Skip to main content

انتصار أم هزيمة - المسيح على الصليب

الصفحة 6 من 6: المسيح على الصليب

المسيح على الصليب

صُلِب المسيح الساعةَ التاسعة صباحاً. ومن على الصليب تكلَّم سبع مرّات. فأوّلاً، طلب المغفرة لمسمِّريه. ثمَّ أوصى يوحنا، أحد تلاميذه، أن يعتني بمريم أُمِّه. وبعدئذٍ وقع وعداً لأحد الْمُجرِمَين المصلوبَين معه بأنَّه سيكون معه في الفردوس ذلكَ اليوم. ومن ثمَّ كانت الصرخة: "أنا عطشان"، وآخِرَ الكُلِّ كان الإعلانُ الظافر: "قد أُكمِل"، وبعدَه الصلاة التي درج اليهود على تلاوتها في آخر كلّ نهار: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي".

أما الصرخة المركزيَّة، وهي مفتاح الحادثة كلَّها، فقد كانت:

"إلهي، إلهي، لماذا تركتَني؟" (مرقس 15: 34).

وهي تلك العبارة التي علَّقها الهندوسيُّ على جدار غرفته في كالكوتا.

وهكذا نرى أنَّ متى ومرقس يدوِّنان العبارة المركزية باللغة الآرامية كما استخدمها المسيح: إلوي، إلوي، لمَا شبقتَني؟

المزمور الثاني والعشرون

هذه العبارة المذكورة ترد في مستهلّ المزمور الثاني والعشرين، وقد كُتب قبل حادثة الصلب بألف سنة تقريباً. ورغم طول المدى الزمنيّ، يقدِّم هذا المزمور تعليقاً رائعاً على اختبار الصليب، وكأنَّما قد كُتب لهذه الحادثة بالذات.

يفهم اليهود المزمور الثاني والعشرين عادةً على أنَّه يُشير آلام الأُمَّة كمجموعة وإلى خلاصها النهائيّ، وإن كان بعضهم قد أشاروا أنَّ في ذهن الكاتب فتراتِ معاناة داود، على الأرجح لمّا كان شاول يُطارده. ولا شكّ أنَّه كان لهذا المزمور مناسبةٌ مباشرة لمّا نُظِم. غير أنَّ المسيحيين رأوا في المزمور أيضاً ما يُعتبَر إنباءً بآلام المسيح.

ينقسم المزمور إلى قسمين:

• الآيات 1- 21، وموضوعها الآلام غير المستحقَّة؛

• الآيات 22- 31، و موضوعها الحمد لأجل النجاة.

ويبدو أنَّ في وسط المزمور تغييراً في النبرة من الأدنى إلى الأعلى. فإذا ما طُبِّق على حادثة الصلب/ فهو يمدّنا بتوكيد رائعٍ أنَّ يسوع قد أُنقِذ فعلاً من اختبار الوحشة الرهيب.

لأنّه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين؛ ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع (الآية 24).

بيد أنَّه ما يزال يواجهنا السؤال: ماذا كان السبب الكامن وراء ما يُدعى عادةً "صرخة الهجران" التي أطلقها المسيح؟ لماذا شعر المسيح أنَّ أباه قد تركه؟ إنَّ الجواب يمدّنا بواحدةٍ من الحقائق المركزية في المسيحيَّة، إذ إنَّ المسيح على الصليب قد جُعِل "خطيَّة لأجلنا" (2 كورنثوس 5: 21)، وقد "حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة" (1 بطرس 2: 24)، "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا" (أشعياءء 53: 5).

المزمور 22: 1- 24

إِلَهِي! إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ إِلَهِي فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ. فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوءَ لِي. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجُوا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزُوا. أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. كُلُّ الَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: [اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ]. لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنّاً عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلَهِي. لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ. لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي. لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي. أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ. يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ. مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ. وَاخْشُوهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعاً. لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ الْمَِسْكِينِ وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.

ينبغي التشديد على أننا نضع يدنا هُنا على لُبّ المسيحيّة.

فليست المسيحية مجرَّد تحليل لمشكلات الإنسان تصحبه بعض الاقتراحات التي تبيِّن لنا كيف يُمكن أن نحلَّ نحنُ تلك المشكلات. بل إن المسيحيّة في جوهرها هي ما قد فعله الله بخصوص مشكلاتنا.

