Skip to main content

تجرُّع المُر

إذا اعتبرت فكرة النشوء صحيحة, لوجب على العلماء جعلها مقبولة لدينا استناداً إلى إثباتات علمية. وعليهم بذلك إيضاح قضيتين لنا:

· هل هناك ميكانزم أو "خطة عمل" بيولوجية تتطور بها تدريجياً الكائنات

البسيطة الدنيا إلى كائنات راقية أكثر تعقيداً؟ إن (خطة عمل) كهذه يجب أن تتبع عملياً علم الوراثة Genetics

· هل تعطينا الحفريات اليوم صورة عن التطور التدريجي عبر ملايين السنين

من الكائنات الدنيا إلى الراقية. إن مثل هذه الدراسة للحفريات يجب أن تتبع لعلم الإحاثة Paleontology (دراسة الكائنات المتحجرة).

* علم الإحاثة: علم يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة كما تمثلها المتحجرات أو المستحاثات الحيوانية والنباتية.

في القرن الأخير بُدء العمل في هذه القضايا بروح التفاؤل ظناً بأن الإجابات لتلك القضايا سوف تحل بسرعة. واليوم لدينا الإجابتان وهما في غاية الوضوح... لا ويجب أن أبرهنهما طبعاً, بغض النظر عن مقدار المرارة التي تتسبب للخبير النشوئي عند تجرعها.

1- نعرف اليوم كل أنواع القواعد التي تجتاز خلالها مجموعة سكانية معينة من أحد أنواع الحيوان مثلاً عدداً من التحولات الوراثية خلال أجيال متعاقبة. تتواجد العوامل الوراثية في الكائنات الحية على ما يسمى بالجينات. وهي تراكيب متناهية الدقة موجودة في نوي الخلايا الجسدية والخلايا التناسلية. أمام مختلف أنواع التأثيرات الخارجية تجتاز الجينات المتحكمة مختلف أشكال التحولات الاعتباطية (طفرات Mutations). كنتيجة لذلك تبدأ الجينات بالتصرف على نحو مختلف وعلى الغالب بفعالية أقل أو حتى تتوقف عن العمل كلياً. كائنات ذوات جينات كهذه هي بالنتيجة أقل قدرة على الإبقاء على نفسها, ولذلك تموت في فترة مبكرة أو لا تكون قادرة على التكاثر بشكل كاف.

يدّعي النشوئيون بأن التطور يتم, عندما تنشأ الطفرات التي تكون موائمة في ظروف معينة فتزود الجسم بإمكانيات أفضل لحماية نفسه. الواقع أن هذا يحدث بالفعل نادراً. فعند تغير الظروف البيئية فإنه قد يؤدي إلى طفرة معينة (أي يحدث تغيير إلى وضع أفضل) وعندئذ ترى أن الكائنات التي لا تمتلك هذه الطفرة الخاصة تختفي تدريجياً من بين المجموعة السكانية. ولكن هذه في منتهى الندرة, وحين تظهر تكون ذات طبيعة مؤقتة. على العموم هذه تحدث لأن الإنسان أدخل تغييراً جذرياً على البيئة. فضلاً عن ذلك فهي تبرهن فقط أن المجموعات السكانية تستطيع تحمل "تذبذبات" معينة. وليس لهذه أي علاقة على الإطلاق (وأنا أعني هنا بكلمة على الإطلاق) مع موضوعنا كيف أن الكائنات العليا (التي هي أكثر تعقيداً, وذات تركيب أكثر تكاملاً) يمكن أن تتطور من الكائنات الدنيا. لقد اقتنع خبراء علم الوراثة منذ أمد طويل بأن "طرق العمل الوراثية" في الكائنات الحية لا تحاول تغيير المجموعة السكانية بل بالأحرى تحافظ على توازنها وثباتها قدر الإمكان. تحت تأثير التغييرات البيئية. ومن الممكن أن يظهر ضمن نطاق المجموعة السكانية ذاتها كل أشكال التغييرات ولكن هذا شيء يختلف بالمرة عن التطور السكاني بكامله نحو حلقة أرقى في سلم النشوء.

