Skip to main content

الخلق المفاجيء للكون

إن خلق الكون الفلكي لم يكن فقط من مادة سابقة (ex nihilo) (أي من مادة موجودة سابقاً، كما ورد في عبرانيين 11: 3)[11]، بل كان أيضاً، وبنفس هذه الحالة، فجائياً، أي بشكل مفاجئ وفوري. ولذلك فإن نشوءه لم يكن تلقائياً أو ذاتياً. إن المفهوم النشوئي في التكوين التدريجي لعناصر أثقل فأثقل عبر مليارات السنين تستبعده تصريحات الكتاب المقدس.

بالدرجة الأولى، إن التأثير المباشر الفوري لكلمة الله الخلاقة نجد تأكيداً شديداً عليه في (المزمور 33: 6، 9): "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا. لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ". بالتأكيد لا مجال هنا لفكرة تطور تدريجي، أو عملية محاولة وخطأ، أو تكوين على مدى طويل وخطوة فخطوة. وفي الحقيقة، من غير الممكن أن نتخيل وجود فاصل زمني خلال عملية التحول من العدم إلى الوجود. على نفس المنوال، نجد الآية: "وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ" (تك 1: 3). ففي لحظةٍ لم يكن هناك نورٌ على الإطلاق في أي مكان في الكون ثم فجأة وبلحظة صار نورٌ. هذا الحدث الخَلْقي مثير مذهل جداً لدرجة أن العهد الجديد يقارنه بالاهتداء الفجائي وفوق الطبيعي للمؤمنين (2 كورنثوس 4: 4-6؛ انظر أيضاً 5-17). لعله من المؤكد، وبثقة، أن فكرة الظهور المفاجئ هي الفكرة المسيطرة على كل رواية الخلق (انظر 1:1، 3، 12، 16، 21، 25، 27؛ 2: 7، 19، 22).

هذا يقودنا إلى اعتبار آخر هام يتعلق بخلق الكون الفلكي، أعني به تشابه أعمال الله في الخلق بشخص المسيح خلال خدمته على الأرض قبل حوالي 2000 سنة في فلسطين. بما أن العهد الجديد يوضح أن الكون قد خُلق بالمسيح، ابن الله (يوحنا 1: 3، 10؛ كولوسي 1: 16؛ عبرانيين 1: 2)، وأن المعجزات التي أنجزها (يسوع) إبّان وجوده على الأرض كان يُقصد بها أن يكشفَ طبيعتَه الحقيقية ومجده (يوحنا 1: 14؛ 2: 11؛ 20: 31)، فمن المفيد جداً أن نلاحظ أن هذه الأعمال كان فيها جميعاً تحول مفاجئ. ولذلك، وفي حين أن أحد الفلاسفة أعلن قائلاً: "ما من استراتيجية متزعزعة غامضة وخطيرة مثل التشابه" هناك، فالتشابه الكتابي بين عمل المسيح في الخلق في التكوين وفي الأناجيل يبقى كبيراً ولافتاً بشكل لا يُقاوم.

استجابةً لمجرد كلمة من يسوع المسيح، على سبيل المثال، هدأت فجأة عاصفة هوجاء، وزادٌ كبير من الطعام ظهر للوجود فجأة، ورجل وُلد أعمى فجأة استعاد بصره، ورجل ميت وقف فجأة عند مدخل قبره. ومن بين معجزات الشفاء الهائلة التي قام بها المسيح، الاستثناء الوحيد على فورية الشفاءات هو ذاك الرجل الأعمى الذي استعاد بصرَهُ على مرحلتين، وكل منهما كانت فورية (مرقس 8: 25).[12] هكذا معجزات كانت علامات لا يمكن نكرانها، وتدل على قدرة ربنا الفائقة الطبيعة في إعلانه عن مسيانيته. وإننا متأكدون تماماً أنه لو أَظْهر، في شفائه للمريض والمقعد والأعمى، "استخفافاً مسرفاً بالوقت الذي يمر، هذه السمة التي تميز من يصنع عملاً فنياً"[13]، لما كان أحد ليلقي بالاً إلى إعلاناته وتصريحاته. فلو كان بحر الجليل سيستغرق يومين ليهدأ بعد أن قال يسوع: "«اسْكُتْ. ابْكَمْ»"، لما كان التلاميذ "خَافُوا خَوْفاً عَظِيماً" ولما "قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (مرقس 4: 39- 41).

