طبيعة الخلق بحسب الكتاب المقدس
الخلق كان فائق الطبيعة
إزاء كل المحاولات لتفسير أصل العالم بتعابير عمليات طبيعية بحتة، يصرّح الكتاب المقدس أن الله خَلَقَ كل الأشياء بشكل فائق للطبيعة. بكلمات أخرى، أتى العالم إلى الوجود بطريقة مختلفة كلياً عن أي شيء يمكن أن يُلاحَظ في الكون الحالي. في هذه الأيام لا شيء على الإطلاق يُخلَق بشكل مباشر بمعزل عن مواد موجودة مسبقاً، ويعبّر العلماء عن هذه الحقيقة الأساسية بواسطة القانون الأول للديناميكا الحرارية (الترموديناميك) (thermodynamics) (أي أن الطاقة لا يمكن أن تُخلق ولا أن تفنى). الخلق الحقيقي ما عاد يتحقق كما حدده الكتاب المقدس بوضوح (التكوين 2: 1 – 3). عمل الله بالحفظ يُبقي الكون في الوجود (عبرانيين 1: 3)، وعمله في العناية الإلهية يوجّه الكونَ نحو أهداف مجيدة (كولوسي 1: 20)، لكن عمله في الخلق بما يتعلق بالكون الحالي قد اكتمل.
ولذلك فعندما "صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" (خروج 20: 11؛ 31: 17؛ نحميا 9: 6)، فعل ذلك بدون استخدام لأي مواد موجودة مسبقاً من أي نوع كانت. في لحظة ما لم يكن هناك أي مادة في أي مكان؛ في اللحظة التالية، ظهرت السماوات والأرض إلى الوجود. هذا ما دعاه اللاهوتيون (الخلق من لا شيء) creatio ex nihilo، وهذه العبارة مفيدة إذا فهمناها بمعنى أن الموجودات المادية خُلقت من مصادر غير مادية من قدرة الله الكلية. فنياً: العبارة تنطبق فقط على خلق المواد غير العضوية لأن الله استخدم سابقاً مواد غير عضوية مخلوقة في تشكيل أجسام الأشياء الحية. ومع ذلك، حتى في هذه الحالة، كما سوف نرى، كان الخلق تماماً فائق الطبيعة.
حقيقةُ أن الخلق كان فوق طبيعي تعني، من بين أشياء أخرى، بأنه يمكن أن يُفهم بالعقل البشري فقط من خلال قناة الوحي الخاص. الله وحده فقط يستطيع أن يخبرنا كيف ابتدأ العالم، لأنه لم يكن هناك أي شخص ليرى كيف كان يجري الخلق، وحتى لو كان هناك مراقب بشري موجود، ما كان ليفهم بشكل كامل ماذا رأى بمعزل عن تفسير الله ذاته. قال الله لأيوب: "اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ" (أيوب 38: 3– 4).
على كل حال، إن الصعوبة لدينا في إدراك عقيدة الخلق ليست ناتجة عن حقيقة أننا محدودون بل عن حقيقة أننا خاطئون. "وَلَكِنَّ الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (1 كورنثوس 2: 14). هناك بضعة عقائد في الكتاب المقدس تبدو للإنسان الطبيعي أكثر جهالةً من الخلق الفوق الطبيعي، لأن هكذا أحداث لا تجري اليوم. ولكن الخلق بالتأكيد هو أحد الأمور الأعظم والأهم في "مَا لِرُوحِ اللهِ"، إذ بدونه يسقط الكتاب المقدس والمسيحية ويتناثر إلى أشلاء. إن أزلتَ هذه العقيدة (الأساس) تنهار البنية الفوقية بالكامل.
لذلك فمن المهم للغاية أن نقارب الأصحاحات الأولى من سفر التكوين على هدى النور الذي يعطينا إياه الله نفسه من خلال الشهادة الكاملة التي يقدمها في الكتاب المقدس. بل، وكما أن الله أمر موسى أن يخلع نعليه لأن المكان الذي كان يقف فيه كان مقدساً، هكذا أيضاً علينا أن نلقي جانباً مفاهيمنا عما يمكن أن يكون قد حدث أو لم يحدث، وأن نقف في حضرة الله، على استعداد لأن نسمع ونؤمن بما شاء باختياره أن يخبرنا به عن الخلق.
