Skip to main content

ضرب من قصص الخيال

مما يدعو للأسف أن معظم معلمي البيولوجيا هذه الأيام يُعلّمون طلابهم أن النشوء هو حقيقة مقبولة عند كل العلماء. لا تظن أن هؤلاء المعلمين يقصدون تضليل تلاميذهم بتلك البساطة لأن ذلك لا يتلاءم ورسالتهم. بل هم يؤمنون عملياً بأن التطور هو حقيقة أصلية. ليس لأنهم كانوا قد تفحصوا الحقائق بأنفسهم, فلسوء الحظ معظم دارسي علم الأحياء لم يقوموا ولا مرة بدراسة شاملة لما يسمى ببراهين الوجود للنشوء! قد يبدو هذا الأمر غريباً ولكنه صحيح. فالنشوء هو موضوع اختصاص عال قام ببحثه بحثاً شاملاً نسبة ضئيلة من علماء البيولوجيا.

كيف يستطيع معلمو البيولوجيا أن "يعلّموا" بذلك التأكيد أن الإنسان ينحدر من أبسط الكائنات على طريق النشوء؟ إنهم يعتقدون ذلك استناداً إلى مراجع الآخرين. لقد تعلموا "البراهين" دراسة كاملة, فضلاً عن ذلك فلربما لم يقابلوا الآن عالماً في البيولوجيا يحمل رأياً آخر.

قد يبدو غريباً ولكنها لم تزل حقيقة واقعة أنه كلما قل إدراك الفرد للنشوء, كلما ازداد اقتناعاً به! لحسن الحظ, فإن الكثيرين ممن تخصصوا في موضوع النشوء هم باحثون وناقدون حذرون. أما طلابهم الذين سمعوا فقط عن ذلك, والذين لم يشاهدوا ولو مرة المشاكل المعقدة المرتبطة بقضية النشوء لا يجدون حرجاً في قبولها, وسرعان ما يثوروا مخاصمين حين يعلن أحدهم اعتراضه. الأمر المضحك (بل قل المحزن) هو أن الكثيرين من اللاهوتيين ورجال الدين الذين لا إلمام لديهم أبداً في مادة البيولوجيا غدواً من أكثر المدافعين المتحمسين عن الاعتقاد بالنشوء. يا للمساكين!

بل وحتى طلاب المرحلة الثانوية المراهقين الذين هم أقل استيعاباً لهذه القضايا من طلاب البيولوجيا الجامعيين أصبحوا من المدافعين المتشددين. في وقت من الأوقات حين كنت أقوم بتدريس البيولوجيا في مدرسة مسيحية, هل لكم أن تصدقوا أن التلاميذ جادلوني محاولين إقناعي بالنشوء! ذلك أن معلمهم خلال الدراسة الثانوية (الذي من الطبيعي أن يكون أقرب إلى الجهل بموضوع النشوء) وكذلك معلم الدين (الذي يكرر بعض أشياء كان قد سمما عقول هؤلاء الأحداث إلى درجة أنهم نظروا إليّ نظرة الاستنكار والشفقة عندما قلت لهم إنني كدارس للموضوع لا أؤمن بالأساطير التي سمعوها.

دعنا الآن نرى فيما إذا كان كل ما قاله معمك بمنتهى الإخلاص صحيحاً. ربما كان قد قال لك "ليس من عالم مدقق بالبيولوجيا يشك في صحة النشوء".

الحق أن ذلك ضرب من قصص الخيال. قد يعتقد أنها صحيحة ولكنها ليست كذلك كما سنرى. أنا شخصياً لا أؤمن بها مع أنني كنت قد قمت بدراسة مكثفة لما يُدعى "بالبراهين". بالإضافة إلى ذلك, عملت بالبحث في مجالين تابعين لعلم الأحياء كانا قدما أقوى "البراهين" على النشوء وهما علم الأجنة أو الإمبريولوجيا (مبحث نمو الكائنات قبل ولادتها) وعلم الوراثة أو الجينيتيكا.

وأنا لست المشكك الوحيد! فمنذ عدد من السنين وأنا عضو في جمعية بحث الخليقة Research Society Creation وللانخراط في عضويتها يُفترض بالمنتسب أن يكون باحثاً من حملة الألقاب العلمية ويؤمن بالخلق كما ورد بالكتاب المقدس رافضاً لفكرة النشوء. وهذه الرابطة تضم أكثر من خمسمائة عالم بينهم مختصون في علم الأحياء وفي علم طبقات الأرض وكيميائيون وفيزيائيون وأطباء وأساتذة جامعيون في ميادين أخرى. أعرف بعضاً منهم معرفة حسنة ولذلك أستطيع أن أؤكد أنهم بالمقياس البشري هم أشخاص "مدققون" ويمتلكون طاقات ذهنية فذة والبعض منهم, مثل البرفسور جون ن مور Professor John N. Moore من جامعة ميتشغان الأميركية, هم من ذوي الشهرة الواسعة في ميدانهم العلمي.