الأفضل أن تتأكد من أنك فهمت هذا الأمر كما يجب لأنه يوجد مقدار كبير من التضليل في هذا المجال. فإلى حد بعيد معظم "البراهين" البيولوجية للتطور الموجودة في الكتب التعليمية تتعلق بتغييرات داخل نطاق المجموعة السكانية. أحياناً ندعو هذه التغييرات "النشوء الصغير Micro Evolution" ولكن هذا التعبير مضلل لأنه بالحقيقة لا ينطوي على شيء من النشوء. إنه مجرد تغيير, اختلاف, تذبذب لا "ترقي". وليس لهذه البراهين البراقة من النشوء الصغير أي ارتباط بموضوعنا. كيف حدث النشوء الكبير Macro –Evolution على الأرض؟" أو "كيف أمكن للثديات أن تتأصل من الزحافات, والزحافات من الأسماك أو من الأميبا؟ كل ما نعرفه عن علم الوراثة يجعل مثل هذه التطورات, ضئيلة الحدوث, غير ممكنة بالمرة.

دعني أعطيك مثالاً آخر على هذا النوع من التضليل إذا ذهبت إلى المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في نيويورك, ستجد بين المعروضات كل سلسلة الخيل المتحجرة مجسدة افتراضاً بأن هذه الأفراس تطورت تدريجياً الواحد من الآخر في مدة مئات الآلاف من السنين. هذه السلسلة تبتدأ بحيوان صغير ذو خمس أصابع يتضاءل تدريجياً حتى تبقى في النهاية الإصبع الوسطى وهي المعروفة بحافر الفرس. لاشك أنك ستقول: هذا برهان رائع على النشوء وسوف تفكر هكذا دائماً لأن "رواية الفرس" هذه هي واحدة من أبرز الشواهد الشائعة في صالح النشوء.

فما هي حقيقة الأمر يا ترى؟ لنفترض أن هذه السلسلة هي حقيقية وأن الخيول الأخيرة تطورت حقيقة من الحصان الأول في السلسلة, فهل استطعنا أن نبرهن النشوء؟ بالتأكيد لا, لأنهم لا يزالون خيولاً- أليس كذلك؟ أن هذه السلسلة تبرهن أن مختلف التغيرات ممكنة في موضوع "الفرس", ولكنها لا ترى بأن الكائنات العليا تتطور من الكائنات الدنيا. الق نظرة على الأصابع وسرعان ما تلاحظ انحطاطا Degeneration بدل النشوء Evolution. ولكن الأسوأ من هذا كله هو أنه لا يوجد ولا حتى برهان واحد يثبت بأن هذه الخيول قد تطورت في نفس الترتيب الذي وضعت فيه! أضف إلى ذلك, توجد دلائل تؤكد وجود الخيل في شكلها الحالي في زمن الحصان الأول (الأكثر قدماً) في السلسلة. إن هذه الخيول المتحجرة أحضرت من جهان مختلفة من العالم (ترى هل تطور حقيقة الواحد من الآخر؟) ومن أماكن عمرها النسبي هو غفير مؤكد أبداً.

أو ليس خيالاً أن تعرض مثل هذه الأشياء على عامة الناس الذين ينخدعون بها فيعتقدون بأن النشوء حقيقي؟ لسوء الحظ لا تكف المتاحف أو الكتب الشعبية عن عرض مثل هذا الهراء. ما رأيك في الصور البارعة التي تصور أناس ما قبل التاريخ في شكل ممسوخ لهم مظهر الإنسان القرد؟ إنه خداع صرف! فمن المستحيل تعيين كيف ظهر شكل الوجه, الشعر, لون الجلد..إلخ من تبيين الجماجم والعظام.

أنت تعرف لوقت طويل اعتبر إنسان نياندرتال كواحدة من أهم الحلقات المفقودة بين القرد والناس. ويظهر في الصور كإنسان – قرد وحشي المظهر – ولكن مع مرور الوقت توصل العلماء إلى نتيجة مدهشة وهي أنه لو شاهدنا رجل نياندرتال في إحدى حونيت السوبر ماركت لما ميزناه عن الآخرين أبداً دعنا نأمل أن معلمك يعرف هذا وأنه لا يصر على تقديم "طبخة بائتة" للآخرين...

