Skip to main content

الشبابُ المؤمنُ

إعداد نقولا اسبر

بماذا يمتازُ شبابُنا في العصرِ الحالي؟ وما موقفهم من قضايا الإيمان والحياة الروحية؟ هل يكتفون بإيمانٍ اسميٍّ أم يَدْخلُونَ إلى العُمْق فيبنونَ إيماناً شخصياً عميقاً؟ وماذا يفعل الشاب المسيحي المؤمن في الكنيسة وفي المجتمع اليوم؟ هذه الأسئلةُ هي عناوين الموضوع الذي أتحدثُ عنهُ الآن فيما يلي من أسطر.

الإيمان الوراثي:

في مجتمعاتنا، العربية بشكل خاص، يدينُ المرءُ بِدِينِ والديه، إلا في حالاتٍ استثنائيةٍ بدأت تظهرُ في السنوات الأخيرة. وهذا "الإيمانُ الوراثي" أو "الدين الموروث" لم يَعُدْ إيماناً فعلياً بل تعصباً طائفياً وهوية دينية اسمية فقط، ما يؤدي إلى مسيحيةٍ اسمية وحسب، يصفها المطران جورج خضر في كتابهِ "لو حكيتُ مسرى الطفولة" قائلاً: "كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، وإذا نصَّرَه أبواهُ، فكثيراً ما يبقى على نصرانيةٍ شكلية، ولا أحد يلقيه في الأعماق. المعموديةُ قد تظلُّ ماءً. ولعلَّ كثرة منا لم تستَجِبْ إلى نفحةٍ من نفحاتِ الروحِ. المسيحيّونَ غالبيتهم لم تُولَدْ، جاءت إجهاضاً". ومن هنا حاجتنا إلى من يصرخُ بالمسيحيين: توبوا، أي غيّروا أذهانَكم وتجدَّدوا، وبالتالي افتقارنا إلى عمل الشباب المؤمن النبوي الرّسالي.

أن يكون لك إيمانُ آبائكَ كانَ أمراً مقبولاً، مبدئياً، عندما كان إيمانُهم حقيقياً، ذلك الإيمانُ الذي يمتدحهُ بولس في شخص تلميذهِ تيموثاوس: "إِذْ أَتَذَكَّرُ الإِيمَانَ الْعَدِيمَ الرِّيَاءِ الَّذِي فِيكَ، الَّذِي سَكَنَ أَوَّلاً فِي جَدَّتِكَ لَوْئِيسَ وَأُمِّكَ أَفْنِيكِي، وَلَكِنِّي مُوقِنٌ أَنَّهُ فِيكَ أَيْضاً" (2 تيم 1: 5)، هذا الإيمان الذي يتميزُ بالاحتكاك بالكتاب المقدس: "وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (2 تيم 3: 15). إذن لا بأسَ أن يأخذَ المرءُ من أهلهِ روحَ الإيمان واليقين والتعليم: "اثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفاً مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ" (2 تيم 3: 14). ولكنَّ هذا ما عادَ كافياً، إذ مع ضعف الإيمان وتردّي الحياة الروحية وهشاشة الارتباط بالكنيسة، تحوّلَ هذا الإيمانُ إلى تمسكٍ اسمي متعصب جاهل بالمسيحية، وأحياناً يكون تمرداً وجحوداً واستهتاراً. ذلك أن معظمَ عائلاتنا اليوم صارت تتوارث ما يسمّونه "الإيمان" وتترك المسيح على "الرف". ولكنَّ هذا "الإيمان" ما هو إلا مجموعة مفاهيم خاطئة تقومُ على الاعتقاد بأن قوة الإيمان تقتضي البساطة والسذاجة وتصديق كل شيء، ومن هنا عليكَ أن تصدّقَ أن العذراء مريم أو مار جرجس أو مار الياس ظهرَ لفلان في المنام، وإن لم تصدّقْ صاحبَ الأحلام المقدسة فأنت كافرٌ غير مؤمن. ثم صارَ القول بأن الإيمان بحدّ ذاتهِ هو المهم، وليس الإيمان بالمسيح، ومن هنا قولهم "آمِنْ بالحجر تشفَ". وصارَ لدى الناس "المؤمنين" التفكير بأن الله خالقٌ مخيفٌ تُرعب به الأمهاتُ أولادَهنَّ عندما يرفضونَ طاعتهنَّ، وأن الصلاة تقتصرُ على الطلب، وانتشار عادات "تَقوية" سطحية وخُرافات تحجب نور المسيح. ولكن هل يقبل الشباب أن يكونوا مجردَ ورثةٍ لأهلهم في إيمانٍ فَقَدَ كلَّ جذورهِ فصارَ كالعصافةِ التي تُذَرّيها الريح؟

دور الشباب في بناء إيمانه:

على المرء أن يبني إيماناً شخصياً بالرب يسوع. ويكون ذلك عملياً من خلال مصاحبة الكتاب المقدس وشروحات التفاسير الموثوقة له لكي يرى الشاب وجهَ المسيح الحقيقي الذي خلَّصهُ على الصليب، ويتجدد بالروح، ويعيش الإيمان حياتياً. ولا يمكننا إلا أن نؤكد على ضرورة الالتزام بالشركة في الكنيسة، جسد المسيح، والانخراط في حياة الجماعة المؤمنة. إن فهمنا للكتاب المقدس، وصلاتنا، وغيرها، تَفقد صحَّتها وأصالتها إذا لم تندرجْ ضمن الشركة مع الجماعة. ففي حياة الشركة نفهم سرَّ المحبةِ ونحققه. فالمحبة لا معنى لها في الفرديةِ والذاتيةِ، ولا معنى لها إلا في وسط الجماعةِ التي فيها تتجلى حقيقةُ الله الثالوث، الله المحبة.

