عمليات وحوادث الكون
وثالثاًَ، إن عمليات الكون هي على نفس المنوال موحية ومنوِّرة. إن وجوه القمر، وحركات الكواكب ["نجومٌ تائهةٌ" من الكلمة اليونانية (πλανήτης) وتعني "شاردة أو طائفة" (يهوذا 1: 13)]، ودوران الأرض، ومدارات المذنبات، والخسوف العجيب، كلها تستحق الانتباه في الكتاب المقدس. إن معظم هذه العمليات والحوادث ترتبط بحاجة الإنسان المعينة لتغيرات في شدة النور. ("النُّورَ الأكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الأصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ وَالنُّجُومَ")، ومؤشرات إلى الوقت (تكوين 1: 5، 16). إن الله لا يحتاج إلى إضاءة أو نور أو مقياس للوقت، بل البشر هم من يحتاجون إلى ذلك تحديداً.
كيف يصفُ الكتاب المقدس حوادثَ الكون؟ من التكوين وإلى الرؤيا، يتحاشى الكتابُ المقدس على الدوام (من أجل التواصل الفعال مع البشر) التعليم التقني العالي عن معطياتٍ وحقائق ومفاهيم علمية. ومع ذلك- وهذا أمر حاسم لكل النقاش- إن الكتاب المقدس يقدم وصفاً دقيقاً على نحو كامل للأشياء باستخدام لغة المظهر. لقد كان هذا دائماً موضع تحدٍّ ولكن دون نجاح.
إننا نجد مثالاً رائعاً عن هذا المبدأ في رواية خلق الشمس والقمر في (تكوين 1: 16): "فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الأصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ وَالنُّجُومَ". فبالمطلق، ليست الشمس والقمر "نورين عظيمين" بالمقارنة مع الكثير من النجوم العملاقة. وفي الواقع، إن القمر ليست نوراً على الإطلاق إذا اعتبرنا أن الشمس نورٌ. ولكن من مفهوم سكان الأرض، يصبحُ لهذا القول معنىً أوسع بكثير من تحليل فلكي تقني. إضافة إلى ذلك، فإن هذا القول صحيح تماماً. هناك فقط نيِّران عظيمان منظوران للعين المجردة، وليس ثلاثة أو عشرة.
مثال واضح آخر عن هذا المبدأ نجده في (رؤيا 7: 1) التي تتحدث عن الأرض ذات "أربع زوايا". هذا لا يعني أن الكتاب المقدس يؤيد مفهوم الأرض المسطحة، لأن التعبير التالي يفسّر أن "الزوايا الأربع"، تشير إلى "أربع رياح الأرض". حتى اليوم، يستخدم علماء الأرصاد الجوية جهات البوصلة الأربع ليصفوا حركة الرياح، دون أن يعني ذلك أن الأرض مسطحة.
وأخيراً، ولعل هذا أشهر مثال، هناك آيات الكتاب التي تشير إلى "شروق الشمس" (مثال: رؤيا 7: 2، قارن مع مزمور 19: 4-6). هل يعني هذا أن الكتاب المقدس يعلِّم نظرية مركزية الأرض (النظرية التي يقول بأن الأرض هي المركز المادي الفعلي للنظام الشمسي)؟ أبداً على الإطلاق. لأن لغة المظهر هذه ملائمة جداً حتى أنه لا يمكن حتى لعلماء الفلك في يومنا هذا أن يغيروا فيها[4].
ولذلك، فإن الجدال بمجمله في القرن السابع عشر بين غاليليو والكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول إذا ما كانت الأرض تدور حول الشمس أم لا لم تكن له علاقة بالكتاب المقدس. لقد كان غاليليو وكنيسته كلاهما جاهلان بشكل مريع بدلائل الكتاب المقدس ذاته التي تشير إلى تفسيره الصحيح. صحيح ما قاله صاحب المزامير بأن "تثبتت الْمَسْكُونَةُ. لاَ تَتَزَعْزَعُ" (مزمور 93: 1 و 96: 10). وإذ يتحدث عن نفسه، على أي حال، فإنه يؤكد قائلاً أن: "لاَ أَتَزَعْزَعُ" (مزمور 10: 6، 16: 8، 36؛ 55: 22؛ 62: 2؛ 66: 9؛ 121: 3). ويقصد بذلك أن يقول بوضوح أنه لم يتوقع أن ينحرف عن المسار الذي حدده له الله. وعلى نفس المنوال، فإنه لا يمكن للأرض أن تنحرف عن الوظائف التي رسمها لها الله، كما في حركة دورانها حول الشمس[5].
