تمهيد
يركّز الكتاب المقدس، من بدايته إلى نهايته، على أن الله الكلي القدرة والحكمة، هو خالق الكون وكل ما فيه. "وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1: 3). ومع هذا جرى، عبر التاريخ، عرض آراء بديلة في ما يتعلق بالبداءات. فبعض هذه الأفكار من الأزمنة القديمة، اعتُبرت أسطورية بسبب غرابتها وبُعدها عن الواقع، واستحققت، إذ ذاك، أن يسخر الناس بها. إلا أن هناك أفكاراً أخرى ونظريات، حديثة العهد أكثر من سابقاتها، صُنفت علمية. لذا نظر إليها الناس بكل جدية على اعتبار أنها محترمة وأكاديمية ومنطقية. لكن، هل هي كذلك فعلاً؟ وما هو السبب الحقيقي وراء طلب الناس بدائل للخلق؟
يبين هذا الكتاب، بكل وضوح، أن نظرية النشوء، ألا وهي النظرية الشائعة بين هذه النظريات كلها، ليست منطقية ولا حتى علمية. فالنشوء نظرية بعيدة عن المنطق السليم، وعن العلم الصحيح أيضاً. ذلك لأنها لم تخضع لأي امتحان، ولا تبرهنت اختبارياً كما يحتم كل علم صحيح. لكنها مجرد فرضية معقدة، تم جمعها على أساس التقدير الاستقرائي لبعض المعلومات بعيداً عن مجال تطبيقها، ومن قبيل التمني والسفسطة المربكة. إنها نظرية مقترحة، لا حقيقة ثابتة. وقد أُجريت عليها مراراً تعديلات وتنقيحات، نذكر من جملتها على سبيل المثال، الداروينية، والداروينية المستحدثة. والمشكلة في نظرية النشوء هي أنها قد تم قبولها والتمسك بها، على الرغم من الأدلة المضادة لها، وفي غياب البرهان الأكيد على صحتها. وهكذا تبناها الناس على نطاق واسع وتلقفوها بشغف، لأن البديل، (أي الله)، كما صرّح لي عدة تلاميذ، "هو غير مقبول بل مستحيل". وعلى هذا الأساس، تمّ الترويج لها كأنها حقيقة، مع أنها مجرد خيال.
وهذا لا يعني أن العلم برهن عدم وجود الله، إذ إن العلم كان لا يزال عاجزاً عن خوض هذه المعركة الخاسرة؛ إنما يشير بالحري إلى أن عدداً هذا مقداره من العلماء- وغير العلماء أيضاً- لا يريدون الإقرار بوجود الله، لئلا يجدوا أنفسهم مسؤولين عن تصرفاتهم تجاهه. وهكذا أمست نظرية النشوء عذراً شائعاً لعدم الإيمان بالله، كما أنها دعمت مجموعة أخرى من النظريات، كالنظرية النسبية، والحركة الإنسانية، والمادية، ولا سيما النظرية الإلحادية. أمّا النتائج العلمية المترتبة على هذا كله، فهي بارزة في مجتمعات المعاصرة في كل أنحاء العالم. حقاً، إنه لأمر مأساوي أن نرى ما يحصل للناس عندما "لا يحسنون أن يبقوا الله في معرفتهم" (رومية 1: 28).
ظل العديد من المسيحيين، لوقت طويل، يشعرون بعجزهم عن التصدّي لتهديدات نظرية النشوء، أو الردّ عليها. وإزاء ذلك، تفاوتت المواقف وتنوّعت من الرفض الكامل لهذه النظرية ولمواجهتها، إلى المساومة على الحق بتعديل معاني بعض العبارات الكتابية، ثم إلى التخلّي عن مقاطع كتابية بأكملها. لكن، كيف تسنّى لهم اختيار هذه المقاطع؟ أمّا اليوم، وبفضل تزايد الفرص لتحصيل العلوم العالية خلال الجيلين الماضيين، فقد أصبح هناك عدد لا يُستهان به من المسيحيين القادرين، بل المستعدين لمواجهة تحديات هذه النظريات الإلحادية، بشكل مباشر. هؤلاء درسوا كلاًّ من العلوم النظرية والتطبيقية بالتفصيل وفي العمق، فتعرّفوا بأساليبها، وبأفكارها، وبمحدوديتها. وهذا كلُّه يؤهلهم للكتابة والتكلم بسلطان حول مسائل طالما رَعَتْ تضارباً وتناقضاً بين العلم والكتاب المقدس. ومؤلف هذا الكتاب هو واحد من جملة هؤلاء العلماء، دأبه أن يُظهِر أن "العِلْم يُثبِت سلطان الكتاب المقدس". كما أنه يجيب عن العديد من التساؤلات التي يطرحها الشبان والشابات، والشكوك تراود أذهانهم.
ففي أيامنا، ينتشر العلماء المسيحيون في كل أنحاء العالم. وشهادتهم هي أن العلم الأصيل لا يناهض الكتاب المقدس، ولا الخضوع لله ولسلطانه، ولا الإيمان بالمسيح والإركان إليه. لكنّ العالِم المتعجرف الذي يسخر بمضمون الكتاب المقدس، ما زال يجد آذاناً صاغية، إذ إنّ بعض العلماء تروقهم هذه المواقف. بيد أنّ هذه النظرة تبقى خالية من أي منطق، ومصداقيتها تقلّ وتنخفض كلما ازداد عدد الشباب، ذوي الذهن المنفتح والمتجرّد، الذين يكتشفون التوافق التام بين الحقائق العلمية والإعلانات الإلهية في الكتاب المقدس.
وأنا الذي سبق لي أن علّمت مادة الكيمياء لطلاب الجامعات، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وأجريت أبحاثاً ونشرت عدة مقالات في المجالات العلمية، كما أنه تسنّت لي فرص عديدة لإلقاء المحاضرات أمام مجموعات كثيرة من التلاميذ، حول موضوع انسجام العلم مع الإيمان المسيحي، يسرّني كثيراً الآن أن أشير على البالغين ولا سيما الشباب منهم، أن يقرأوا هذا الكتاب. ذلك لأن مادة كهذه، كفيلة بتثقيف أذهان المتسائلين وإنارتها، وبدحض الانتقادات التي تُوجَّه زوراً وبهتاناً، وبإقناع النفوس الباحثة عن الحق، والباحثة عن معنى لوجودها، والباحثة عن الله. فالله أعلن ذاته في المسيح، ومَنْ تعرّف به تعرّف بأثمن ما يمكن معرفته، وحصل على أعظم وأسمى ما في الكون: إنها الحياة الأبدية (راجع يوحنا: 17: 3). أما نظرية النشوء فترمي الناس في دياجير الظلام، بلا هدف ولا هدى ولا رجاء.
روبرت و. كارجل، الحائز شهادة دكتوراه ومحاضر متقدّم في الكيمياء في جامعة ابرتاي داندي اسكوتلندا
(University of Abertay Dundee, Scotland)
- عدد الزيارات: 3465