع قيادة الروح القدس لنا؟

إن المسيحية الاسمية غالباً ما جهلت تماماً حضور الروح ونتيجة ذلك أنها رضيت البقاء في العالم الذي رفض المسيح وصار عنها غائباً. لكن إذ تلتصق قلوبنا بالمسيح في المجد نقول كما قالت رفقة "اذهب".

الإتباع في الطريق

 والنتيجة المباشرة لهذا القرار نقرأ القول "فصرفوا رفقة أختهم ومرضعتها وعبد إبراهيم ورجاله" ونحن إذ نظهر عملياً أننا ننسى ما هو وراء وننظر إلى ما هو قدام، فلن تصبح المسألة أننا رفضنا العالم، بل العالم نفسه أيضاً سيرفضنا وعندئذ سيرفضنا وعندئذ يصرفنا.

وبعد ذلك نقرأ "فقامت رفقة وفتياتها ... وتبعن الرجل فأخذ العبد رفقة ومضى". كثيرون من المؤمنين الذين قبلوا طريق الله في الخلاص يرغبون أن يمضوا إلى السماء بطريقتهم هم، لكن ما أحوجنا أن نعرف طريق الله، وأن نتبع قيادته. وإتباع الروح القدس ليس معناه إتباع نور في داخلنا كما يقول البعض، بل ينبغي أن نتبع كلمة الله التي يستخدمها الروح القدس – الذي يجمع للمسيح دائماً.

وإذ تبعت رفقة العبد وجدت نفسها في برية، فلا هي في بيت لابان كما أنها لم تكن قد وصلت إلى حيث إسحق، ونحن إذ نتبع قيادة الروح القدس لنا نجد كما قال واحد "إنه ليس لنا الأرض التي نحن فيها ولا نكون قد حصلنا على السماء التي نحن ماضين إليها". وهكذا إذ سارت رفقة مسافة طويلة (400 ميل) في الصحراء، كان يلمع أمامها طول الطريق ذلك الشخص الذي تعلق قلبها به والذي كان ينتظرها وهكذا يقول الرسول بولس بنفس الروح "أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (فيلبي 3: 13 و14).

نهاية المطاف

كان أمام العبد في أرام النهرين غرض هام للتحقيق وهو أن يأتي اليوم العظيم الذي يستحضر فيه العروس عبر رحلة البرية لإسحق، وفي كل الأدوار السالفة لم يعمل إسحق شيئاً، كما أنه لم يترك أرض كنعان، لأن كل شيء كان بين يدي العبد. غير أننا لا نفهم من ذلك أن إسحق كان غير مبال بمهمة العبد أو بقدوم العروس، لأننا نقرأ أنه عند إقبال المساء خرج إسحق آتياً من ورود لحى رئى، أي بئر ذاك الذي يحيا ويرى "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام ... إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 25).

المجيء

نلاحظ أن إسحق إنما خرج لغرض هو ملاقاة العروس، وهذا واضح من سؤال رفقة "من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟" وهذا يصور لنا أشواق إسحق لعروسه. إن أشواقنا نحو عريسنا قد تكون ضعيفة، لكن أشواقه هو نحونا لن تضعف، وهو يشتاق إلى تلك اللحظة التي فيها تحضر العروس إليه فقبل صعوده قال لتلاميذه: "وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً" (يوحنا 14: 3).

الزفاف

أخيراً لما رأت رفقة إسحق "أخذت البرقع وتغطت" وبعد ذلك مباشرة تم الزفاف لأننا نقرأ "وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها". ونحن بعد أن تنتهي مرحلة البرية يكون الروح القدس قد أتم مهمته وعندئذ نرى الرب يسوع عريسنا المبارك وجهاً لوجه ويأخذنا لنفسه ويتم القول "عرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها" (رؤ 19: 7).

لما أكمل الله عمل الخليقة أحضرت حواء إلى آدم كامرأة له، وهذا هو أول رمز للسر العظيم الذي كان منذ الدهور مكتوماً في الله، والذي يتضمن قصد الله الأزلي للإتيان بعروس لابنه، وتمر القرون الطويلة وتتعدد العصور والتدابير، والله يحتفظ بذلك اليوم، يوم عرس الخروف. قد يفشل أناس الله كما حدث في العصور السالفة وقد يتغلب العالم ويطغى، وقد يظفر العدو ويقاوم مستخدماً من أراد، لكن هذا كله وأكثر منه لا يستطيع بأي حال أن يحول دون إتمام القصد العظيم، قصد الله في الإتيان بالعروس لابنه ففي آخر سفر من أسفار الكتاب نرى مشهد عروس الخروف، وفي نهاية هذا السفر عينه نرى المسيح في انتظار عروسه، كما نرى العروس منقادة بالروح القدس تبدي أشواقها لقدوم عريسها "الروح والعروس يقولان تعال" ويجيب العريس "أنا آتي سريعاً" فترد العروس "آمين تعال أيها الرب يسوع".

خبر مشجع لنا

كم نجد من التشجيع في خدمتنا إذا ما احتفظنا بهذا الغرض السامي الذي أمام الروح القدس في كل حين، وهو إحضار الكنيسة للمسيح بلا دنس ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب في يوم عرس الخروف. قد تنحصر خدماتنا في اجتماعاتنا المحلية الصغيرة، وقد يبدو الضعف فينا، وقد نفشل، لكن إذا وضعنا أمامنا مشهد عرس الخروف الرائع لا نفشل بل نتعب بغير كلل عالمين أنه لابد أن يتم هذا الذي نقرأه، وسمعت كصوت جمع كثير وكصوت مياه كثيرة وكصوت رعود شديدة قائلة "هللويا ... لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء" إذن لا نفشل.

هذا وينتهي التعليم الرمزي لهذه الإصحاحات بذكر أولاد إبراهيم من قطورة كما نقرأ ذلك في الستة الأعداد الأولى من الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين، وهؤلاء الأولاد الذين تسلسل منهم كثير من أمم الشرق، هؤلاء أعطاهم إبراهيم "عطايا" وهكذا دخلوا دائرة البركة على أساس ارتباطهم بإبراهيم أما إسحق فوضع في مركز ممتاز عن بقية هؤلاء الأولاد، فلهم أعطى إبراهيم عطايا بينما أعطى لإسحق كل ما كان له. وفي هذا نرى رمزاً لحق عظيم هو أن المسيح المقام من الأموات والوارث لكل شيء بعد أن تصل عروسه السماوية يدخل إلى الميراث الأرضي، كما أن جميع أمم العالم ستنال بركة في ذلك الوقت.

وهكذا يختم تاريخ إبراهيم – هذا التاريخ الحافل بهذا الخبر الموجز عن موته بشيبة صالحة شيخاً وشبعان أيام، ثم دفن بواسطة إسحق وإسماعيل في مغارة المكفيلة، وهكذا ينهي إبراهيم غربته بوقار يتناسب مع رجل و"خليل الله" و"أبو المؤمنين".

  • عدد الزيارات: 3069