إن المضامين اللاهوتية الراسخة في هذه الحقائق للفهم المسيحي لنشوء الكون يمكن تمييزها أو إدراكها من خلال تعليق لنشوئي بريطاني بارز: "إن اللاهوتي ينسب صفات معينة لا متناهية لله الذي يؤمن به؛ فيصفه بأنه كلي المقدرة، وكلي العلم، وذو ألوهية غير متناهية. وإن الفكر الذي يكشف عن نفسه في تطور الحياة على هذا الكوكب من الواضح أنه ليس كلي القدرة، وإلا لكان رَكَّبَ على نحو كامل متعضياتٍ مباشرةً من تراب الأرض دونما حاجة إلى أن يمضي عبر العملية الطويلة من المحاولة والخطأ التي ندعوها النشوء".[14]

إن كل محاولةٍ لتعديلِ أو تلطيفِ فُجائيةِ أو فوقَ طبيعيةِ حوادث الخلق لجعلها مقبولة أكثر بالنسبة لـ "الفكر المعاصر" تُولد فقط السعي الحثيث إلى تصغير وتهميش وإبهام السمات الحقيقية لإله الخلق. وكان هذا درساً قاسياً صعباً توجّب على مسيحيين كثيرين أن يتعلموه.

بالدرجة الثالثة، إن حقيقة أن عمل الله في الخلق استغرق ستة أيام حرفياً يُظهر أن عمل الخلق في كل يوم كان مفاجئاً وفائق الطبيعة. من منظار الاعتراض الواسع النطاق على هذا المفهوم، حتى في بعض الدوائر المسيحية، من المدهش لكثير من الناس أن يعلَموا كم هو قوي الجدال الذي يبسطه الكتاب المقدس لتأييد الفكرة، إن قُبل نهجُ علم التفسير الكتابي التاريخي/ النحوي الذي لا مفر منه:

(1) رغم أن الكلمة العبرية المُستخدمة بمعنى "يوم" (yom) يمكن أن تُشير إلى فترة زمنية أطول من 24 ساعة (مثلاً كما نقول"يوم الرب")، فإن ارتباطهم بالصفة العددية يحصر معناها إلى 24 ساعة ("اليوم الثاني"، الخ.، انظر سفر العدد 7: 12- 78).

(2) إن صيغة "مساءًَ وصباحاً" تتضمن مدة الأربع وعشرين ساعة لدورة الأرض حول محورها في إشارة إلى مصدر ضوء فلكي ثابت (ليس بالضرورة الشمس). هذا التغيير نفسه يرد في (دانيال 26:8) و (14:8) حيث أنه يشير من كل بُدٍّ إلى الأيام بحرفيتها.

(3) ما كان لإسرائيلي أن يفهم أيامَ الخلق عند الله على أنها أكثر من 24 ساعة وخاصة بسبب التشابه الواضح مع الدورة الأسبوعية للإنسان من العمل والراحة (خروج 20 :11؛ 15:31-17). إن التعبير ستة "أيام" (بالجمع) لا يمكن أن تكون رمزية أو مجازية.

(4) إن "الأيام" في (تك1: 14) يجب أن تكون حرفية وإلا فإن كلمة "سنين" الواردة في نفس الآية تصبح بلا معنى.

(5) كلمة "يوم" في (2بطرس 3: 8) يجب أن تكون يوماً بحرفيته لكي يصحّ التضاد مع كلمة "ألف عام". إن الله يستطيع أن يفعل في وقت قصير ما يتطلب من الإنسان أو "الطبيعة" وقتاً طويلاً لينجزه (إن أمكنه ذلك). ولهذا السبب فإن البشر الخطاة سيفضلون بشكل طبيعي أن يمدوا أيام الله في الخلق لتغطي فترات طويلة من الزمن.

(6) بما أن كلمة "يوم" في (تك 2: 4) تنقصُها الصفة العددية، فإنها من الممكن أن تشير إما إلى اليوم الأول أو إلى كل أسبوع الخلق. وإلا فإن العبارة ستعني ببساطة "عندما".

(7) لا يمكن اكتساب أي شيء فعلي من إطالة أيام الخلق لتتلاءم مع الجدول الزمني النشوئي في تاريخ الأرض، لأن الأحداث المنكشفة هي عامة في ترتيب معاكس لذاك الذي تتطلبه النظرية النشوئية (مثلاً الأرض قبل الشمس؛ والحيتان قبل الثدييات البرية؛ والطيور قبل الزواحف).[15]

 

الأرض الرفيعة على شكل هلال


الأرض الرفيعة على شكل هلال

رأى طاقم أبولو 15 هذه الأرض الرفيعة على شكل هلال تصعد فوق أفق القمر. في نفس الوقت كنا على الأرض نرى بدراً كاملاً تقريباً(ناسا).