يقول الكتاب المقدس أيضاً أن هناك قانون كوني عام من الانحلال والتفسخ. فالكون بمجمله يتحرك "شاقولياً نحو الأسفل" إلى الفوضى والشواش وليس "شاقولياً نحو الأعلى"، وذلك بواسطة مبدأ نشوئي ابتكاري تكاملي[6]. إن كمية الكتلة/الطاقة الكلية في الكون تبقى ثابتة، لأن عمل الله في الخلق قد انتهى في ختام اليوم السادس: "فَأكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا" (تك 2: 1). وما من شيء آخر أُضيفَ إلى الكون، بل إن ما هو موجود آخذٌ في الانحلال والتفسخ دائماً وفي كل مكان: "السَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ" (مز 102: 25- 27). "ارْفَعُوا إلى السَّمَاوَاتِ عُيُونَكُمْ ....... فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ كَالدُّخَانِ تَضْمَحِلُّ ...... أَمَّا خَلاَصِي فَإلى الأَبَدِ يَكُونُ" (أشعياء 51: 6).
رغم هذا التدفق الكوني للكتلة/الطاقة الذي ينجرف إلى الأسفل في خواصه أبداً، إلا أنه، مع ذلك، يوجد هناك اعتمادية أساسية. بعد الطوفان مباشرةً وَعَدَ اللهُ نوحاً والبشرية التي بعد الطوفان: "مُدَّةَ كُلِّ أيَّامِ الأرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لا تَزَالُ" (تك 8: 22). إن ديمومة واستمرارية الليل والنهار هي ضمانة على أن الأرض ستستمر بالدوران حول محورها بالنسبة إلى الشمس. إن التغيرات الموسمية تفترض الميلان الدائم لمحور الأرض بالنسبة إلى مستوى دورانها حول الشمس. لاحظ، على كل حال، أن هذا "التحول المتماثل المحدود"[7] للحوادث الجيولوجية والفلكية يستمر فقط "إذا بقيت الأرض".
يؤكد إرميا النبي هذا المبدأ الكتابي البالغ الأهمية بقوة: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ الْجَاعِلُ الشَّمْسَ لِلإِضَاءَةِ نَهَاراً وَفَرَائِضَ الْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لِلإِضَاءَةِ لَيْلاً الزَّاجِرُ الْبَحْرَ حِينَ تَعِجُّ أَمْوَاجُهُ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ تَزُولُ مِنْ أَمَامِي يَقُولُ الرَّبُّ فَإِنَّ نَسْلَ إِسْرَائِيلَ أَيْضاً يَكُفُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أُمَّةً أَمَامِي كُلَّ الأَيَّامِ" (إرميا 31: 35، 36). "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنْ نَقَضْتُمْ عَهْدِي مَعَ النَّهَارِ وَعَهْدِي مَعَ اللَّيْلِ حَتَّى لاَ يَكُونَ نَهَارٌ وَلاَ لَيْلٌ فِي وَقْتِهِمَا. فَإِنَّ عَهْدِي أَيْضاً مَعَ دَاوُدَ عَبْدِي يُنْقَضُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ ابْنٌ مَالِكاً عَلَى كُرْسِيِّهِ" (إرميا 33: 20- 21). "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنْ كُنْتُ لَمْ أَجْعَلْ عَهْدِي مَعَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ فَرَائِضَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. فَإِنِّي أَيْضاً أَرْفُضُ نَسْلَ يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ عَبْدِي..." (إرميا 33: 25- 26).
يبدو لي أن هذه التأكيدات القوية نفسها التي في سفر التكوين وإرميا تقدم لنا الإطار الضروري من المراجع لفهم أعجوبة المزولة الشمسية في أيام الملك حزقيا الذي كان على يملك على يهوذا، وحتى يوم يشوع الطويل. إن العلامة التي أعطاها الله لحزقيا (2 ملوك 20: 8- 11) كانت بالتأكيد إحدى أكثر المعجزات تأثيراً في تاريخ العهد القديم. ففي فناء القصر كانت هناك عدة درجات (ليس بالضرورة مزولة كما قد نعتقد عادة)، مرتبة بحيث أن الظل الذي تعطيه الشمس يعطي قيمة تقريبية تعادل وقت النهار. وبناءً على طلب الملك، ومن غير شك في حضور عدد كبير من الموظفين (لعل بعضهم من وزراء الخارجية)، كان الظل يتحرك متراجعاً إلى الخلف لعشر خطوات (أو"درجات").
