Skip to main content

الفصل الثالث: لم هذه الجلبة؟

الجزء الثاني: خلق أم نشوء وتطوّر


"لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ؛ فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ" (2 تيموثاوس 4: 3 و4).

إن الزمان الذي تحدّث عنه الرسول بولس، ها قد حضر الآن. لأنه لم يسبق قط في تاريخ البشرية أن نجح قلة من الناس في تضليل جموع هذا عددها. كذلك، ما رأينا قط مجهوداً موحّداً لخداع الناس وإبعادهم عن منطقهم وإيمانهم، كما نرى اليوم. ولم يسبق قط للشيطان أن تبوأ مراكز قيادية هذا عددها في الجامعات ومختبرات العلوم في كل أنحاء العالم كما هي الحال في هذه الأيام. وأينما حلّ هذا الخدّاع، يحاول جاهداً تضليل الناس بالأكاذيب، لكي يعود فيستعين بضحاياه المخدوعين للتأثير سلباً في التلاميذ وغسل دماغهم منذ نعومة أظفارهم.

إن أول سؤال مدّون في الكتاب المقدس، "أحقاً قال الله"، كان الشيطان قد طرحه بعد أن أخذ شكل الحية، أحيل جميع الحيوانات في جنة عدن (تكوين 3: 1). أمّا الهدف وراء هذا السؤال، فكان محاولة حمل حواء على التشكيك في كلمة الله. وهكذا تمكّن، في غضون فترة وجيزة جداً، أن يخدع نصف سكان العالم آنذاك، أي حواء، التي توصلت بدورها أن تحصل على دعم زوجها، أي النصف الباقي من العالم. وكيف تمم الشيطان ذلك؟ من طريق الكذب، والتشكيك في كلمة الله، وزرع بذور الريبة في ذهن حواء. ومن المؤسف جداً أن حواء سقطت في الفخ، إذ أصغت إلى الشيطان، وشككت في كلمة الله، وعصت.

لم يطرأ أي تغيير على الأساليب التي يعتمدها الشيطان، مع أنها تبدو على جانب أكبر من التعقيد ملاءمةً لروح العصر. لقد حاز، في هذه الأيام، المئات من شهادات الدكتوراه، كما أنه يترأس العديد من دوائر العلوم في أرقى جامعات العالم. ودأبه، في ذلك كلِّه، دفع الناس إلى التشكيك في كلمة الله، وإذ ذاك يتخذ غير المؤمنين العلوم عذراً للاستمرار بعيدين عن الحق، والمؤمنون يقضون سنوات ثمينة من حيواتهم عاجزين عن الشهادة للرب، وعن التمتع ببركاته. ومن المؤسف جداً أن الشيطان كان ولا يزال يُحرز انتصارات في هذا المجال. ففي المدارس والجامعات والأوساط العلمية، وحتى داخل بعض الجماعات المسيحية، يتحول الناس عن الحق بعض تعرّضهم لعملية غسل دماغ جعلتهم يؤمنون بالنشوء.

ولإقناع الناس بتصديق هذه النظرية التي لا تصدّق، ينبغي لعملية غسل الدماغ هذه أن تبدأ بالأولاد في سن مُبْكِرة، إذ يقبلون كل ما يقولونه هؤلاء المدعوون علماء، ولا يرتابون في أمره البتة.

