Skip to main content

خلقُ الإنسان

كرامة الإنسان

الملف الصوتي earth 5- a

بينما كان يرعى أغنام والده ليلاً ويحدّق إلى السموات، ارتبك داود بعِظَم وكِبَرِ كون الله المرصع بالنجوم. هل كان بمقدور إله يتمتع بتلك القوة والقدرة والسمو أن يكون لديه اهتمام حقيقي بهكذا ذراتٍ من الغبار الكوني التي تُدعى البشر؟ لم يستطعْ علم الفلك أن يقدّم أي عزاءٍ أو راحةٍ لداود في بحثه المحموم هذا؛ والتطورات الهائلة في المعرفة الفلكية التي قد اختبرناها منذ يومه لا تزال تتركنا في ظلام مطبق. إن علماء الفلك المعاصرين، الذين يستخدمون تلسكوبات عملاقة، لم يتوصلوا بعد إلى اكتشاف ولو أثر واحد عن نعمة ومحبة الله في أي مكانٍ في الكون.

سيوافق جميع المسيحيين الحقيقيين على أن الجواب على هذا السؤال يجب أن يأتي من كلمة الله المكتوبة ومنها وحدها فقط. فإلى الأصحاح الأول من التكوين كان داود قد التجأ كمصدر ليقينه بأن الله قد خلق الإنسان أقل من إيلوهيم (عالم الإلوهة) وكلله بالمجد والكرامة, معطياً إياه سيادةً على كل خليقة (مزمور 8: 5- 8)؛ انظر أيضاً (تكوين 1: 25- 28). رغم كل الإخفاق الواضح في الإعلان الطبيعي في هذه النقطة، يبقى الإعلان الخاص يؤكد لنا أن الجنس البشري هو موضوع عناية الله المُحبة، وأن كائناً بشرياً واحداً أكثر أهمية بالنسبة لله من كل المجرات الرائعة المذهلة في الكون.

إذ كان ينظر بتأملٍ وعناية إلى عالم يئنّ تحت وطأة عبودية الفساد، فإن الكاتب المتألق لسفر الرسالة الجامعة رأى أنه ليس هناك من أساسٍ تجريبي لتمييز الكائنات البشرية عن البهائم. ".... رَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ:... مِنْ جِهَةِ أُمُورِ بَنِي الْبَشَرِ ....أَنَّهُ كَمَا الْبَهِيمَةِ هَكَذَا هُمْ. لأن مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هَذَا كَمَوْتِ ذَاكَ وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإنسان مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ لأن كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ. يَذْهَبُ كِلاَهُمَا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. كَانَ كِلاَهُمَا مِنَ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُ كِلاَهُمَا" (الجامعة 3: 16- 20).

بعد ثلاثة آلاف سنة لم تساعدْنا التطورات والتقدم في العلم على الإطلاق في حل هذه المشكلة. ما من أحدٍ يستطيع أن يُثبت بالتجربة أن روح البهيمة تتلاشى عند الموت بينما روح الإنسان تستمر في الوجود إلى الأبد. من وجهة نظر الكيمياء، يمكن طرح مسألة الافتراض بأن الإنسان هو على نفس المستوى من الحيوانات فكلاهما قد صُنِعَ من نفس "التراب". إن العلماء المعاصرين يحدقون من خلال مكروسكوبات قوية فعالة ولكن يخفقون في أن يروا أي أثرٍ لصورة لله في العناصر الكيميائية التي في جسد الإنسان. إن كل المسيحيين الحقيقيين سيتفقون على الرأي بأن الجواب النهائي على هذا السؤال أيضاً لا بد أن يأتي من الكتاب المقدس ومن هناك فقط. ومن جديد، إن الإصحاح الأول من سفر التكوين يُرى على أنه أساس لإيماننا، عندما يخفق الإعلان الطبيعي ويخذلنا.

ولكن بعض المسيحيين ليسوا مستعدين على أن يتقبلوا مبدأ السلطان الأساسي للكتاب المقدس إلى خاتمةٍ منطقية. إنهم يُقرون بأن الكتاب المقدس وليس علم الفلك أو الكيمياء, هو مصدرنا للمعلومات المتعلقة بكرامة الإنسان. ولكنهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على الإيمان بأن الكتاب المقدس، وليس علم الإنسان (الأنتروبولوجيا) الفيزيائي، هو مصدر الحقيقة المتعلقة بخلق الإنسان. وهنا على الأقل نعلم أن الإعلان الطبيعي له موثوقية متساوية مع الإعلان الخاص في الكتاب المقدس, وكلما كان هناك تناقض فإن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين يجب أن تُصاغ إلى إطار من النظرية العلمية المعاصرة المتعلقة بأصل الإنسان. لقد عبّر أحد الكتاب عن ذلك بقوله:

"إن ناموس الطبيعة والكتاب المقدس كلاهما معصومان، كل منهما بطريقته الخاصة، لأن كلاهما قد كتبتْهما يدُ الله القدير. وبكل تبجيل، نقول أنه لولا ذلك لما كان الله مصدر ثقة. إن النشوئية ليست فقط فرضيات وحسب. إننا مضطرون إلى الإيمان على الأقل بأن الكثير منها هو أمر حقيقي. وقد نصمُتُ إزاء ذلك... إنها نتيجة قراءة ناموس الطبيعة مباشرة"[143].