كيف عمل الله فعلياً هذه المعجزة؟ هل جعل الأرض تتوقف عن دورانها وتتراجع قليلاً إلى الوراء؟ إن جميع المسيحيين الحقيقيين يوافقون على أنه كان بمقدوره أن يفعل هكذا شيء، إذ به تقوم كل الأشياء، أو تتماسك معاً (كولوسي 1: 17). ولكن الكتاب المقدس واضح نوعاً ما أن تلك لم تكن طريقة الله، إذ في إشارته إلى هذه المعجزة، يقول (الأخبار الثاني 32: 24) أن حزقيا "فِي تِلْكَ الأَيَّامِ مَرِضَ إلى حَدِّ الْمَوْتِ وَصَلَّى إلى الرَّبِّ فَكَلَّمَهُ وَأَعْطَاهُ عَلاَمَةً [في العبرية mopheth (מופת)]. ولكن في الآية 31 نعلم أن رُؤَسَاءِ بَابِلَ أرسلوا رسولاً إلى حزقيا "لِيَسْأَلُوا عَنِ الأُعْجُوبَةِ (mopheth) الَّتِي كَانَتْ فِي الأَرْضِ". من الواضح إذاً أنه قد حدثت أعجوبة في مكان جغرافي معين، وهذه لم تتضمن انقلاباً في دوران الأرض، مع ظلال تتراجع عشر درجات في كل أرجاء ذلك المكان من العالم. بل إن الأعجوبة هذه حدثت فقط في مكان معين "فِي الأَرْضِ" (في يهوذا). ولنكن أكثر تحديداً، لقد حدثت فقط في فناء بلاط الملك، فقد "رَجَعَتِ الشَّمْسُ عَشَرَ دَرَجَاتٍ فِي الدَّرَجَاتِ الَّتِي نَزَلَتْهَا" (أشعياء 38: 8).
في قناعتي، إن فهماً صحيحاً لطبيعة هذه الأعجوبة العظيمة يساعد في فهمنا لما حدث في معجزة يوم يشوع الطويل (يشوع 10: 12- 14). بما أن حاجة يشوع كانت إلى إطالة وقت النور (وليس تبطيء حركة دوران الأرض)، فإن حاجته كان يمكن تحقيقها بديمومة فائقة الطبيعة لنور الشمس ونور القمر في وسط فلسطين "نحو يوم كامل" إلى أن أمكن لجيش يشوع استئناف انتصاره العظيم وتدمير أعدائهم على نحو كامل. لقد كانت هذه أعجوبة مذهلة لله. وفي الحقيقة "لَمْ يَكُنْ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ سَمِعَ فِيهِ الرَّبُّ صَوْتَ إِنْسَانٍ. لأَنَّ الرَّبَّ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ" (يشوع 10: 14). لم يكن تغيير اتجاه أشعة الشمس في إحدى ساحات المعارك أو حتى المزولة الشمسية يحتاج من الله قدرات خارقة أو فائقة للطبيعة أكثر منها في أن يوقف دوران الأرض. وعلى نفس المنوال، فلم يكن أقل إعجازاً أو قدرة فائقة للطبيعة لربنا في أن يُنهِضَ رجلاً من الموت، من أن يُقيم كلَّ الناس من الموت في نهاية التاريخ (يوحنا 11: 40 -45؛ قارن مع يوحنا 5: 28- 29).
كوكبة الجبار(الجوزاء).
[4]- للاستفادة من دراسة حول هذه المسألة الحساسة، انظر : ر. ليرد هاريس، "الكتاب المقدس وعلم الكون، نشرة الجمعية اللاهوتية الإنجيلية"، 5: 1 (آذار، 1962) : 11- 17؛ ورسالة إلى المحرر في "مجلة المؤسسة الأمريكية العلمية" 21: 3 (أيلول 1969): 92- 93.
[5]- لمزيد من التحليل عن مناظرة غاليليو، انظر كتاب تشارلز إي. همل، "الثورة العلمية في القرن السادس عشر السابع عشر"JASA 20: 4 (كانون الأول- ديسمبر- 1968): 101؛ جيروم جي. لانغفورد، "غاليليو، والعلم والكنيسة"، طبعة منقحة. (آن أربور: منشورات جامعة ميشيغان، 1971)، ص 1- 158؛ و آر. هويكاس، "الدين ونشوء العلم المعاصر"، ص 124- 126.
[6]- انظر هنري م. موريس في "ما هو علم الخلق؟" الذي كتبه هنري م. موريس وغاري إي. باركر (سان دييغو، كاليفورنيا: منشورات حياة الخلق. 1982)، ص 163.
[7]- "النظرية التماثلية" أو " التحول المتماثل": (uniformitarianism): أو ( (نظرية الحوادث الجيولوجية المتماثلة)): النظرية التي تقول أن نفس الحوادث الجيولوجية قد حدثت في الماضي كما تحدث اليوم، وأن التشكيلات والبنيات الجيولوجية يمكن تفسيرها أو تعليلها بمراقبة الحوادث والعمليات الكونية التي تجري الآن. [فريق الترجمة].
- عدد الزيارات: 6796