أرجوك إذن ألا تدع أحداً بعد اليوم يقول لك أن كل العلماء يؤمنون بالنشوء. في كثير من الدول تستطيع أن تجد العديد من العلماء الذين لا يعتقدون به. التفت قليلاً إلى التاريخ. هل سمعت بالمدرسة عن فارابي, عن ماكسويل, عن اللورد كالفن, عن لويس باستير؟ أولئك جميعاً كانوا من العلماء الواسعي الشهرة وكانوا كذلك خلقيين (من المؤمنين بالخلق) عن اقتناع. وقاموا النشوئية بشدة في بدايتها عند لامارك وعند داروين.

ضرب آخر من قصص الخيال الذي يقال بالمدرسة عادة هو: النشوء هو حقيقة علمية وهذه أيضاً تتم عن حسن نية (على الأقل دعنا نأمل ذلك) مع أنه لو فكر أي إنسان قليلاً لشعر بأنه لا يستطيع التصريح بذلك. إنه ليس ذلك الأمل السهل لتعيين الحقائق أو فصل الحقائق عن الخيال.

هل هذه حقيقة أن الشمس تشرق؟ بكل تأكيد, أما إذا كنا نشك بالأمر فقد يعني هذا أننا نقطع علاقتنا مع العلم أيضاً لأننا لن نستطيع الثقة بعد بإدراكنا وحواسنا.

هل تقلب فصول السنة حقيقية أيضاً؟ نعم هو كذلك. أولاً, لأن التغيير لا يزال مستمراً ونستطيع أن نلحظ ذلك في كل ما يجري حولنا. وثانياً, لأننا نعرف من ذاكرتنا ومن الكتب أن هذا التغيير في فصول السنة تم دائماً وباستمرار.

هل هي حقيقة أن معركة القادسية حدثت ذات مرة؟ هنا تزداد الصعوبة للإجابة, لأن المعركة هي غير مستمرة اليوم وليس لدينا أناساً أحياء ممن اشتركوا بها. ولكننا مع هذا لا نزال نعتقد بأن هذه المعركة حدثت فعلاً لأننا نثق الثقة الكافية بالمصادر التاريخية عن تلك الحقبة.

ولكن هل هي حقيقة أن إمرءِ القيس قضى شبابه في محاربة بني أسد للأخذ بثأر أبيه كما قصها الرواة علينا؟ الإجابة هنا أكثر صعوبة لأننا لا نصدق كل ما تركه جامعو التاريخ الأقدمون عن أخبار العصر الجاهلي. يقول بعض النقاد أن امرئ القيس قد وجد وعاش فعلاً ولكن الرواة قد كسوا سيرته بإطار مفعم بتفاصيل هي من بنات الخيال. بينما يجزم آخرون بأن شخصية امرئ القيس بكاملها منحولة وأن سيرته بجملتها هي وليدة خيال القصاص والراوية العربي في عهد متأخر.

ماذا نستنتج مما سبق؟ إن مسألة اعتبار أي حدث تاريخي (والنشوء ما هو إلا حدث) كحقيقة أو خيال يعتمد على قضية: ما مدى جدارة المصادر التاريخية التي بين أيدينا بالثقة؟ فإذا افترض أحدهم بأن هذه العملية التاريخية لا تزال مستمرة في وقتنا الحاضر فسوف أطرح بكل جلاء السؤال الثاني: هل لا زلت أستطيع مراقبة هذه العملية من حولي في يومنا هذا؟ هذه هي الحال مع النشوء فمن المفروض أن القسم الأكبر منه تم حين لم يوجد بشر بعد, وبالتالي لم يكن أحد حاضراً لإعطائنا تقرير شاهد عيان عن ذلك. وهكذا فنحن لا نملك أي إثبات مكتوب ولكننا نملك مصادر تاريخية أخرى, وهي الطبقات والمتحجرات التي وجدت بها. أنت بلا شك تعلم أن القشرة الأرضية تتكون من عدة طبقات مرتبة الواحدة تلو الأخرى. وأن الحفريات الموجودة بها هي بقايا النباتات والحيوانات التي تحجرت. والسؤالان اللذان يبرزان هنا هما:

1- هل تزودنا الطبقات والمتحجرات بإثبات أنه خلال وقت ما في الماضي السحيق حدث ثمة نشوء وارتقاء من الكائنات الدنيا إلى الكائنات العليا.

2- هل تزودنا الطبيعة في الوقت الحاضر بإثبات أن نشوء مشابه يتم اليوم. وهل يشير إلى كيفية حدوث عملية النشوء هذه؟

النشوئيون يجيبون على هذه الأسئلة بحماس (نعم) ويخلصون إلى أن النشوء هو

حقيقة علمية. ولكنني أجيب على هذه الأسئلة بنفس الحماس (لا) والنتيجة هي أن النشوء ليس حقيقة علمية. وسأشرح بشكل مبسط لماذا أجرؤ على هذا القول.

