Skip to main content

الفصل الرابع : عرب بلاد النهرين

وتسمى أيضا "جزيرة الفرات"، وهي البلاد الواقعة بين دجلة شرقاً والفرات غرباً. استوطنها الأشوريين والسريان وشهدوا فيها أزهى عصور حضارتهم. فأنشأوا مدارسهم الشهيرة في نصيبين، والرها، وريش عينو (رأس العين)، وحرّان. وقد ذاع صيت مدنهم، تكريت، والموصل، ودنيسر، وآمد، وميافارقين، وسعرت، وماردين، والرقة، وقرقميش.

من أبرز قادة الجزيرة المسيحيين تاتيان من القرن الثاني، الذي تولى تنسيق الأناجيل فيما اشتهر بـ "الدياتسرون". واشتهر منهم كذلك مار يعقوب النصيبيني، ومار شمعون، ومار نرساي، ومار أفرام من القرن الرابع، الذي عمل على إعادة تنظيم مدرسة اللاهوت في مدينة الرها. ومنها خرجت الترجمة السريانية للكتاب المقدس والمعروفة بالبسيطة (فشيطتو).

انتشرت المسيحية بشكل سريع وغريب في مابين النهرين كما تصرح به الآثار التاريخية والكتابية، لكن المصادر اختلفت في كيفية دخولها إلى هناك، وفي من أدخلها. فقال البعض أن توما الرسول أدخل المسيحية إلى الجزيرة أولاً، وقال آخرون أنها دخلت مع آداي وماري، والبعض يرجح  بارشابا. ويقول تقليد كنسي أن الإيمان المسيحي دخل هذه البلاد زمن المسيح، بالاستناد على اكتشاف المؤرخ المسيحي يوسابيوس لرسائل بين المسيح والأبجر الخامس أوكاما ملك اديسا (الرها). فيها يتوسل الأبجر من المسيح أن يأتي ويشفيه من مرضه. فرد عليه المسيح بأن طوَّب إيمانه ووعده بإرسال أحد تلاميذه.[52] لكن هذه الرواية تفتقد إلى سند تاريخي، ويبقى فقط من الثوابت، أن الأبجر الثامن (176 – 213) كان مسيحيا.

قدمت قبائل عربية إلى الجزيرة قبل الإسلام بقرون، منها طيئ وبكر وتغلب، وأياد، وتميم، وقضاعة. فتسمت باسمهم ديار ربيعة وديار مضر وديار بكر. وأطلق السريان على المنطقة الواقعة ما بين نصيبين ونهر دجلة تسمية "بيث أربايا"، أي  "ديار العرب". والقبائل القاطنة هناك معظمها من ذرية نزار بن معد وإياد ومضر.[53]

تواجدت قبيلة تغلب على مشارق نهر الخابور، ويذكر التاريخ معارك طاحنة دارت بينهم وبين بكر مدة أربعين سنة، سميت "حرب البسوس". كان شاعر تغلب عدي بن ربيعة الملقب "المهلل"، جد عمر بن كلثوم وخال أمرؤ القيس، أحد المتسببين في الحرب، التي ابتدأها أخوه كليب بقتله ناقة لامرأة من بكر اسمها البسوس بنت منقذ. ولمّا قتله بني بكر انتقاما للناقة توعد عدي بالثأر لأخيه، فنشبت الحرب. من الأبطال الذين قتلوا فيها، عبد الحرث بن عبد المسيح، وسعدان  بن  عبد  يسوع بن حرب،[54] وهي أسماء تدل على مسيحيتهم.

تقول التواريخ القديمة وتقاليد الكنيسة السريانية بتغلغل المسيحية بين معظم قبائل الجزيرة الفراتية، وأن هذه القبائل قد نالت قسطها من المسيحية المبكرة التي انتشرت هناك. فدانت بالمسيحية تغلب، وقبائل بكر في ديار بكر،  و قبائل إياد، التي نزحت من الحجاز إلى الجزيرة واستوطنت الموصل وتكريت. [55]

-------------------------------

52 - تاريخ الكنيسة، جون لوريمر، جزء 2 ص 16

53 - معجم البلدان، ياقوت الحموي ج 2 ص 1179 – 1180، أيضا: تاريخ ابن خلدون، ج1 ص 235

54 - الأغاني لاأبي فرج الأصفهاني – ج24  ص 2642

55 - النصرانية وآدابها، شيخو، ج 1 ص 95 – 99، ميشال نجم، ص 62، سلوى بالحاج، ص 63

يعود الجزء الأكبر في تنصّر عرب الجزيرة إلى جهود الأسقف أحودمه اليعقوبي، الذي اشتهر بحماسه التبشيري بين العرب الرحل. بداية استقبلته القبائل العربية بالحجارة، إلى أن شفى يوما ابنة أحد رؤساء القبائل من مرضها، فعرف بينهم وصار مكرَّماً. وقد استطاع أحودمه بواسطة العجائب، التي صنعها بفضل قوة المسيح، أن يربح للمسيحية كثيرين منهم، وعلى أثر ذلك نشأت أسقفية بيث عربايا. وهو هدى بني تغلب في شمال الجزيرة،[56] وأسس "أسقفية عانا والعرب التغلبيين"، وكانت خاضعة لمفريان تكريت المهتمة بشؤون العرب البدو.

كان عرب البادية إذا تنصروا يحّجون إلى كنيسة مار سرجيوس في الرصافة قرب الرقة [57] ويطلبون المعمودية فيها. وكان مار سرجيوس موقرا جداً لدى العرب التغالبة، وفي بيت للأخطل، يقول:

لما رأونا والصليب طالعا      ومار سرجيس  وموتاً ناقعا

وأبصروا راياتنا   لوامعا      خلَّوا لنا راذان   والمزارعا

--------------------------------

56 - تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج، ص 62،  المفصل في تاريخ العرب، جواد علي، فصل 37 ،  القبائل العربية المسيحيّة، الأرشمندريت اغناطيوس ديك (مقالة)، صفحات مشرقة من تاريخ الأدب السرياني، البطريرك مار اغناطيوس زكا الأول عيواص (مقالة).

57 - فيليب دي طرازي، عصر السريان الذهبي، ص 41، النصرانية وآدابها، لويس شيخو، ص 104

  • عدد الزيارات: 4144