ميزات الشباب المؤمن:

"آمنتُ ولذلك تكلمتُ" (مز 116: 10)، (2 كو 4: 13).

في مجتمعٍ تطغى فيه المادةُ على الإنسان لتستعبدَهُ، يقفُ إيمانُ شبابنا بالمخلِّص كدرعٍ تحميهم من قدرة المادة على تشويه إنسانيتهم. فهذه الميزةُ "الإيمان" هي الرجاءُ للذين يلتمسونَ نوراً يهتدون به.

"كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ". (1 تيم 4: 12).

الشبابُ المؤمنُ هو إنجيلٌ حيٌّ. فإذا كانت الأناجيلُ المكتوبة تُعطينا خبرة حياة يسوع المسيح وما فيها من تعاليم وعجائب وأحداث خلاصية، فعلينا أن نكون أسفاراً حيةً ناطقةً تُعطى لجميع الناس، ليتعرّفوا من خلالها إلى يسوع المسيح الحيّ، المعلّم والمُحِبّ والمخلِّص.

نعلمُ أن الله محبة. ومن هذا المنظار يسعى الشاب المؤمن للعودة إلى الصورة والوصول إلى المثال، عندما يُدرك أن كمالَه الحقيقي وتحقيق وجوده الفعلي لا يمكن أن يتمَّ إلا من خلال الجماعة، "إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1 يو 4: 20).

"كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ، وَلاَحِظُوا الَّذِينَ يَسِيرُونَ هَكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ" (فليمون 3: 17).

الشاب المؤمن يتأجّج حيويةً ونشاطاً على جميع الصُّعُد، فهو رائدٌ في كلّ شيء: في مجال التبشير، في الصلاة والتوبة، في تحمل المسؤوليات، وإتمامها بجدارة، إنه صورة عن الرسول بولس "الذي لا يتعب".

دعوةُ الشباب المؤمن:

"ويلٌ لي إن كنتُ لا أُبشّر" (1 كو 9: 16).

إضافة إلى وجوب أن يكون الشابُّ المؤمنُ متشبّهاً بالمسيح في أفعالهِ وسلوكه، فإن الانطلاق إلى التبشير مهمة أساسية أيضاً في حياة المؤمن، هدفها الإعلانُ عن خلاص المسيح وتجسيد صورة المسيح في هذا العالم. وبالطبع يكونُ البدء بذلك بأن يصنع المؤمنُ صورةً مثلَها في داخله، لكي يُصبحَ مع من يجسّد صورَتَهُ جسداً واحداً وروحاً واحداً. عندئذ يصرخ: "أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غل 2: 20).

متطلبات العمل البشاري:

للعمل التبشيري مستلزمات ضرورية منها:

أولاً، المعرفة بالإنجيل، وهذا يتطلّب تواصلاً دائماً مع الكتاب المقدس، وتمرّساً في التأمل وحياة الصلاة.

ثانياً، العلم، فهو مهمٌ جداً في عصرنا الحاضر. الإطلاع على علوم العصر يساعد على التفاعل والتفاهم مع المجتمع، وبه نستطيع أن نخاطب العالم بلغته، ولكن بنفحة روح مختلفة.

ثالثاً، نور المسيح. فمن المهم أن يستمدَّ المؤمنُ من المسيح نورَهُ الذي أظهرهُ على جبل طابور. وعندئذٍ لا يكون الإقناع من حكمة بشرية، بل ببرهان الروح والقوة. وعندئذ تبطلُ حكمةُ الحكماء ويلاحظ المتعلم المتكبّر عُريَهُ أمام مجد الله.

رابعاً، الشهادة. كثيراً ما لا تكون الشهادة بالكلام، بل بالحياة. ويمكن أن تتطلب الشهادةُ استشهاداً، وبذلك يكون المؤمن قد جَسَّد إيمانَهُ فعلاً وعلى مثال مُخلِّصه وفاديه.

خامساً، معرفة مجال الخدمة. على المسيحي المؤمن أن يختبرَ نفسَهُ ليعرِفَها، ويكتشف مواهبَهُ ووزَناته وينمّيها ويفسحَ لها مجال العمل والخدمة "لأجل البنيان" في الكنيسة والمجتمع. ولا يكتفي المؤمنُ بأن يلتفتَ إلى ذاته فقط، بل ينظر إلى أخوته، شركائه في الجسد الواحد، ويساعدَهم في معرفة مواهبهم. وبذلك يتبلور لكلِّ عضو في هذا الجسد الواحد دورُه ومهامُه في بناء الكنيسة.

ختاماً:

المؤمنُ هو في العالم وليس من العالم. يتفاعل مع المجتمع الذي ينتمي إليه، يغوص في مشاكله، لكنه ينظر إلى الأمور بمنظار مختلف عن منظار العالم، لأن له فكراً مختلفاً "له فكر المسيح" (1 كور 2: 16). وبذلك يحيا دائماً بسلام داخلي دائم. إنه "يحيا في عين الإعصار بسلام"، على حد قول أحد الآباء.

  • عدد الزيارات: 6037