فلنواجه إذاً هذه المسألة، رافضين أن نطمر رؤوسنا في الرمال. ففي معظم المدارس، ثمة معلمون كان الشيطان قد خدعهم بأكاذيبه خلال سني تخصصهم في الجامعة. وها هم الآن مصممون على تدريس النشوء كجزء من العلوم وكحقيقة، لأولادنا ولشبابنا، وهم بَعْدُ في الرابعة أو الخامسة من عمرهم. وهؤلاء المعلمون أنفسهم- وأحياناً معلّمو الثقافة الدينية- يأخذون موقفاً هجومياً من أي شخص لا يزال يؤمن بالقصة الكتابية عن الخلق، أو بفلك نوح. وبالنسبة إليَّ أنا شخصياً، لقد كانت لي أحاديث طويلة مع المعلمين، علّموا أولادي حين كانوا في الخامسة من عمرهم، أن قصة فلك نوح إنما هي قصة خرافية. كذلك علّموهم أن يعسر على أي شخص ملّم في العلوم أن يؤمن بالخلق. أما المعلمون المسيحيون الحقيقيون فيخافون أن يأخذوا موقفاً صريحاً من هذا الأمر لئلا يتعرضوا إلى فقدان وظائفهم. فالمؤمنون المستعدّون لدفع الثمن في وقوفهم بجانب الرب، هم قلّة. هؤلاء يحسبون أنّ ما يدفعونه من ثمن هو زهيد، بالمقارنة بما فعله المخلّص على صليب الجلجثة. هذا، وأن موقف المعلمين غير المؤمنين من هذا الموضوع هو هجومي خالٍ من المنطق، يدفعهم إلى رفض جميع الأدلة العلمية المعروضة عليهم.

في ما يلي، نتناول قضية الخلق مقابل النشوء، هذه المسألة الهامة جداً التي تمسّ حياة كل واحد منا من دون أي استثناء، إذ إنها تعالج موضوع البداءات وأصل الأشياء كلّها. فمن أين جاء هذا الكون كلّه، مع شمسه ونجومه؟ وما هو مصدر كوكبنا الأرضي مع أصناف الحياة النباتية والحيوانية عليها؟ ولعلّ الأهم من هذا كله، ذلك السؤال الذي طالما طرحناه، وحصلنا على شتّى أصناف الأجوبة المتناقضة: من أين أتينا، نحن؟

ما هو أصل الجنس البشري؟ وهل نحن حصيلة انفجار هائل، وقع قبل مليارات السنين، ثم تلته سلسلة أحداث، قررت، على أثرها، بعض المواد المعدنية الجامدة والخالية من الحياة، أن تجتمع لتشكّل أول خلية، راحت منذ ذلك الوقت تتطور إلى أن أصبحت كائناً بشرياً؟ أم نحن حصيلة عمل محبة، قام به الخالق الحنون قبل آلاف السنين، عندما خلقنا في اليوم السادس من أسبوع الخلق، وصنعنا على صورته لنكون في شركة معه ونحيا معه إلى الأبد؟

ثمة نظيرتان رئيستان بشأن أصل الأشياء. فهناك نظرية النشوء والتطوّر العضوي العامة، والتي كان قد أطلقها تشارلز داروين [1] وأعوانه خلال القرن الفائت، ثم جرى تطويرها لتصبح ما يُعرف الآن بالداروينية المستحدثة (Neo-Darwinism). وتقول هذه النظرية إن جميع الكائنات الحية نشأت من مصدر وحيد بشكل طبيعي ومادي، مع العلم أن هذا المصدر عينه، جاء بدوره من العالم الميت والعديم الحياة على أساس عملية نشوء مشابهة. وهذه النظرية يُطلق عليها أيضاً التسمية: نظرية من الجزئية إلى الإنسان.

وهناك حادثة الخلق، المدوّنة في سفر التكوين [2]، أول أسفار الكتاب المقدس، والذي كان الله قد أوحى به لعبده موسى قبل نحو 3500 سنة. وتنص هذه الحادثة على أن جميع أنواع الحيوانات والنباتات الأساسية، دخلت حيّز الوجود نتيجة عملية خلق، من نوع خاص، قام بها الله مرّةً ولم تتكرّر.

وهكذا باستطاعة المرء أن يلاحظ على الفور أن لا مجال للتوفيق بين هذين الرأيين، وذلك على الرغم من المحاولات العديدة التي بُذلت بهذا الخصوص. ففي نظرية النشوء لا مكان لله الذي في اهتمامه بخليقته أرسل ابنه الحبيب، الرب يسوع، ليموت على الصليب ويخلّصنا من الموت الأبدي. كذلك، لا مكان لنظرية النشوء، عندما يقبل أحدنا بسلطان الكتاب المقدس وبوحيه الإلهي.

