Skip to main content

الفصل السادس: هل الحياة مزعجة أم صدفة؟

"وَجَبَلَ الرَّبُّ الإلَهُ ادَمَ تُرَابا مِنَ الأرْضِ وَنَفَخَ فِي انْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسا حَيَّةً" (تكوين 2: 7).

لنعد الآن إلى اللحظات الأولى للحياة على الأرض، ولنجب عن هذا السؤال: كيف ابتدأ كل شيء؟ يرى النشوئيون أن قبل بضع مليارات من السنين، قررّت بعض من المواد اللاعضوية الميتة في موضع معيّن من الأرض، أن تجتمع لتكوين أول خلية حية. وقرارها هذا، كان من تلقاء نفسها ومن دون الاستعانة بأي قوى خارجية، مع عدا الظروف الطبيعية التي كانت سائدة آنذاك.

تنطلق هذه النظرية وأساسها الافتراض أنّ الحياة كان بإمكانها أن تنشأ من المادة الميتة. وكان هذا هو المعتقد السائد في أيام داروين. فالناس كانوا يؤمنون بالتولّد التلقائي (Spontaneous Generation).    فباعتقادهم أن يرقات الديدان تتولد من اللحم الميت، كما أن القمامة هي المسؤولة عن توليد الفئران والذباب والحشرات. ثم جاء لويس باستور (Louis Pasteur)، وبرهن بطلان هذه الأفكار كلّها، وأرسى قاعدة التولّد الإحيائي (Biogenesis) القائلة إن "الحياة لا تنشأ إلاّ من الحياة". كذلك، فقد أثبتت الأدلة الاختبارية أن التولّد التلقائي لا يمت إلى العلم بصلة [1]، غير أن علماء ذلك العصر ظلوا متمسكين بفكرة التولّد التلقائي للحيوانات المجهرية. عندئذ أقدم باستور على غلي بعض المرق للقضاء على أية جراثيم فيه. ثم استعان ببعض الأدوات الزجاجية حتى يكون هناك هواء فوق المرق من دون السماح للجراثيم داخل الهواء من بلوغ المرق. وهكذا أظهر اختبار باستور هذا أن الجراثيم لم تطهر داخل المرق إلاّ بعد دخولها إليه مع الهواء. ولا حاجة إلى القول إن باستور كان مناوئاً عظيماً لنظرية داروين. وهكذا نجد أن نظرية النشوء بافتراضها أن الخلية الأولى نشأت من المادة الميتة، تناقض قانوناً علمياً آخر، هو قانون باستور حول التولّد الإحيائي. أمّا الخلق، فلا يواجه أية مشكلة هنا، بما أن الله الحي هو الذي منح الحياة لكل الكائنات الحية.

عاد النشوئيون مرة أخرى يعتبرون أن هذا القانون ليس سوى تقدير استقرائي لنتائج الاختبارات التي قام بها باستور، فربما لا يصح في كل الظروف والأحوال. غير أن علم الأحياء المجهري يرتكز بجملته على أساس أن الحياة لا تنشأ إلا من الحياة، حتى بالنسبة إلى الجراثيم. إذاً نحن أمام قانون عام وشامل. ولا يستطيع أحدنا تخيّل مقدار البلبلة التي ستعم القطاع الطبي في حال كفّ هذا القانون فجأة عن أن يكون شاملاً، وابتدأت الجراثيم تنشأ من المادة غير الحية.

كان الظن في أيام داروين بأن الخلية البسيطة هي حقاً بسيطة. ثم جاءت العلوم الحديثة لتنقل إلينا حقيقة أن الخلية البسيطة تحوي عدة آلاف من أصناف البروتينات والمواد الأخرى، المتوافرة بالمليارات، إلى جانب شتى أنواع د. ن. أ. (DNA) ور. ن. أ. (RNA)، وغيرها من الجزيئات البالغة التعقيد، والمرتبة جميعها ضمن النظام المعقد على نحوٍ لا يُصدّق. فالخلية "البسيطة" الواحدة تتألف من هذه كلها.

كما كثّف العلماء أبحاثهم حول جزيئات د. ن. أ. والجينات، أدهشهم أكثر فأكثر ما يكتنف الحياة من تعقيد. أما أنا فسأحاول تبسيط الأمور لإعطاء القارئ فكرة موجزة عن انعكاسات موضوع تعقيد الحياة على نظرية النشوء. وهذا الموضوع عالجه بأكثر تفصيل مسيحيون أخصائيون في هذا الحقل الرائع. وللحصول على المزيد من المعلومات، أنا أوصي بقراءة الكتاب باللغة الإنكليزية: (What is Creation Science?) [2].

يتألف كل نظام حي من جزأين أساسيين هما د. ن. أ. والبروتين. وجميع الخصائص البشرية تكون مخزونة داخل نحو مترين من د. ن. أ. الملتفة جميعها بعضها على بعض عندما تبدأ الحياة بشكل كرة صغيرة جداً بحجم النقطة الصغيرة الظاهرة على هذه الصفحة.