وتثبت المسيحية أو تسقط بموجب أحداث تاريخيَّة معيّنة، ليس بما قاله المسيح وحسب، بل بما فعله أيضاً. هذا الأمر يوضحه بجلاءٍ بولسُ الرسول في رسالته الأولى إلى المؤمنين المسيحيين في مدينة كورنثوس، حيث يقول:

فإنّني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وإنَّه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب (1 كورنثوس 15: 3 و4).

عند هذه النقطة بالتحديد، وهي نقطة حاسمة أكثر من سواها، تتنازع أديان العالم. فاليهودية تُنكر أن يسوع هو المسيح وأنَّه مات وقام حيَّاً "حسب الكتب". والإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك فيُنكر صلب المسيح. وفي ما يلي تلخيصٌ القضيَّة المتنازَع حولها، وذلك بقلم واحدٍ من عُلماء المسلمين:

على أن القرآن لا يعترف بأنَّه قد صُلب، بل يُفيد أنَّه رُفِع إلى السماء رأساً. هذه هي "الحقيقة" الواحدة التي لا يُمكن إنقاصُها والتي تفصل ما بين المسيحية والإسلام- حقيقةٌ مُثبتةٌ بالفعل من قِبَل العناية الإلهيَّة لمنع الخلط بين الديانتين. فسائر التعاليم الأُخرى، كمسألة طبيعة المسيح أو الثالوث مثلاً، يُمكن فهمُها ميتافيزيقيَّاً بطريقةٍ تؤلِّف بين المنظورَين. غير أنَّ مسألة موت المسيح تبقى هي "الحقيقة" التي تستعصي على أيِّ تفسيرٍ من شأنه أن يكون مشتركاً بين نظرة كلٍّ من المسيحية والإسلام إلى هذه الحادثة (سيّد حُسين نصر، في "الحياة والفكر الإسلاميَّان").

أعتقد أنَّ هذا التلخيص للقضيَّة مُنصفٌ للغاية. ولكنْ ربَّما كان من الواجب أن نُضيف، في سبيل إكمال الصورة، أنْ ليس جميع المسلمين ينظرون إلى حادثة الصليب نظرة واحدة. فإلى حدٍّ بعيد، تعتقد تعليم الأغلبيَّة النظرة التي عرضها نصر. غير أنَّ الأحمديَّة قديمة تذهب إلى أن المسيح أُغمي عليه فقط على الصليب وأفاق في القبر وأخيراً مات في كشمير.

ولكنَّ كِلا التفسيرين لصلب المسيح يُناقض تعليم المسيحيَّة الجوهريّ أنَّ المسيح مات لأجل خطايانا. ونتيجة هذه المناقضة يُحسِن التعبيرَ عنها كاتبٌ أحمديّ، هو محمَّد ظفر الله خان، إذ يقول:

ما إن يُثبت أنَّ المسيح لم يمت على الصليب، حتَّى ينتفي الموتُ المقترن باللعنة. وحمْلُ خطايا البشريَّة، والقيامةُ، والصعود، والكفّارة. فإذ ذاك ينهار بنيان علِم اللاهوت الكنسيّ بكامله (الإنقاذ من الصليب، ص 89). وإنَّه لَعلى حقِّ.

ينبغي أن نقول حالاً إنَّه لا سبيل إلى إزالة الفكرة القائلة بموت المسيح الكفّاري من الكتاب المقدّس بمجردَّ إسقاط بضع آياتٍ من هنا وهناك. فالعالَم الإسلاميُّ يُعلَّم أنَّ التوراة والإنجيل مُحرَّفان، ولكنْ لو صحَّ ذلك لكان علينا أن نقول في الحال إنَّ إزالة التحريف معناها، على أقرب وجه، خسارة الكتاب المقدّس بكامله، إذ إنَّ تعليم الكفّارة هذا متأصِّل فيه عميقاً جداًّ، ومفاده أنَّ خطاياي يمكن أن تُغفر لأنّ المسيح مات عنّي. هذا التعليم يُصوِّره في العهد القديم خبرُ الخروج من مصر والتضحيةُ بخروف الفصح. يصوِّره نظامُ. الذبائح المعقَّد، من حيثُ يشير إلى بلوغ غاية إتمامه في موت المسيح. وهو مصوِّرٌ أيضاً في الخبر العجيب عن استبدال كبشٍ بابن إبراهيم ليُذبح فداءً له، وذلك على جبل الْمُرايّا بحسبما جاء في تكون 22: 1-14. كما أنَّه مصوَّر كذلك في أشعياء 53 ومزمور 22، وفي تأسيس يوم الكفّارة على ما هو مذكور في لاويين 16.