وكتب آخر يقول:

"إني أرى الإصحاحات الإفتتاحية في التكوين كتعبير شعري لكاتب هذا السِّفْر الملهَم من الله. وإني أعتقد أن هذا الجزء من الكتاب المقدس يجب أن لا يُنظر إليه على أنه نص علمي.... أفلا يؤذن للمسيحي بأن يستخدم العلم لينقب في أسرار الخلق غير المحلولة؟[144]"

وجهة النظر هذه، والتي يمكن أن تسمى "نظرية الإعلان المزدوج", تفيد بأن الله قد أعطى الإنسان إعلانين من الحقيقة، كل منهما ذو مصداقية وموثوقية كاملة بحد ذاته: إعلان الله في الكتاب المقدس وإعلان الله في الطبيعة. ورغم أن هذين الإعلانين يختلفان كثيراً في ميزاتهما، إلا أنهما لا يمكن أن يتناقضا مع بعضهما البعض, ذلك لأن نفس إله الحق المنسجم مع نفسه هو الذي أعطاهما. إن اللاهوتي هو المفسر الذي يعيّنه الله لتفسير الكتاب المقدس والعالِم هو المفسر الذي يعيّنه الله لتفسير الطبيعة. إضافة إلى ذلك, لكل منهما أدوات متخصصة لتحديد المعنى الحقيقي من السفر المعين في الإعلان الذي دُعي إلى دراسته.

إن نظرية الإعلان المزدوج تقول أنه كلما كان هناك تعارض في الظاهر بين استنتاجات العالم وبين استنتاجات اللاهوتي, وخاصة فيما يتعلق بهكذا مشاكل كمثل أصل الكون, النظام الشمسي, الأرض, الكواكب, والحياة الحيوانية, والإنسان؛ تأثيرات لعنة عدن؛ وتأثيرات طوفان نوح؛ فإن اللاهوتي يجب أن يعيد التفكير في الكتاب المقدس بخصوص هذه الأمور بطريقةٍ يجلب بها الكتاب المقدس إلى انسجام مع الرأي العلمي المُتَّفق عليه عموماً لأن الكتاب المقدس ليس نصاً علمياً وهذه المشاكل والمسائل تتخطى المنطقة أو المجال الذي يجب أن يعطي العلم وحده فيه أجوبة مفصلة وموثوقة.

15: 27

مؤيدوا نظرية الإعلان المزدوج يعتقدون أن هذه هي الحال بالضرورة, لأنه إن كان التفسير التاريخي والنحوي للرواية الكتابية للخلق, واللعنة في عدن, والطوفان, وبرج بابل, سيؤدي بدارس الكتاب المقدس إلى تبني استنتاجات تتناقض مع الآراء السائدة عند العلماء المدربين المتعلقة بالأصول, فعندها سيرتكب إثماً إن جعل أو اعتبر الله مخادعاً أو غاشاً للجنس البشري في هذه القضايا المهمة على نحو أساسي. ولكن إله الحق لا يمكن أن يكذب. ولذلك فإن سفر التكوين يجب أن يُفسر بطريقة تتوافق مع الآراء المتفق عليها عموماً عند العلم المعاصر الحديث. وفي نهاية الأمر, إذ نتذكر أن سفر التكوين قد كُتِبَ فقط ليعطينا إجابات عن أسئلة "مَن؟" و"لماذا؟" فإن العلم المعاصر يجيب على أسئلةٍ مهمة مثل "متى؟" و"كيف؟"[145]

الملف الصوتي earth 5- b ص 118

[143]- بيتر ج. بيرخوت، "الراية"، (5 آذار 1965)، ص 22.

[144]- روبرت س. هومان، "الراية" (22 أكتوبر 1965) ص 20.

[145]- انظر جون سي. ويتكمب , "أصل النظام الشمسي"، (فيليبزبيرغ، المنشورات المشيخية والمصلحة، 1964 (ص 9، 25- 30)، من أجل تقييم إضافي وتوثيق إضافي لنظرية الإعلان المزدوج.

  • عدد الزيارات: 4370