2. من الطبيعي أن يترز أمامنا السؤال التالي وهو "ما الذي تزودنا به الحفريات؟" ستستنتج طبعاً أنني أستطيع تغطية هذه النقاط بطريقة سطحية ومختصرة. هذا لا يهم كثيراً, ففي المدرسة يقولون لك أن النشوء حقيقة. أما ما يسمى "بالإثباتات" المتعلقة فيشار إليها بشكل سطحي ومختصر جداً. وأكون سعيداً لو تتوصل إلى معرفة أن الأمور قد تختلف تماماً عما يدعيه معظم معلمي البيولوجيا والدين.

أنت تعلم أن القشرة الأرضية تتكون من عدد من الطبقات تسمى الستراتا Strata. وهذه تكونت إما بسبب انبعاث الصخور المنصهرة من داخل الأرض (من البراكين مثلاً) تصلبها, أو بسبب الرياح التي تحمل ذرات الرمل والطين وتجمع في مكان ما, أو أن الأنهار الجليدية تدفع الرمل والطمي, والأكثر حدوثاً هو الرمل والطمي مع الحجر الكلسي... إلخ, التي ترسبت في البحار والبحيرات والأنهار. في النوعين الأخيرين من الطبقات نجد بقايا متحجرة لا تعد لنباتات وحيوانات عاشت مرة على وجه البسيطة. الأقسام القاسية فيها بشكل خاص كالقواقع والحراشف والعظام تحجرت بسهولة.

طبيعي أن تكون الطبقات السفلى أقدم عهداً والطبقات العليا أصغر عمراً. ادعاء النشوئيين هو كما يلي: في الطبقات السفلى (الأكثر قدماً) نجد كائنات بسيطة متحجرة, وعندما تأتي إلى الطبقات العليا (الحديثة) نجد إلى جانب الكائنات الدنيا المتحجرة أخرى عليا أكثر تعقيداً. يمتد عهد الطبقات التي تحتوي على متحجرات إلى فترة تقارب الـ 600 مليون سنة (هكذا يجزمون). وفي تلك المدة نرى كيف أن تاريخ الحياة يبدأ بكائنات بسيطة جداً وكيف أن الكائنات العليا تبدأ تدريجياً بالظهور على امتداد العصور.

رائع, أليس كذلك؟ ألا يكون هذا أفضل برهان على النشوء؟ بالتأكيد... لو أن القصة حقيقية. هذا ما يقصونه عليك بالعادة, وهذا بالضبط هو عين الضلال. على هذه الحالة نستطيع أن نسلم بأنه لا أثر للحقيقة في كل القصة. لا يوجد أي مكان في العالم كله تستطيع أن تجد فيه كل هذه الطبقات مرتبة الواحدة فوق الأخرى في وضع تتواجد معه الكائنات الدنيا في الأعماق, وكلا النوعين من الكائنات العليا قريب من السطح. بالإضافة إلى ذلك لا تتواجد الكائنات البسيطة فقط في طبقة الحفريات التي تعتبر قديمة, بل تم الكشف على أن جميع الفصائل الحيوانية كانت في منطقة Fauna ممثلة فيها. إلا أن الفقريات تمثل الشذوذ الوحيد هنا ولكنها سرعان ما تظهر في الطبقات التالية بدون أي نوع من الأشكال الانتقالية.

من أين تأتي هذه المجموعات المختلفة من الحيوانات؟ أين هم الأجداد المشتركون لتلك الحيوانات كما تفترض النظرية؟ إذا كانت النظرية صحيحة فثمة ثلاث أرباع أو حسب آخرين تسعة أعشار تاريخ الحياة مفقود! إذاً لماذا لا تجد شيئاً من الحفريات من تلك الفترة الشاسعة؟ ترى, ألا يمكن أن لا يكون الأجداد المشتركون قد وجدوا بتاتاً...؟!

افترض أنك تتوقع من الطبقة القديمة أن تكون دائماً في الأعماق. ولكن الحال ليست تلك أبداً! لأن ترتيب الطبقات قد يختلط بكامله. فالطبقات ذات حفريات الكائنات العليا قد تكون في الأسفل بينما تظهر على السطح طبقات ذوات حفريات الكائنات البسيطة فقط. في بعض الأوضاع تستطيع أن ترى بوضوح أن الطبقات قد انقلبت رأساً على عقب بعد ما يشبه الزلزال. ولكن في الغالب ينعدم أي أثر لمثل هذه التغييرات الكبيرة في قشرة الأرض. وعلى هذا النحو حقاً ستخلص إلى القول بأن الطبقات كانت قد تكونت في التتابع الذي نجدها فيه. إذاً كيف يجرؤ النشوئيون من علماء طبقات الأرض على الإعلان ببساطة أن الطبقات منقلبة رأساً على عقب على الرغم من هذا كله؟