أما إذا رفض الإنسان رواية الكتاب المقدس عن الخلق والطوفان، فيتحتم عليه، في هذه الحال، أن يرفض أيضاً جميع المبادئ الأدبية والأخلاقية. ورُبَّ سائلٍ يقول: "وهل هذا الأمر على جانب كبير من الأهمية؟" بالطبع هو كذلك. فبقولنا إن سفر التكوين ليس هاماً جداً، نفقد عنصر الجدّية في موقفنا من الكتاب المقدس كلّه. ولا يفوتنا أن العهد الجديد يحتوي وحده على أكثر من مئة اقتباس من سفر التكوين. وهو صاحب التصريح الواضح: "لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟" (يوحنا 5: 46 و47). إلى ذلك، نجد في سفر التكوين مصدر العديد من العقائد المسيحية، ومنها: الخلق، الخير والشر، أصل الخطية، قداسة الله، عقاب الخطية، الموت، الوعد بمخلّص، الزواج، الثياب.

فإذا كان الله هو الخالق، والمسيطر على كل شيء، فهو إذاً الذي يسنّ القوانين والأنظمة. وهكذا نجد أن الله رسم في سفر التكوين المقاييس الأدبية التي يقوم دعاة النشوء بالدوس عليها في أيامنا الحاضرة. ففي تكوين 2: 24 مثلاً، يطالعنا أساس الزواج: "ويكونان جسداً واحداً". والإشارة هنا هي إلى الرجل والمرأة، "ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ" (تكوين 1: 27). وفي هذا دحض لكل ما يُسَوِّغ ممارسة اللواط، هذه الآفة التي يقبلها دعاة النشوء. وقد عاد الرب يسوع ليؤكد في العهد الجديد التعليم المختص بهاتين المسألتين، إذ قال: "أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى وَقَالَ، مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ" (متى 19: 4- 6).

كما أن قدسية الحياة البشرية ترتكز على حقيقة أن الله خالق هو وحده الذي يعطي الحياة والذي يأخذها، راسماً بذلك الأنظمة المتعلقة بالإجهاض وبالقتل برصاصة الرحمة. غير أن النشوئيين يرفضون جميع هذه المسائل على اعتبار أن البشر هم حصيلة المصادفة والحظ، ما يخوّلهم بالتالي رسم مقاييسهم الأدبية الخاصة. وإن كان الناس هم نتيجة بقاء الأصلح، فعندئذ يصبح قتل غير الصالح والذي لم يولد بعد، جزءاً من عملية النشوء. وإذا كان البشر قد تحدّروا من القردة، فعندئذ يكون الإجهاض أشبه بقتل  أي حيوان آخر. لذا، فإن النشوئيين يدوسون. على قدسية الحياة البشرية، من دون أية ندامة أو أسف. وهكذا نجد أن الفلسفة النشوئية: "لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت" (1 كورنثوس 15: 32) سوَّغتْ أعمال التمييز العنصري والحروب واستغلال الناس وغيرها من أمور كثيرة. فيما أن مضامين النظرية كثيرة وخطرة، ينبغي لنا أن نطلّع على الحقائق، ونتّخذ موقفاً صريحاً من دون أية مساومة.

سوف نتعرف بعدد وافر من الأدلة لمساعدتنا على التمييز بين الخلق والنشوء. وإذ أحثّك على تفحّص كل فكرة بالتدقيق، أرجو أن تستخدم ذهنك إلى التمام، كما لم يسبق لك من قبل. ونحن، معثر المؤمنين، الذين لنا فكر المسيح (1 كورنثوس 2: 16)، ولنا ذهن متجدّد وثاقب ومميَّز وصافٍ ورزين، لنستخدم هذا الذهن إلى أقصى الحدود.

أمّا الذين لم يقبلوا بعد الرب يسوع مخلّصاً شخصياً لحياتهم، فأرجوا أن يتفحّصوا الأدلّة بالإخلاص في معرض بحثهم عن الحق.

References in English

1. Darwin, C. The Illustrated Origin of the Species, (A bridged and introduced by Richard leaky), Book Club Associates, London, 1997.

2. The Holy Bible, King Games Version: Cambridge University Press, UK, 1981.

 

 

  • عدد الزيارات: 3603