Skip to main content

اهتزاز أوراق الشجر

قبل كل شيء تفهّم الأمر التالي بوضوح, يمكن اعتبار القول بالخلق ومثيله القول بالنشوء على نفس الدرجة من العلمية أو اللاعلمية. وتفضيل أحدهما يعتمد في المقام الأول على وجهة نظرك إذا كنت قد فهمت هذا, يطفو أمامك على السطح السؤال التالي: أي من هاتين العقيدتين مرتبط بشكل أفضل بالحقائق الواقعية المعروفة لنا؟ لا تحسب أن أي إنسان على وجه البسيطة بعد إعادة نظر دقيقة ومحايدة لكل الحقائق يستطيع أن يجد اختياراً مقبولاً بين أحد الإيمانين. نحن لسنا حياديين, لأننا إما أن نؤمن بالكتاب المقدس كالكلمة الموحى بها من الله فنؤمن بالخلق أو أننا نرفض الكتاب المقدس ونؤمن بالنشوء.

ومع ذلك, فأنا مستعد أن أعلن لك بأن الحقائق الحالية المعروفة تتفق مع مذهب الخلق أكثر من مذهب النشوء. أقول هذا عن اقتناع تام, بالرغم من أن معظم الباحثين في علم الأحياء يعتقدون أن الحقائق تساند فكرة النشوء. من المضحك أن يحمل الخلقيون والنشوئيون الحقائق في جعابهم ورغماً عن ذلك يعتبر كل فريق أن الحقائق تلك تساند وجهة نظره الخاصة. بالإضافة إلى ذلك فمن الممكن أن نشرع بالتورط في نمط خاص للتفكير حتى لا نعود نقدر أن نرى الحقائق التي تناقض ذلك.

دعني أقدم لك مثلاً رواه لي خلقي أميركي وهو الدكتور دونالد تشيتيك Dr. Donald Chittick كان قد استعمله في إحدى المناسبات حين أراد شرح هذه القضية.ويدور النقاش فيه على النحو التالي:

يسأل الدكتور تشيتيك طلابه: (هل تعرفون كيف تنشأ الريح؟) (بالطبع) يجيب أحدهم (تنشأ الريح مرة مع انتقال الهواء من مكان ذي ضغط جوي مرتفع إلى آخر ذي ضغط جوي منخفض.) (خطأ) يعترض تشيتيك (أنت لا تتتبع التطورات الحديثة لأن هذه هي نظرية من الطراز القديم. لقد اكتشفوا مؤخراً أن أغصان وأوراق الشجر تهتز, ونتيجة لاهتزازها ينتج تيار هوائي وهو ما ندعوه الريح. حاولوا أن تناقضوا هذه النظرية الجديدة) يرتبك الطلاب بينما يعلن شاب سريع الخاطر بينهم (ولكن الريح تتواجد في الصحارى حيث تنعدم الأشجار) فيجيب تشيتيك (هذا رأي ساذج فمثل ذلك لا يحدث. لأن الريح لا بد أن تأتي من مكان حيث تتواجد الأشجار بأوراقها المهتزة) قد يتواجد طالب آخر ممن يستطيعون مناقضة هذه الفكرة بطريقة سليمة ولكن تشيتيك يسكته بإنزال ورقة جديدة رابحة فيخاطبه: (أن السبب الوحيد لحديثك ذي الطابع القديم هو أنه ينقصك الاضطلاع على التطورات الأخيرة. ألا تعرف أن الإنسان وصل إلى القمر؟ واكتشف أنه لا ريح تهب على القمر. لماذا لأنه لا توجد أشجار مهتزة الأوراق هناك).

ثم يتحول تشيتيك إلى الجدية فيقول: (انظر, هذا بالضبط ما يصنعه النشوئيون. لديهم نظرية يمكن أن يساندها وفرة من الحقائق. ولكن ذلك لا يبرهن أبداً أنها نظرية سليمة, لأن كل تلك الحقائق تساند نظريتهم بنفس المقدار الذي تساند به (النظرية) المعاكسة ألا وهي الإيمان بالخلق. فلا تسمح لنفسك بأن تُربَك بما يسمى بآخر الاكتشافات التي تدعم الاعتقاد بالنشوء, لأن مثل هذا الاستناد لا يبرهن أي شيء.)

