الفصل الخامس: عرب الحيرة
تُبيّن المصادر العربية والسريانية، بدء الاستيطان العربي بالعراق بشكله القبلي في بداية القرن الثالث، نتيجة هجرات متتالية بانتشار التنوخيين بين الحيرة والأنبار ثم عقبهم اللخميين ملوك الحيرة. فيقول القزويني: "وكانت الحيرة منزل ملوك بني لخم وهم كانوا ملوك العرب في قديم الزمان". [58] بعدها التحقت بهم قبائل إياد، الذين سكنوا الأنبار وعين تمر وتكريت. ويشير الطبري إلى حضورهم في مدينة تكريت بين صفوف المدافعين عنها ضد هجمات العرب المسلمين. [59]
كان للمسيحية المتأصلة في الشمال الشرقي من الرافدين، في الرها ونصيبين وإربل وجنديسابور وسلوقية طيسفون، التي أصبحت فيما بعد مركزاً لبطاركة "النساطرة"، كان لها الفضل في توصيل بشارة الإنجيل إلى الجنوب العراقي، حيث عرف عرب الحيرة المسيحيين بـ "العباد". لكن رغم نشاطهم التبشيري وتواجدهم القوي في الحيرة، لم يكترث النساطرة للتوسع كثيراً بين العرب البدو، إلى أن قامت الكنيسة اليعقوبية بحركة تبشيرية منظّمة قادها الراهب أحودمه بين البدو المنتشرين بين الحيرة والأنبار، ونجحت الحركة في تنصير معظم العرب القاطنين في مدينة عاقولا (الكوفة).
إن المعلومات تشير إلى الوجود المسيحي في الحيرة في عهد عمروا بن عدي من القرن الثالث، وقد خلفه من مشاهير اللخميين امرؤ القيس، ثاني ملوك الدولة اللخمية، الذي لُقب بملك العرب وله اثر فريد على منقوشة حجرية عثر عليها في عاديات كنيسة في الأقليم العربي كتب في مطلعها: "هنا قبر أمرؤ القيس بن عمرو، ملك العرب".[60]
اعتنق المسيحية في أواخر القرن السادس الملك النعمان أبو قابوس. ويعود الفضل في تنصيره إلى الشاعر المسيحي عدي بن زيد. يقول أبي الفدا: "ليس النعمان أول من تنصر من ملوك الحيرة فقد كان جده المنذر نصرانيا وبنى الكنائس العظيمة في دار ملكه".[61]
ولعل من العوامل التي ساهمت في انتشار المسيحية بين عرب الحيرة وجنوب العراق، الأسرى المسيحيين الذين أسرهم شابور الأول الفارسي خلال حملاته على الامبراطورية الرومانية، ومن بينهم أساقفة وبطاركة. هؤلاء جاء بهم شابور من أنطاكيا وأسكنهم في منطقة بابل وأقصى جنوب العراق وعلى ضفاف الدجلة، فتمكنوا من نشر المسيحية في المملكة الفارسية وبناء الأديرة والكنائس والمراكز الأسقفية.
اشتهر من رجال الكنيسة في الحيرة شمعون الأرشمي، والراهب سمعان العمودي، الذي قصده العرب من كل حدب وصوب لنيل البركة والشفاء. وفي عهده وافى الحيرة الراهب الشهير عبد يشوع وهو من الذين عززوا المسيحية في الحيرة والجنوب العراقي.
من كنائس وأديرة الحيرة وجنوب العراق، كنيسة بني مازن، ودير مرتا، ودير بني مرينا، ودير الجماجم، ودير عبد المسيح بن عمرو الغساني، ودير حنة، ودير ابن براق، ودير حنظلة بن عبد المسيح على حدود الجزيرة، ودير هند الكبرى
------------------------------
58 - آثار البلاد وأخبار العباد، زكريا بن محمد بن محمود القزويني، ص 175
59 - تاريخ المسيحية العربية، سلوى بالحاج، ص 47
60 - تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، ج1 ص 28، و المسيحية العربية- تاريخها وتراثها، الأب ميشال نجم، ص 82
61 - تقويم البلدان، أبي الفدا، عن: مقالة في الإسلام، جرجس سال، ج1 ص 43
ابنة الحارث. فيه نقشت عبارة تقول: "بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح ... في زمن مار أفرايم الأسقف فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها ويقبل بها وبقومها إلى إقامة الحق ويكون الله معها ومع ولدها الدهر الداهر".[62]
وهند الصغرى ابنة الملك النعمان بن المنذر بنت ديرا وترهبت فيه بعد مقتل زوجها الشاعر المسيحي عدي بن زيد. من أشعارها:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سـوقة نتنصف
فتبـا لدنيـا لا يـدوم نعيمهـا تقلـب تارات بنـا وتصرف
وعدي من شعراء الجاهلية وأشعاره تغنى بها العرب وجرت على كل لسان، وتعود جذوره إلى أمرؤ القيس بن زيد مناة بن تميم، فهو تميمي الأصل. من أبياته:
وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه نشفى بحكـمه أحـلامنا عـللا
من غير ما حاجة إلا ليجعلنا فوق الـبرية أربابا كـما فعـلا
وشي به إلى النعمان فوضعه في السجن حيث اغتيل. وفي سجنه قال الأبيات:
أنه قد طال حبسي وانتظـاري أبلغ النعمان عنـي مـألكـاً
وبغير الماء حلـقـي شـرقٌ كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ليت شعري عن دخيلٍ يفتري حيثما أدرك لـيلي ونـهاري
قاعداً يكر ب نفسي بثها وحراماً كان سجني واحتصاري
أجل نعمي ربها أولكم ودنوي كان منكم واصطهاري
ساهم عرب العراق والحيرة في نشر المسيحية وتقديم العون المادي والمعنوي للمبشرين وبناء الكنائس والأديرة. وكانت الكنيسة هناك تنطق بالعربية وتكتب بالسريانية. من أساقفتها هوشاع، الذي وقع في مجمع سلوقية باسم "أسقف حيرته". وآخر يدعى "أسقف العرب"، وثالث يدعى "أسقف العرب التغلبيين". وكان أسقف الحيرة زمن ظهور الإسلام عربيا يدعى عدي بن حنظلة من بني ملكان من تنوخ.[63]
وقد تشاركت الأنبار مع الحيرة في كونها أقدم المراكز التي انتشرت فيها المسيحية. من أساقفة الأنبار النساطرة، موسى وشمعا، وشمعون، وماري. ولمّا دخلها المذهب اليعقوبي صارت لليعاقبة أسقفية اسمها "أسقفية الأنبار وبني نمير"، نسبة إلى النمر بن قاسط.[64]
-----------------------------------
62 - معجم البلدان، ياقوت الحموي، ص 791
63 - مقالة في الإسلام، جرجس سال، ج1 ص 44 – 45، سلوى بالحاج، ص 58
64 - تاريخ ميخائيل الكبير ج 2 ص 416، سلوى بالحاج، ص 59
- عدد الزيارات: 5274