هكذا خضوع غير مشروط لسلطان كلمة الله، بالطبع، ليس من سمة يومنا، حتى بين المسيحيين. لقد حذّر بولس (المؤمنين) قائلاً: "...لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ" (2 تيموثاوس 4: 3- 4).
إحدى هذه "الأساطير" التي نؤمن بها هي أن الله لم يخلق العالم بشكل فائق للطبيعة، بل من خلال عمليات طبيعية، بعنايته الإلهية، عبر فترات زمنية كبيرة جداً. هذه إنما خرافة، ليس فقط لأنها تتناقض مع الكتاب المقدس، بل لأنها تتناقض مع عمليات الكون التي يمكن رصدها ومعاينتها.
في السنوات الأخيرة أتت إلينا شهادة لافتة للانتباه من كتابات علماء هم موضع احترام وتقدير كبيرين قد رأوا أن مفهوم النشوء، بوجهه الأوسع، يقوم على أساس هش. يلاحظ ج. أ. كيركوت الذي من قسم الفيزيولوجيا والكيمياء الحيوية في جامعة ساوثمبتون، على سبيل المثال أن النشوئيين غالباً ما يكتبون وكأن "آراءهم قد جاءت إليهم بنوع من الوحي". وعلى الرغم من "الثغرات والهنّات الكثيرة" في نظامهم، إلا أنها "تُؤخذ بثقة كبيرة" وبـ "قبول أعمى" و"إغلاق للعينين" عن حقائق كثيرة هامة، وهذا يكشف عن "تعجرف" أكثر منه روحٍ علميةٍ حقيقية[1]. ولقد أدت المحاولات لسد الثغرة بين اللافقاريات والفقاريات، على سبيل المثال، إلى نوع من "الأدب القصصي ذي الخيال العلمي"، أكثر منه إلى الاكتشاف[2]، واحتمال أن الحياة قد بدأت أولاً بشكل تلقائي كـ "مسألة إيمان عند عالم الأحياء"[3].
في تقديمه لكتاب داروين "أصل الأنواع" في مجلة "مكتبة الجميع" (1956)، يوضح و. ر. ثومبثون ما يلي:
"دعاة الداروينية الوجوديون المعاصرون مضطرون، كمثل أسلافهم وداروين أحدهم، إلى أن يميّعوا الحقائق بفرضيات ثانوية، مقبولة ظاهرياً في طبيعة أشياء لا يمكن إثباتها.... ويُترك القارئ ولديه الإحساس بأن البيانات لا تدعم النظرية كما يُفترض... هذا الوضع، حيث انبرى أهل العلم إلى الدفاع عن عقيدة لا يستطيعون أن يبرهنوا عنها علمياً، يُظهر ضعفَ الدقة العلمية، في محاولتهم الحفاظ على مصداقيتهم أمام العامة وذلك بقمع النقد وإزالة الصعوبات، وهذا أمر غير سوي وغير مرغوب به في العلم".[4]
قبل عدة سنوات، قال العالم الوراثي الرائد ريتشارد ب. غولدشمت (1878- 1958):
"هذا التكرار المستمر لهذا الادعاء غير المبرهن عنه (التغير الأحيائي الصغير للنشوء)، يموه قليلاً عن الصعوبات، واتخاذ موقف متعجرف نحو أولئك الذين لا يُستمالون بسهولة بالطرق السائدة في العلم، يُعتبر وكأنه تقديم دليل علمي إلى العقيدة"[5].