إنها قصة مزعجة. كيف يستطيع النشوئي تعيين عمر الطبقات؟ هو لا يستطيع أن يبحثه من خلال المادة المكونة لها. وواضح أن تتابع الطبقات لا يفيده أكثر لأن الطبقات المدعوة "حديثة" قد تكون تحت, والطبقات المدعوة "قديمة" قد تكون على السطح. ربما تتوقع منه أن يملك طرقاً خاصة لقياس العمر (وربما تكون قد سمعت عن طرق تعيين العمر بواسطة العناصر المشعة التي سنتطرق إليها فيما بعد)وخطأ آخر ناتج عن تطبيق طرق تعيين العمر على الطبقات إذ لا يعود بالفائدة. كيف يستطيع إذاً أن يفحص طبقة ما إذا كانت أكثر قدماً أو حداثة من الأخرى؟ أنت لن تحزر الجواب. أما هو فيقرر بواسطة الحفريات الموجودة فيها وخصوصاً ما يسمى بالحفريات الدليل Index-Fossils التي ليست عامة بل هي مميزة (هذا ما يقولوه لنا) "لفترة" جيولوجية خاصة.

أليس هذا لطيفاً؟ إذ حين تظهر الحفريات البسيطة (الناشئة من الكائنات الدنيا) في واحدة من الطبقات فهي طبقة قديمة, أما عندما توجد حفريات معقدة (الناشئة من الكائنات العليا) في إحدى الطبقات تكون تلك طبقة حديثة. قد يكون التعبير عن ذلك في غاية البساطة, ولكنه بالحقيقة لب القضية. بل أن هذا "التفكير الدوراني" المنبوذ معترف به في المقالات الجيولوجية العلمية ويدور على النحو التالي: سؤال "كيف تستطيع أن تبرهن أن الكائنات العليا هي أصغر عمراً من الكائنات الدنيا؟" جواب " لأن الأولى وجدت في الطبقات الحديثة." سؤال "ولكن كيف تعرف أي الطبقات أحدث وأيها أقدم؟" جواب " يمكن أن نراقب ذلك عن طريق الحفريات الموجودة بها, الكائنات العليا موجودة في الطبقات الحديثة " سؤال " فكيف تبرهن إذاً أن الكائنات العليا هي أحدث من الكائنات الدنيا؟ "الجواب" لأن الأولي موجودة في الطبقات الأحدث من الأخرى "سؤال" ولكن كيف تعرف أي طبقة؟"... أتوقف هنا وقد لاحظت أننا ندور في حلقة مفرغة. وتلك كما ترى تعتبر الإثبات على الحفريات.

وبالإضافة إلى ذلك توجد مشاكل أخرى لا تعد ولا يمكن حلها تتعلق ببرهة الحفريات. لا تنس بأنه لو كانت الكائنات البسيطة بالحقيقة أول ما ظهر وبعد ملايين السنين جاء دور الكائنات العليا (فرضية مختلف في أمرها كثيراً كما رأينا) لكان قيام تلك لوحدها غير كاف لتكون البرهان بأن الكائنات العليا قد تطورت من الكائنات الدنيا. لكي يجعلها الجيولوجيون مقبولة عليهم أن يبادروا بتقديم الآلاف من الأشكال المتوسطة والانتقالية بين مجموعات الحيوانات المختلفة وبين مجموعات النباتات المختلفة.

قبل حوالي مئة سنة تفاءل العلماء جداً ظانين بأن هذه "الحلقات المفقودة" سوف توجد ولكن نشوئيين مشهورين بدأوا بالاعتراف علناً بأن هذه "الحلقات المفقودة" ربما لم توجد أبداً. هذه الفجوات التي لا يمكن تخطيها بين مختلف المجموعات كانت في السابق على نفس الاتساع الذي توجد فيه اليوم, بغض النظر عن مقدار المرارة الذي يسببه للنشوئيين تجرعها.

هل تدل الحفريات على وجود النشوء؟ ربما... لكن عند الذين لديهم مسبقاً إيمان مطلق بالنشوء فقط. أما ذوي الفطنة فلهم معرفة أفضل.

  • عدد الزيارات: 4098