Skip to main content

المقدمة

إن سلطان الكتاب المقدس، بصفته كلمة الله الكاملة، كان عبر العصور، ولا يزال، محطّ تشكيك واسع النطاق. وفي الآونة الأخيرة، عنفت هذه الظاهرة وارتفعت حدّتها بنسب عالية جدَّاً. ووراء هذا كله مجموعة من "العلماء" الذين يزدادون تهجماً مع مرور الوقت، والذين يحاولون الترويج لنظرية النشوء كأنها حقيقة علمية. فما تَوَلَّد قديماً في أذهان الناس من ثقة بالعلماء الحقيقيين، استغلّه اليوم علماء ملتوون لبثّ علمهم الكاذب الاسم.

وكان بولس قد كتب إلى تيموثاوس قبل نحو ألفي سنة محذّراً إياه من "مخالفات العلم الكاذب الاسم الذي إذ تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان" (1 تيموثاوس: 6: 20، 21).

وبالنسبة إليّ أنا شخصياً، فقد تعلّمت في حداثتي أن أحترم الكتاب المقدس لكونه كلمة الله الكاملة. وبما أني وُلدْتُ في عائلة مسيحية، تسنّى لي أن أعرف عن الرب يسوع المسيح، منذ طفولتي، من خلال تعاليم والديَّ التَّقِيَيْن ومثال حياتهما. وإذ أتذكّر أبي الذي هو الآن مع الرب، ترتسم في مخيلتي صورة رجل الإيمان الذي عاش قريباً من مخلّصه. كان حقاً صديقاً لله، ولديه دائماً ما يحادث الآخرين عن مخلّصه العجيب، ولا سيما حين يجلس في كرسيه وكتابه المقدس مفتوح في يده. وأمي بدورها، كانت لا تزال امرأة مصلّية. وإذ لاحظتها تعيش كل كلمة تتفوه بها، شعرت بأن أمنيتها العظمى في الحياة هي أن ترى أولادها جميعهم يُقبلون إلى معرفة مخلّصها معرفة شخصية. لقد كان لهذا كلِّه، الوقع العظيم في حياتي، حتى تولّدت في داخلي رغبة عارمة في التعرف بهذا المخلّص. وهكذا استُجيبت صلواتهما عندما قبلت، أنا الابن الأصغر في العائلة، الرب يسوع مخلّصاً شخصياً، وأنا في الثاني عشرة من عمري.

كنت أنمو، وهكذا كان إيماني بكلمة الله وإدراكي لها. ومن جهة أخرى، نَمَتْ أيضاً المشاكل التي واجهتها. ومن أولى هذه المشاكل، علاقة العلم بالكتاب المقدس، وهي معضلة شقَّ عليَّ معالجتها. ذلك لأن معظم معلّميّ كانوا يدّعون أن العلم ينقض الكتاب المقدس، وأنه يستحيل على للمرء أن يكون مثقَّفاً وفي الوقت عينه مؤمناً بالله وبالكتاب المقدس. أمّا أنا فكنت مقتنعاً في قرارة نفسي بأنه لا بدَّ من وجود أجوبة عن تساؤلاتي، وبأنه لا بدَّ لي من البحث عنها. وهكذا بدأت رحلتي الطويلة في التفتيش عن هذه الأجوبة، مستشيراً مؤمنين آخرين من حملة الشهادات العليا في حقل العلم. غير أن سعيي هذا لم يعمل إلاّ على تفاقم الأمور من زيادتها تعقيداً.

لقد اكتشفت أن المسيحيين المؤمنين كانوا قد أصيبوا بالذهول والارتباك، خلال المراحل الأولى لرواج نظرية النشوء. وعلى هذا الأساس، سارعوا إلى صياغة الحلول المبنية على المساومة على الحقل الإلهي، محاولةً منهم لدمج نظرية النشوء في الكتاب المقدس.

وقد حصل ذلك، في معظم الأحيان، على حساب دقّة كلمة الله. وفي حالات كثيرة، توصّل بعض مدّعي الإيمان المسيحي إلى حدِّ رفض بعض النصوص الكتابية، كالفصول الأحد عشر الأُول من سفر التكوين، وذلك إرضاءً "للمجموعات العلمية".