كوكب الأرض:إن الأرض الأولى، كما كانت لتُرى من الفضاء الخارجي قبل الطوفان الكبير، كانت مختلفة تماماً عن شكلها ومظهرها الحالي. في المقام الأول، لا بد أنها كانت أكثر حيوية مما هي عليه الآن، إذ لم يكن هناك غطاء سديمي يُبهت البحار الزرقاء المتألقة. وبالدرجة الثانية، لم يكن هناك قمم قطبية بيضاء أو مناطق صحراوية بنية ضاربة إلى الاحمرار، لأن حياة نباتية خضراء كثيفة كانت تغطي تقريباً كل المناطق اليابسة، حتى في المناطق القطبية (كما بينت مستودعات الفحم الكثيفة المكتشفة في جبال أنتاركتيكا). وثالثاًً، على الأرجح أن القارات كانت مختلفة تماماً في الشكل والموضع عنها حالياً. فبعض المناطق التي هي الآن فوق مستوى البحر كانت تقبع تحت المحيط يوماً ما. يعتقد كثير من دارسي الكتاب المقدس أنه كانت هناك كتلة كبيرة واحدة فقط تحيط بالبحار قبل الطوفان، لأن زوجاً من كل نوع من الحيوانات ذات النفس دخلت إلى فلك نوح (تك 6: 20؛ 7: 8). من الممكن أيضاً، أنه لو وُجدت أكثر من قارة واحدة، فإن ممثلين عن كل أنواع الحيوانات كانوا ليعيشوا على القارة حيث شُيّد فلك نوح. إن فكرة "انجراف" القارات إلى مواضعها الحالية تواجه اعتراضات جيوفيزيائية كبيرة ولا يؤيدها الكتاب المقدس (تك 10: 25) لا بد أنها تشير إلى انقسام الأمم بعد الدينونة في برج بابل؛ (تك 10: 5، 20، 32). |
يوضح ج. ج. ديوفاني. دو دويت الذي من قسم علم الحيوان في جامعة أورانج فري ستيت إلى أن "الصدع الثنائي" بين المعرفة العلمية (المتعلقة بالانفصال بين أنواع الأحياء) والإيمان الذي يفوق العلم (في التواصل النشوئي) يبلغ إلى "صدع في الوعي عند عالم الأحياء شخصياً".[6]
ومن هنا، فإن نظرية النشوء العامة على اعتبارها ضد الإيمان، قد ناقضتها، على نحو مطرد، حقائقُ ووقائعُ العلم التجريبي خلال القرن الماضي. وإن المسيحيين الذين يقبلون الشهادة الواضحة للكتاب المقدس فيما يتعلق بالصفة الفائقة الطبيعة في الخلق الأصلي لهم ثقة بأن حقائق العلم الحقيقية، رغم قمعها كثيراً من قِبَلِ النشوئيين وإساءة تفسيرهم لها، سوف يتبين في النهاية أنها تنسجم مع الكتاب المقدس".[7]
[1]- "مضامين النشوء" (نيويورك: منشورات بيرغامون، 1960)، ص 154، 155.
[2]- المرجع السابق، ص 153.
[3]- المرجع السابق، ص 150.
[4]- أُعيدت طباعتها "مجلة الجمعية العلمية الأميركية" 12: 1 (آذار 1960)، ص 7، 8.
[5]- "النشوء كما يراه أحد علماء الوراثة"، مجلة "العالم الأميركي"، كانون الثاني 1952، ص 94.
[6]- "نقد جديد لمبدأ التحول في علم الأحياء النشوئي"، كامبن، نيث، 1965، ص 43: " طوال القرن الماضي كان يوجد دائماً أقليّة معتبرة من علماء الأحياء من النخب الأول، لم يكونوا قادرين على أن يحملوا أنفسهم على قبول ادعاءات داروين. في الواقع، عدد علماء الأحياء الذين عبّروا عن تحررهم من الوهم إلى درجة ما، كبيرلا نهاية له عملياً" (مايكل دونتون: "النشوء: نظرية في أزمة" [بيثيديا، ميريلاند، نشر أدلر وأدلر، 1986]، ص 327.
[7]- انظر أيضاً هنري م. موريس "الخلق والمسيحي المعاصر" (إل كاجون، كاليفورنيا: منشورات ماستر بوك، 1985)؛ و"تاريخ نظرية الخلق المعاصرة" (إل كاجون، كاليفورنيا: منشورات ماستر بوك، 1984).
- عدد الزيارات: 7997