إذا كان معلمك أحد أولئك الذين يعلنون أن النشوء هو حقيقة علمية, فليس من الصعب أن تتحقق من أن ذلك ليس إلا ضرباً من قصص الخيال. ولكن لا تحاول أن تناقضه في أسلوب جدلي لأنه قبل كل شيء هو المعلم, ومعرفته في البيولوجيا تفوق معرفتك, وأنت لست إلا لتلميذ لا حول لك ولا قوة. وكل ما عليك أن تفعله هو أن تطرح عليه سؤالاً بسيطاً أو اثنين.

اسأله مثلاً: "أستاذي, هل تستطيع أن تعطيني بعض الأمثلة عن النشوء التي يمكن أن نراها اليوم تحدث أمام أعيننا؟" عندها قد يذكر بعض الأمثلة ولكنها جميعها تبرهن أن النباتات والحيوانات تستطيع أن تجتاز تغييرات وراثية (سترى فيما بعد) لا أن الكائنات الراقية تتطور من الكائنات الدنيا. وهذه الأخيرة فقط هي نشوء. عندها تُخرج سهماً آخر من جعبتك فتخبر معلمك بأنك لم تكتف بعد, لأنك تريد أن ترى أمثلة عن التطور الحالي للكائنات الدنيا إلى كائنات راقية, التي يمكن أن تراها اليوم بأم عينيك. قد يخبرك معلمك بأن هذا النشوء يتم ببطء شديد لا يمكننا من رؤيته خلال حدوثه. وأنت تصر وتسأله إذا كان الناس قد شاهدوا مرة مثل هذا التطور البطيء يتم خلال آلاف السنين العابرة. آمل أن لا يكون قد نفذ صبر معلمك أثناء ذلك. أما أنت فعلى الأقل تستطيع أن تستخلص النتيجة لنفسك, ما من أحد استطاع أن يرى سير النشوء الحالي أبداً.

بمناسبة أخرى, حين تسنح لك الفرصة, باستطاعتك أن تجرب السؤال الثاني بعدما يؤكد أن المتحجرات تبرهن أن كل الكائنات الراقية تنحدر من كائنات دنيا. تأكد من أنك لا تعارضه أولاً ثم اسأله من جديد بعض الأسئلة البسيطة. حاول هذه مثلاً: "كيف تستطيع المتحجرات أن تبرهن بأن النباتات والحيوانات ذات قرابة الواحدة للأخرى وتنحدر من ذات الكائنات البدائية؟"

"كيف تستطيع المتحجرات أن تبرهن أن قبائل مملكة الحيوان phylae (مثلاً: الديدان الرخوايات, اللاحشويات, المفصليات, الفقاريات) هي ذات قرابة فيما بينها؟".

"كيف تستطيع الحفريات أن تبرهن أن النباتات الزهرية انحدرت بالتدريج من النباتات الدنيا؟"

"كيف تستطيع الحفريات أن تبرهن أن الثديات تطورت تدريجياً من الفقريات الدنيا؟"

قد يرد معلمك بمختلف الأجوبة: قد يبدأ باللف والدوران حول الموضوع, قد يقول بصراحة أنه لا يستطيع الرد في الحال, أو قد يقول أنه لا توجد أدلة على الحفريات, وهذا هو لبّ القضية. ربما تكون لا تزال متجرئاً على السؤال كيف يستطيع بأن يجزم بأن تلك النقاط هي (حقائق) علمية بالرغم من أنه لا توجد أي إشارة تدعمها على الإطلاق.

تستطيع أن تسأله أيضاً عن الحفريات الموجودة التي تشير بأن الإنسان نشأ من أجداد شبيهين بالقردة. ولكنه قد يجد الفرصة عندئذ ليبدأ قصة طويلة عن إنسان نياندرتال Neanderthal وعن إنسان جاوه المتحجر Mr. Pithecanthropus (الإنسان القرد) لأنه على الغالب غير مضطلع على آخر الأبحاث في هذا المجال. فإن كان كذلك فهو لا يدرك أن هذه الأسماء اللامعة لم تعد اليوم ذات معنى في قضية نشأة الإنسان من الثدييات الشبيهة بالقردة. ومن الممكن أن يكون قد سمع عن آخر اكتشافات الدكتور ريتشارد ليكي Dr. Richard Leakey في إفريقيا. وفي عام 1973 اعترف ليكي نفسه, بالرغم من أنه هو نفسه نشوئي, إن اكتشافاته هو للعظام الإنسانية المتحجرة قضت في ضربة واحدة واحدة بأن كل النظريات الموجودة عن أصل الإنسان لا قيمة لها بتاتاً. وحتى الآن لا يوجد لديه أي نظرية يقدمها بديلاً لسابقاتها.

  • عدد الزيارات: 5077