ملحق: داروين... المؤمن
قد يعجب كثيرون من دارسي نظرية التطور، إذا ما عرفوا أن داروين في ختام حياته نبذ هذه النظرية ورجع إلى الإيمان بالكتاب المقدس. وكثيرون عندما يقتربون من ختام رحلة الحياة، وبالتالي من مواجهة الله والأبدية، يندمون على مبادئ تمسكوا بها وتصرفات كانت لهم. وهكذا كان داروين. إن قصة خاتمة حياته ترويها لنا امرأة فاضلة مؤمنة هي السيدة هوب من نورثفيلد في إنجلترا. وقد لازمته كثيراً في إبان مرضه الأخير. وقد كتبت هذه القصة بخط يدها، وهي علاوة على أنها جذابة، فهي أيضاً تحمل طاقة نورانية. وها هي القصة كما سطرتها كاتبتها:
"كان ذلك في يوم من أيام الخريف الصافية التي نستمتع بها في إنجلترا عندما دعيت بعد الظهر لكي أدخل إلى حجرة العالم الكبير تشارلس داروين، لقد ألزمه المرض فراشه فترة قبل وفاته، وكنت أشعر كلما تطلعت إليه، أن طلعته المهيبة تعكس صورة فخمة لأكاديمية العلوم الملكية عندنا. لكن لم يحدث أن أحسست بعمق هذا الشعور بقوة قبل هذه المرة في عصر ذلك اليوم.
كان جالساً في سريره يرتدي جلباب نوم مطرز أرجواني اللون ويستند بظهره إلى بعض الوسائد ويرمي ببصره من خلال النافذة إلى منظر الغابة الممتدة مسافة بعيدة وإلى حقول القمح التي تتموج فيها أشعة الشمس الغاربة وخيل إليّ وأنا أدخل الحجرة أن السعادة تغمر تلك الطلعة المهيبة وملامح ذلك الوجه الوقور.
ولما دخلت لوَّح بيده تجاه النافذة إلى ذلك المنظر الرائع بينما كان في يده الأخرى الكتاب المقدس مفتوحاً والذي كان يحرص دائماً على قراءته طوال تلك الفترة. وقلت له وأنا أتخذ مجلسي على كرسي بجانب السرير "ماذا تقرأ الآن؟ فقال العبرانيين- لم أزل أقرأ رسالة العبرانيين وأنا أسميها السفر الملكي" ثم مر بأصبعه على بعض السطور وعلق عليها ببعض الملاحظات.
فألمحتُ إلى الأفكار والتفسيرات القوية التي طرحها كثيرون حول تاريخ الخليقة وعظمتها وما ذكر عنها في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين. وحينئذ بدت عليه إمارات الأسف وعدم الارتياح وفرك أصابعه بعصبية وقال، وقد غطت وجهه مسحة من الحزن: "كنت شاباً له أفكار غير كاملة التكوين وغير واضحة المعالم وقد طرحت مسائل وآراءه وقلّبتُ الفكر كثيراً في كل شيء تقريباً. وكانت دهشتي أن تلك الأفكار والآراء سرت كما تسري النار في الهشيم واتخذ الناس منها ديناً".
ثم سَكَت، وبعد كلمات قليلة عن "قداسة الله" وعن "عظمة الكتاب المقدس" وكانت يده تحمل بمنتهى العناية، قال: "لي في الحديقة استراحة" تتسع لنحو ثلاثين شخصاً، وأشار عليها بأصبعه ثم قال "أود كثيراً أن تتكلمي معهم وأنا أعرف أنكِ تقرأين الكتاب المقدس مع أهالي القرى المجاورة. وبعد ظهر الغد أحب أن يذهب إلى هناك خدم البيت للاجتماع مع العائلات القليلة المجاورة، فهل تخدمين الكلمة بينهم؟"
فقلت له "وعما تريدني أن أتكلم؟" "فقال على الفور" عن يسوع المسيح وعن خلاصه. أليس هذا هو الموضوع الأفضل" ثم بعد خدمة الكلمة أريدك أن ترنمي معهم بعض الترنيمات.
ولست أنسى علامات الابتهاج التي أشرق بها وجهه عندما قال هذا. ثم أضاف قائلاً "لو أنكِ بدأتِ الاجتماع في الساعة الثالثة فإن هذه النافذة ستكون مفتوحة ولسوف تعرفين أني مشترك معكم في الترنيم".
وكم كنت أود لو التقطت في ذلك اليوم الذي لا ينسى صورة لهذا الرجل الشيخ المهذب وللبقعة الجميلة التي يسكنها. كان مشهداً مؤثراً فإن هذا الرجل نفسه الذي كان يمثل مأساة، هوذا الآن نراه- داروين بعينه- غيوراً للإنجيل ومتحمساً" لعظمة الكتاب المقدس". هذا الرجل الذي استحدث بآرائه وأفكاره ثورة بين اللاهوتيين كانت مصيبة على كل الكنائس وحطمت مبادئ الإيمان عند كثيرين- داروين نفسه، بنظرة أسف واكتئاب، يندم على كل ذلك ويقول "إنه كان شاباً له أفكار غير كاملة التكوين وغير واضحة المعالم".
إن هذه الصورة الرائعة لداروين تتحدى العصريين اليوم. ويا لها من عبارة فيها كل معاني النقد للأفكار العصرية إذ يقول داروين أن أفكاره عن نظرية التطور كانت "غير كاملة التكوين وغير واضحة المعالم".
"الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين" (عب1: 1و 2).
عن مجلة Grace & Truth
- عدد الزيارات: 4429