فالواقع أن المسيحية تحمل الخطَّية على محمل الجدّ. فالخطيّة أكثر بكثير من تلك الأمور الخطأ التي أفعلها، إذ إنهَّا مبدأُ عامل، لكونها قوّةً في داخلي تسيطر عليَّ. ومن الأديان ما يوحي أنَّ كل ما نحتاج إليه هو التنوير: فما إن نعلم كيف ينبغي أن نتصرّف حتّى نكون قادرين على التصرُّف حسناً. إلا أن المسيحية تبتسم ابتسامةً واثقة وتقول: لن تستطيع.

وما أسرع ما تتبيَّن لنا حقيقة الخطيَّة وسلطتُها حالما نتنبَّه إلى مداها الواسع. ذلك أنّ دينونة الله لحياتي تشمل أفكاري ودوافعي ورغباتي كما تشمل أفعالي. فما من جهاز قضائي يستطيع أن يتعامل مع الأفكار، إذ لا يتناول إلَّا الأعمال الناتجة من الأفكار. أما الله فيُلاحظ الأفكار الخاطئة، ويراها جميعاً نابعةً من خطيَّةٍ كامنة، من قوةٍ عاملةٍ فينا.

فحريٌّ بنا أن نسائل أنفسنا:

هل المسيحية على صواب في تحليلها أو هي على خطأ؟ أفي وسعي حقّاً أن أفعل ما ينبغي لي أن أفعله؟ أوَ أستطيع أيضاً أن أفعل ما أُريد فعله؟

الخطيَّة حقيقة واقعة. وقليلون هم الذين يحاولون إنكار هذا الواقع. ويشدّد الصليب على ناحية ثانية من نواحي مسألة الخطيَّة، أعني بها برَّ الله. فكِلا العهدين القديم والجديد يتّفقان على أنَّ الله لا يُمكن أن يقول لنا ببساطة: "حسناً، انسوَا أمر خطاياكم". إذ من الواجب أن تُعالج الخطايا. وقد كان في فترة العهد القديم نظام ذبائح حيوانية. إلَّا أن هذه الذبائح لم تُعالج الخطايا نهائيّاً، بل ما فعلته هو أنَّها أشارت مقدَّماً إلى الوسيلة الحاسمة في معالجة الخطيَّة على يد المسيح. فقد مضت قرونٌ والخطيّة لا تُعالَج إلَّا رمزيّاً. وربَّما بدا أنّ الخطيَّة أفلتت من العقاب والبرّ لم يلقَ الثواب؛ حتّى جاء المسيح ليُعالج كلَّ الخطايا، خطايا الذين عاشوا في أيّام العهد القديم وخطايا الذين يأتون بعد المسيح. فليس من فرق، إذ الجميع أخطئوا، وقد عولجت الخطايا كلّها بالطريقة الواحدة عينها:

لأنّه لا فرق، إذ الجميع اخطئوا وأعوزهم مجدُ الله، متبرّرين مجّاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدّمه كفّارة بالإيمان بدمه لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإهمال الله، لإظهار برّه في الزمان الحاضر ليكون باراًّ ويبرّر مَنْ هو مِنَ الإيمان بيسوع (رومية 3: 22- 26).

إلا أنَّ خطايا الماضي لم تُترك دون عقاب، إذ تعامل المسيح معها أيضاً على نحوٍ حاسم، كما تعامل مع خطايا الحاضر.

وطبعاً أنَّ صورة موت المسيح كذبيحة كفّارية ليست إلَّا واحدةً من الصور التي يستخدمها الكتابُ المقدس. فهنالك أيضاً استعارةُ العبوديَّةِ القويّةُ جداًّ. هذه الصورة البيانية قدَّمها لنا المسيح نفسُه إذ قال:

"لأنّ ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدَم بل ليخدِم، وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين" (مرقس 10: 45).