إن جزيئة د. ن. أ. هي مبنية كسلسلة من اللآلئ مجموعة معاً، وكل حلقة وصل فيها تعمل عمل حروف الأبجدية باحتوائها التعليمات الوراثية. أما البروتينات فهي سلاسل من الحوامض الأمينية. وكل مجموعة أو سلسلة تلتف حول نفسها بشكل مميز لأداء مهمة مميزة كانقباض العضلات أو عملية الهضم الخ. فهناك مثلاً سلاسل مؤلفة من عدة مئات من جزيئات د. ن. أ. لتوجيه الخلية إلى طريقة إنتاج الهيموغلوبين، وهو البروتين الحامل الأكسجين داخل كرويات الدم الحمراء.

تُشكل علاقة د. ن. أ. بالبروتين، منذ البداية، معضلة رئيسة لدعاة نظرية النشوء. ذلك لأن جزيئات د. ن. أ. والبروتينات، إذا ما تُركت وحدها، فإن المَيْل الطبيعي لتفاعلات الأسيد والحامض الملحي (Base) هو إلى نسف وحدات د. ن. أ. والبروتين في شتى أنواع التركيبات المميتة. وهذا يُفسر الفشل الذريع الذي مُنيت به الاختبارات الشهيرة التي قام بها ميلر وفوكس وغيرهما، في محاولتهم لإنتاج الحياة داخل المختبر، وفي أفضل الظروف [3]. فالحامض الملحي والحامض الأميني خاصة د. ن. أ. والبروتينات إذا ما تُركا للوقت والصدفة ولخصائصهما الكيميائية الخاصة، يتفاعلان بطرائق كفيلة بنزع كل أمل بإنتاج الحياة.

إذاً، لتكوين خلية حيّة، يحتاج العلماء إلى الخلق. لأن الخلق يقدر وحده أن ينظم المادة لتصبح أولى الخلايا الحية. وعندما يأخذ كل جزء مكانه. يزول أي غموض حول الطريقة التي بها تُصنع الخلايا البروتينات. فما نعرفه وما باستطاعتنا تفسيره بشأن د. ن. أ. والبروتينات وقوانين الكيمياء، هو الذي يشير إلى أن الحياة هي نتيجة الخلق.

إن الدكتور مايكل دانتن (Michael Denton)، وهو مُرجعٌ في حقل علم الأحياء الجزيئية  (Molecular Biology)، والذي لم يؤمن بعد بالخلق، يعتبر في كتابه: "النشوء: نظرية تواجه أزمة" (Evolution: A Theory Crisis)، أن فكرة نشوء الحياة كيميائياً هي "مجرّد تحدٍّ للمنطق". وهو يقول أيضاً:

"إن الاكتشاف الأهم، الذي يبرز لدى مراقبتنا سلاسل الحوامض الأمينية التي تتكون منها البروتينات، هو أنه من المستحيل ترتيبها بأي شكل من أشكال المجموعات النشوئية" [4].

وقد كتب لبسون (Lipson)، الفيزيائي البريطاني مقالاً في مجلة النشر الفيزيائية (Physics Bulletin) الصادرة بتاريخ أيار (مايو) 1980، تحت عنوان: "فيزيائي ينظر إلى النشوء" (A Physicist Looks at Evolution) يقول فيه:

"إن كانت المادة الحية، لم تنشأ من تفاعل الذرات والقوى الطبيعية الإشعاعات، فكيف أصبحت موجودة إذا؟" [5]. وبعد رفضه شكلاً من أشكال النشوء الموجّه، خلص إلى القول:

"في ظني أننا نحتاج أن نخطو إلى أبعد من هذا الحد، فنعترف بأن التفسير الوحيد المقبول هو الخلق... وأنا أعلم أن الفيزيائيين يرفضون هذا الأمر، تماماً كما أرفضه أنا... لكن علينا ألا نرفض نظرية لا نحبها في حين تدعمها الأدلة الاختبارية".

إذاً، خلاصة القول من منطلق العلوم الحديثة المختصة بعلم الأحياء الجزيئية، وعلم الوراثة والفيزياء هي أن الحياة معجزة من صنع الخالق.

ومن الناحية الحسابية، فإن احتمال نشوء خلية بسيطة من طريق الصدفة (على افتراض أنه بالإمكان الحصول عليها من المادة الميتة)، قد خضع إلى حسابات عدد كبير من الأخصائيين في الرياضيات. فأحد العلماء الأكثر إيجابية من سواه وُيدعى م. غولاي (M. Golay)، حسِبَ مدى احتمال أن تترتب الجزيئات عن طريق الصدفة ضمن نظام معين. فافترض أن هذا الأمر تمّ على أثر سلسلة من 1500 حدث متتالٍ، معتبراً أن كل حدث من هذه الأحداث كان احتمال حصوله 50 في المئة. وهذا الاحتمال كان بالطبع سيكون أقل بكثير لو أن الحدث تمّ مرة واحدة صدفة. فكانت النتيجة: 1 في 10 450. وبكلام آخر كان مرةً في كل 10 وأمامها 450 صفراً من المرات.