لم أستطع، البتة، قبول هذه الظاهرة. فإيماني كان مؤسساً على كلمة الله، وخلاصي كان يقيناً. لذا كان من الضروري أن يكون الكتاب المقدس صادقاً وكاملاً في كل أسفاره، من التكوين إلى الرؤيا. فإمّا أن يكون الكتاب المقدس هو كلمة الله في الحقيقة، بمعنى أنه يجب أن يكون صادقاً بأكمله، وإمّا أن لا يكون، وإذ ذاك لن أعود في هذه الحال، في حاجة إليه. ففي نظري، كان الكتاب المقدس كل شيء، أو لا شيء.

وهكذا قضيت عدة سنوات، وأنا أبحث هذا الموضوع. ففي المدرسة، كانت مادة العلوم تفتنني. لقد كان بإمكاني أن أجد بعض أوجه الشبه بين العلوم وبين إيماني المسيحي. فالهندسة، إحدى أكثر المواد التدريسية منطقاً، تُبنى على حقائق مقررة أو بديهيات. وهذه الحقائق هي بمثابة تصريحات بيّنت بحدّ ذاتها وبديهياً مع أنه لا يمكن برهانها. وعلى هذا النسق عينه، يتأسس إيماني المسيحي على بديهيتين بيّنتين بحدّ ذاتهما ومنطقيتين: الله موجود، والكتاب المقدس هو كلمته.

كذلك فتنتني الاختبارات العلمية في المختبر. ففي جمعنا الكلور، هذا الغاز السام، مع الصوديوم، المعدن المتفاعل، نحصل على كلوريد الصوديوم، أو الملح الذي هو مفيد بل ضروري للإنسان. وقد ذكّرني هذا بإيماني: فالطبيعة البشرية التي سمّمتها الخطية (غاز الكلور)، باستطاعتها الاتحاد بالمخلص بواسطة عمله على صليب الجلجثة، فينتج من ذلك خليقة جديدة (الملح). قال الرب: "أنتم ملح الأرض" (متى 5: 13).

فبدراستي لموضوع العلم والكتاب المقدس، إلى جانب اطّلاعي على نتائج الأبحاث التي أجراها مؤمنون آخرون يدينون بسلطان الكتاب المقدس في كل النواحي، وجدت حقائق مدهشة عن الكتاب المقدس، دفعتني إلى مشاركة أكبر عدد من الناس فيها. فأنا أوجّه كتابي هذا إلى المؤمنين لتقوية إيماننا بكلمة الله، وإلى غير المؤمنين لأضعهم أمام التحدّي العظيم الذي نطق به الرب يسوع في الكتاب المقدس: "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 3: 7).

لماذا العلم؟

غالباً ما يُطرح عليّ السؤال التالي: "لماذا العلم؟ ألا يكفي الإيمان؟" طبعاً، الإيمان يكفي. فنحن ننال الخلاص بالإيمان. إلاّ أنّ هذا الإيمان يجب أن يرتكز على كلمة الله الثابتة: "بالإيمان تفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله حتى لم يتكوّن ما يُرى ممّا هو ظاهر" (عبرانيين 11: 3). كما أن كلمة الله تحتّ كل مؤمن بالقول: (كونوا) "مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم" (1 بطرس 3: 15). إذاً، الرب يدعونا إلى إعطاء أجوبة.

فأولادنا يرجعون إلى البيت وفي جعبتهم تساؤلات عن نظرية النشوء. فإذا أخفقنا في توجيه الجواب المناسب والمقنع، فقد يفقدوهم كلَّ اهتمام بالكتاب المقدس. هذا الكتاب الذي يَعُدُّه معلّموهم وزملاؤهم منا قضاً للعلم. فلا تخدعنّ أنفسنا بظنّنا أن واجبنا هو حثّهم على الإيمان وعلى تجاهل ما يتعارض مع الإيمان، ممّا تعلموه. لكنْ، ليُعلمْ أنّ هذا الأسلوب لا ينفع مع التلاميذ في عصرنا الحاضر، ولا أخالني أنه قد برهن فعاليته مع التلاميذ في أي عصر. إنهم، وبكل تأكيد، في حاجة إلى الإيمان، إلاّ أن هذا الإيمان يجب أن يتأسس على الكتاب المقدس، الكتاب الكامل والقادر على الصمود في وجه أي امتحان، إذ إنه كلمة الله الخالق. وما لم نمدّ شبيبتنا بالأجوبة الصحيحة وبالردود المقنعة على نظرية النشوء، فإن عديدهم سيتزايد في هجر الكنائس.