وفكرة العبودية هذه قويَّةٌ على نحوٍ خاصّ في رسالة بولس إلى مؤمني مدينة روما، ربمَّا لأنَّ العبودية كانت مألوفةً لديهم جداًّ. (ومن المرجَّح أنَّ بعض المسيحيين في روما كانوا عبيداً). فيوضح بولس أنَّ المسيحيين المؤمنين في مدينة روما كانوا قبلاً "عبيداً للخطية" (راجع رومية 6: 17 و20)، ولكنَّ المسيح قد حرَّرهم. بل إن بطرس يوضح الصورة بأكثر جلاء، حيث يقول:

عالمين أنكم افتُديتم- لا بأشياء تفنى بفضَّة أو ذهب- من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دمِ المسيح (1 بطرس 1: 18و19).

ولنلاحظ هنا أن بطرس يدمج الصورتين معاً: الافتداء من عبوديَّةٍ للخطيَّة موروثة؛ والحريَّة بموت المسيح الذي يُشبَّه بحمل مقدَّمٍ ذبيحة.

هذا ويستخدم الكتاب المقدَّس صوراً أُخرى تهدف إلى توضيح معنى موت المسيح، أو على الأقلّ إلقاء بعض الضوء عليه.

وما لا يسمح لنا الكتاب المقدَّس بأن نفكِّر فيه هو أن صلب المسيح كان مجرَّد غلطةٍ رهيبة، أو إساءةً للعدل شنيعة، أو مهزلة قضائية مروِّعة. فليس الرومان مِن قتلوا المسيح ولا اليهود. بل إن المسيح هو مَن "وضع" حياته وقد أكَّد أنَّ له سلطاناً أن يفعل ذلك... وأن يستردَّ حياته أيضاً (راجع يوحنا 10: 17و18).

وفي أوّل عظةٍ مسيحية مدوَّنة نسمع بطرس أحد أتْباع المسيح الأوائل، يقول: هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه (أعمال 2: 23).

فلم يكن صلب المسيح حادثاً عرضيّاً بل إنَّه الحَدَث المركزي في التاريخ كلِّه. إنَّه المفتاح الذي لا بُدَّ منه لفهم المسيحية على حقيقتها، كما أنَّه المفتاح للأجوبة المسيحية عن الأسئلة الأساسية.

وكما أنَّ تلك الأسئلة الأساسية هي شخصيَّة في نهاية الأمر [مَن أنا؟ من أين جئت؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ولماذا؟ ] فكذلك المفتاح بالتمام هو شخصيٌّ أيضاً. هذا المفتاح يُقدَّم لك إذ تبلغ آخِر هذا الفصل. ولن يلاءم المفتاح القفل إلَّا ما دام محتفظاً بشكله الأصلي. فإذا لويت المفتاح أو حنيته أو قطعت شيئاً منه، فإنَّه يصير غير ملائم، ويبقى الباب مقفلاً، وتظلُّ الحياة لُغزاً والموتُ رُعباً. أمّا إذا قبلت المفتاح كما يقدّمه الكتاب المقدّس فإنّك تجد أن الله يأتي إليك في المسيح وقد بذل حياته عوضاً عن حياتك: إذ إنَّ المسيح الإنسان الخالِص من أيَّة خطيَّة قد حُمِّل خطاياك وسُمِّر على الصليب. فالمسيح قد صُلب ومات ودفن لأجلك أنت. خُذ هذا مفتاحاً، فإذا الباب ينفتح على مصراعيه، وإذا المعنى الغنيُّ يُضفَى على قصَّة المسيح كلِّها، وعلى تاريخ العالم بالذات، وعلى الحياة، وعلى حياتك أنت شخصيّاً.

وإليك الآن مهمَّةً تؤديّها. اقرأ القصَّة بنفسك كما دونَّها لوقا في إنجيله، من الآية 47 في الفصل 22 إلى آخر إنجيل لوقا. وقد كتب لوقا كتاباً ثانياً، هو سفر الأعمال. فتابع قراءة الفصل الأول من الأعمال، ترّ أنَّ بطرس صار إنساناً جديداً. ثَّم اقرأ عظته المدوّنة في الفصل الثاني. ولاحظ إدراك الحقيقة كما حصل فجأةً من قِبَل أولئك القوم في أورشليم، إذ تبيّن لهم أنَّهم هُم مسؤولون عن صلب المسيح، لأنَّ خطاياهم قد أرسلته إلى الصليب، وإذا بهم يسألون: "ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة"؟ (أعمال 2: 37). 

الصفحة
  • عدد الزيارات: 14330