[11]- إن (عبرانيين 11: 3) لا يمكن بالتأكيد أن تعني أن الجوهر المادي الذي يشكّل كوننا المنظور يتألف من جزيئات ذرية "غير منظورة". وليس هناك حاجة إلى إيمان روحي لقبول النظرية الذرية للمادة. إن الفكرة في هذه الآية الأساسية بما يتعلق بالنظرية النشوئية هي أن قوام المادة لم يُوجَد بأي شكل من الأشكال إلا في فكر الله السرمدي الأبدي كلي العلم والمعرفة إلى أن نطق بالكلمة الخلّاقة. انظر (رومية 4: 17).

[12]- هذا الاستثناء الوحيد من بين آلاف الشفاءات الفورية التي قام بها ربنا لا يمكن بالتأكيد استخدامها كأساس لبرهان المفهوم القائل بأن الخلق قد تم على مراحل، خطوة فخطوة (مع كونه فائق الطبيعة). هذه الواقعة الوحيدة المتمثلة بهذه الحالة الاستثنائية الفريدة تفيد في تحذيرنا ضد الذين يزعمون أن تلك كانت طريقة الله في خلق العالم. إن رواية الخلق لا تبين أي إشارة على "خلق" تم على عدة مراحل وأن ذلك امتد على أزمان ودهور طويلة. إن ما يقال عن حقيقة ظهور القمر إلى الوجود في اليوم الرابع، دبون الإشارة إلى وجود مادة سابقة، يدل على خلق "من مادة سابقة" (ex nihilo)، وليس على عملية خلق أخذت عدة مراحل. ويمكننا الاستعانة بقول ربنا في نص آخر: ".... وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ...." (يوحنا 14: 2).

[13]- ليوناردو فيردوين، "الإنسان، الكائن المخلوق: من أي سلف حيواني؟" مجلة "المسيحية اليوم" Christianity Today، 9: 17 (أيار 21، 1965)، 10. حيث يكتب فيردوين من وجهة نظر نشوئية

[14]- جون ل. راندال، "الباراسيكولوجيا وطبيعة الحياة". (لندن: منشورات سوفينير Souvenir Press، 1975)، ص 235.

[15]- من الاعتراضات الشائعة على تفسير أسبوع الخلق استناداً إلى الأيام حرفياً هو أن اليوم السابع لم ينتهِ بأربع وعشرين ساعة لأن الله كان لا يزال يستريح من عمل الخلق الذي عمله (عبرانيين 4: 3- 11). ولكن سفر الخروج (20: 10- 11) يوضح أنه كان على إسرائيل أن يحفظ يوم السبت المؤلف من 24 ساعة، وكان سبت الله نموذجاً عن ذلك. علاوة على ذلك، فإن آدم وحواء لا بد أن يكونوا أحياء خلال ذلك اليوم السابع كله قبل أن يطردهما الله من الجنة. بالتأكيد ما كان ليلعن الأرض في اليوم السابع الذي باركه وقدّسه (تك 2: 3). هناك اعتراض آخر هو أن تلك الآيات مثل (تك 1: 9- 12) تدل ضمناً على عمليات وحوادث تتعلق بالعناية الإلهية على مدى فترات زمنية طويلة. ولكن أياً كانت العمليات التي جرت خلال أسبوع الخلق فإنها كانت سريعة كمثل العجائب التي صنعها ابن الله خلال رسالته العلنية. إن التعامي عن الفرق بين الأعجوبة والعناية في الخلق يشبه اعتبار الحبل العجائبي بيسوع المسيح على نفس المستوى مع ولادته الطبيعية (أي العناية). أظهر إدوارد جي. يونغ أن تك 2: 1- 3 ترسم خطاً فارقاً بين "الأوامر الإلهية الخاصة والخلقية" و عمل عناية الله العادي ("دراسات في تك 1". نتلي، نيوجرسي، المنشورات المشيخية والمصلحة، 1964، ص 58- 65). للإطلاع على مناقشة كاملة للموضوع، انظر كتاب ويتكمب، "الأرض الأولى" (غراند رابيدز: دار بيكر للنشر، طبعة منقحة، 1986)، ص 24- 40؛ وكتاب ويتكمب، "القمر"، ص 76- 83.

  • عدد الزيارات: 6174