وبالمقابل، إن كنا نحن المؤمنين لا نقبل بالوحي الحرفي لكلمة الله، وبأنها دقيقة وصادقة في كل تفاصيلها، بما في ذلك الفصول الأحد عشر الأُول من سفر التكوين، فلن يتسنى لنا أبداً حيازة فيض البركات التي وعدنا بها الله.

ولماذا أخصّص كل هذا الوقت لهذا الموضوع؟ تتبادر إلى ذهني ثلاثة أسباب:

1- لقد استخدم الرب هذا الموضوع للوصول إلى عدد كبير من النفوس الضالة والهالكة، والتي لم تتعوّد ارتياد الكنائس، أو قراءة الكتب الروحية. فأنا أحرص دائماً في محاضراتي، على تقديم رسالة الإنجيل الواضحة عن الخالق الذي أصبح مخلّصنا الشخصي بموته على صليب الجلجثة بديلاً منّا. فشكراً لله على أولئك الذين اتّخذوا الخالق المجيد مخلّصاً شخصياً لهم، بعد انهيار دعائم نظرية النشوء والتطوّر التي قضى الشيطان سنوات في بنائها حاجزاً بينهم وبين كلمة الله.

2- سبّبت نظرية النشوء متاعب عديدة لكثيرين من المؤمنين، ولا سيما الشباب بينهم. ذلك، لأن ادّعاءات العلم الكاذب الاسم قد عملت على زعزعة إيمانهم وتقويضه، في غياب أي دعم عملي يمدّهم به مؤمنون آخرون. ولكن عندما نرى معالم الرضى ترتسم على محيّاهم بعد سماعهم البراهين المقنعة، يسهل علينا بذل كلِّ مجهود وتضحية. وكم من الشباب والشابات يكتبون إليّ عن التي زوّدهم بها الرب إبّان شهادتهم له، على أثر وثوقهم التام بسلطان كلمة الله. فها هم الآن يجاهرون بكل إقدام برسالة الإنجيل وبشهادتهم أمام الجميع من حولهم، في حين كانوا قبلاً يخجلون بالدفاع عن إيمانهم. وكل هذا إنما يدعوننا إلى رفع حمدنا وتشكراتنا إلى خالقنا ومخلّصنا.

3- أخيراً، ارتعش من شدة الفرح في كل مرة أقرأ عن اكتشاف علمي، ويتبين لي أنه يتوافق، على نحوٍ لافت، مع مضمون الكتاب المقدس؛ ومن جهة أخرى يناقض، بكل وضوح، نظرية النشوء. وهذا يذكّرني بكلمات المرنّم: "السموات تحدّث بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه"، وأيضاً "إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كوّنتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده" (المزمور 19: 1؛ 8: 3 و4). حقاً، يليق بإلهنا العظيم كلُّ تسبيح.

إذاً، أنا أؤمن بأن الرب قد دعاني إلى الخدمة في هذا الحقل. فخلال دراستي لهذا الموضوع، على مرّ السنين، علّمني الرب ضرورة قبول كل شيء في الكتاب المقدس من دون محاولة تفسيره بحسب أفكاري وآرائي مهما كان مصدرها.

وفي هذا الكتاب، نتطرّق إلى موضوعنا من ثلاثة أوجه رئيسة: العلم والكتاب المقدس؛ خلق أم نشوء؛ والبرهان على الطوفان وعلى فلك نوح. أمّا الفقرة الأخيرة الختامية فأخصِّصها للدروس والعبر الروحية التي قَبِِلْتُها من الرب خلال دراستي لهذا الموضوع.

  • عدد الزيارات: 3381