تشيتيك محق فيما يقول مثلاً, صحيح أنه يوجد نموذج بنائي رائع منتشر في كل مملكة الحيوان والنبات وتتجلى روعته وجماله في أنك تستطيع تقسيم مملكة النبات والحيوان بشكل جميل وسليم إلى قبائل, فصائل, رتب, عائلات...إلخ. (أرأيت) يقول النشوئي بانتصار. (هذا يتفق تمام الموافقة مع وجهة نظري. بما أن لجميع الكائنات أجداد مشتركون لذلك أتمكن, حتى في أيامنا هذه, أن أميز العلاقة بينهم في التركيب وطريقة المعيشة). فعلاً أن الرجل مصيب. كل الحقائق تتفق مع نظريته بشكل مذهل, ولكن.. هذا لا يبرهن صواب نظريته. لأن هذه العلاقات هي أيضاً في توافق تام مع وجهة نظر الخلقيين, ومع تصوير الكتاب المقدس لله القدير الذي خلق العالم حسب خطة متناسقة كاملة الحقائق تتفق مع النظريتين, وبذلك فإننا لم نقترب بعد من الإجابة على السؤال:

أيهما محق إذن؟ هل إن أحد التفسيرين (علمي) أكثر من الآخر؟ الدفاع عن ذلك هو مجرد سفاسف. أن يكون أحد النفسيرين أكثر جاذبية من الآخر هذا لا يعتمد على أسس علمية وإنما بناء على وجهة النظر الشخصية عن الحياة. ومع ذلك يوجد فرق في القيمة العلمية في هذين التفسيرين. فكرة النشوء ستقود الفرد إلى توقع أشكال متوسطة إضافية كثيرة بين مختلف النباتات والحيوانات إلى حد لا يسمح لمختلف المجموعات من نباتية وحيوانية أن تكون مقسمة بهذا الوضوح كما نراها على النحو التي هي عليه الآن.. ولا كنا نجد هذه الكثرة من التشابهات التكوينية اللافتة للنظر بين مختلف المجموعات من الكائنات بالرغم من أنهم يعتبرون استناداً إلى أسس أخرى ذوي قرابة بعيدة جداً. خذ مثلاً: للفقاريات وللأخطبوط عيون شديدة الشبه بينها, هذا هو لغز غامض بالنسبة للنشوئي الذي يعتبر هاتين المجموعتين منحدرتين من أصول متباعدة جداً. بالنسبة للخلقي, هذه ليست المشكلة, فهو يعرف أن الله يعطي الحيوانات التي تعيش في ظروف متشابهة- مثل هذا الشبه في بنائها (يلائم أوضاعها) بينما قد تكون هذه الحيوانات شديدة الاختلاف بينها في مظاهر أخرى.

كان هذا مثالاً واضحاً فقط. للحصول على أمثلة أخرى راجع كتاباً أكثر تفصيلاً (انظر القائمة في نهاية الكتاب). أما ما أرمي إليه فهو: لا تنخدع بالقول بأن مشاهدات في الطبيعة لا عد لها تتفق مع مذهب النشوء. هذه لا تعني شيئاً ما دمت لم تتحقق بعد فيما إذا كانت المشاهدات عينها تتفق تماماً (ولربما أكثر من تلك) مع مبدأ الخلق. وعلى أساس الإثباتات العلمية أنا شخصياً أعتقد بأن الحقائق تتفق أكثر مع مبدأ الخلق.

وبتطور الأمور فالنشوء يشبه بيتاً كبيراً من الكرتون. وعالم الأحياء وعالم الحفريات أو أي خبير في هذا الموضوع يعرف جيداً أين يظهر تخصصه مواطن الضعف في المبدأ النشوئي (والكثيرون يقرون بذلك). ولكنه غير قلق بهذا الشأن لأنه يقول: (البراهين التي حصل عليها زملائي في الأقسام الأخرى قوية الحجة بما فيه الكفاية). وما دام الكل يظنون ذلك فلسوف نحصل على فقاعة صابون عظيمة يفندون الإثباتات في أحد الاختصاصات بالتعلق بأذيال إثباتات من اختصاصات أخرى. اقطع ذراعاً من جسد تنين النشوء ولسوف تجد نفسك محاطاً بالأذرع الباقية. أدخل ما شئت من الاعتراضات العلمية ولسوف يستنبطون (نظريات مساعدة) بارعة بهدف (شرح) كل الحقائق التي تتناقض مع النظرية لإبعاد المعارضات من وجهها, أو.. يتجاهلون تلك بكل بساطة إلا أن الخطوة الفعالة الوحيدة التي يجب اتخاذها هي: هاجم النشوئية على كل جبهاتها في وقت واحد بسلاح الخلقيين. ولكن.. حتى تلك ليست جيدة بدرجة كافية لأن النشوئيين كانوا قد أخبرونا مسبقاً بأنهم حتى إذا فجرنا كل نظرياتهم فلسوف يفضلون دوماً المبدأ النشوئي عن الخلق. إن مقتهم الشديد لمبدأ الخلق يصل إلى حد أنهم يفضلون نظرية ( اهتزاز أوراق الشجر) في كل وقت...

  • عدد الزيارات: 3397