ولإدراك أبعاد هذا الرقم الأسطوري، لنتناول المجموع العام للأحداث المحتملة في الزمان والمكان. ولننطلق في سياق بحثنا قياس الزمن الذي يعتمده النشوئيون والبالغ 3 تريليون سنة (10 20 ثانية)، والمجموع العام لقطر المكان المتوافر والبالغ 5 مليار سنة ضوئية موازية ل10 (130) الكترون. (السنة الضوئية الواحدة تشير إلى المسافة التي يقطعها النور في غضون سنة واحدة على أساس سرعة 800, 299 كيلو متر في الثانية). فإذا تمكنت كل جزيئة من المشاركة في مئة بليون بليون (10 20) حدثت في الثانية، عندئذٍ يكون الحدّ الأقصى المعقول للأحداث التي قد تكون وقعت في كل ما توافر من زمان ومكان: 10 130× 10 20× 10 20= 10 170حدث. وعندما يكون احتمال حصول حدث واحد (في هذه الحال 1في 10 450) أصغر من عدد الأحداث التي بالإمكان حصولها (10 170)، يعتبر الأخصائيون في الرياضيات أن هذا الاحتمال هو صفر.

وفْرِد هويل (Sir Fred Hoyle)، أستاذ علم الفلك في جامعة كامبردج، والمشهور بميوله النشوئية، خصص بعض الوقت لدراسة مدى احتمال نشوء الحياة عن طريق الصدفة، فكتب ثمرة أبحاثه تحت العنوان "لا بدّ من وجود الله" (There Must be a God) في "مجلة إكسبريس لندن اليومية" (London Daily Express) في عددها الصادر بتاريخ 14 آب (أغسطس) 1981. كانت هذه هي الخلاصة التي حصل عليها بعد تحليل الحسابي مُفصّل للاعتقاد أنه كان بإمكان الحياة أن تنشأ على أساس عوامل الزمن والصدفة وخصائص المادة. وقد شبّه فرد هويل هذا الاعتقاد بقوله: "إذا هبّت رياح شديدة على بقعة من الأرض تغطيها قطع مختلفة من الحديد، أفيُعقل أن تجتمع هذه القطع الحديدية المتنوعة لتكّون طائرة بوينغ 747؟" [6].

نطالع في الجرائد، كما نسمع تقارير مفادها أنه تمكن العلماء من إنشاء حياة في مختبراتهم، فلا تصدق هذه التقارير، بل تفحصها جيداً، منتبهاً بشكل خاص إلى الأساليب المعتمدة. من ثم، يتبيّن لك أن العلماء لم يحرزوا أي تقدم لجهة خلق الحياة أو حتى أبسط أشكال الخلايا. وفي بعض الحالات، استخدموا مواد كيميائية واستعانوا ببعض المصادر المعقدة للطاقة، والتي لم تكن متوافرة في العالم البدائي. وحتى باعتمادهم هذه الأنظمة غير الواقعية، لم ينجحوا في  صنع إلى بعض الكيميائيات. إن هذه النتيجة منطقية، لكنها لا تزال بعيدة جداً عن الخلية، كما لا حياة لها بالطبع.

هذا، وإن جميع أفرقاء العمل هؤلاء من حملة شهادة الدكتوراه، مع أعاظم العلماء الأخصائيين في حقولهم، وهذه الأموال كلّها التي تمّ رصدها للقيام بالأبحاث، والآلات والأجهزة الحديثة مع الكومبيوتر في أحدث مختبرات العالم، هذه جميعها لم تتمكن قط من إنشاء خلية بسيطة من المادة الميتة. ومع هذا يريد لنا النشوئيون أن نعتقد أن الأمر حصل بهذه البساطة ومن تلقاء نفسه قبل بلايين السنوات، وفي ظنهم أنهم في رجوعهم إلى الماضي المظلم، لن يتمكن أحد من التشكيك في ادعاءاتهم. إلاّ أن الحقائق واضحة كنور النهار.

إذاّ، لم تتمكّن الخلية الأولى أن تظهر من قبيل الصدفة، لا علمياً ولا حسابياً ولا منطقياً. إننا في حاجة إلى ما هو أكثر من الإيمان لتصديق هذا الأمر الذي حصل صدفة والذي يعتبر النشوئيون أنه يدخل في إطار العلم.

References in English:

1. Lamont, A. 21 Great Scientists Who Believed The Bible, Creation Science Foundation, Brisbane, 1995, p. 148.

2. Morris, H. M. and Parker, G. E. What is Creation Science? (revised ed.), Master Books, El Cajon, California, 1987.

3. ibid. p. 39.

4. Denton, M. Evolution: A Theory in Crisis, Adler and Adler, Bethesda Maryland, 1985, p. 289.

5. Lipson H. S. "A Physicist Looks at Evolution", Physics Bulletin, May 1980, p. 138.

6. Hoyle, Sir F. as quoted in "There Must he a God", Daily Express, 14 August 1981.

  • عدد الزيارات: 4529