انتصار أم هزيمة - محاكمة المسيح
محاكمة المسيح
لم يُحاكِم اليهودُ المسيح رسميّاً قطّ. ولا شكَّ أنَّهم كانوا يقصدون كُلَّ حين أن يضمنوا تحميل الرومان المسؤوليةَ عن موته. غير أنَّهم أجرَوا له استجواباً غير رسميّ.
وكان رؤساء الكهنة والمجمعُ كلُّه يطلبون شهادةً على يسوع ليقتلوه، فلم يجدوا. لأنَّ كثيرين شهدوا عليه زوراً ولم تتّفق شهاداتهم (مرقس 14: 55 و56).
السؤال
أخيراً أعيا الكهنة من جرّاء هذه المحاولة غير الوافية بالْمرُاد، فسألوا المسيح صراحةً:
أأنت المسيحُ ابنُ المبارَك؟ (مرقس 14: 61).
وكان هذا السؤال مهمّاً للغاية.
فمن جهةٍ واحدة، واجه هذا السؤالُ يسوعَ مباشرةً بمسألة كونه المسيحَ فعلاً.
ومن جهةٍ ثانية، استخدم رئيسُ الكهنة أقوى أنواع الخطاب في طرحه السؤال، بحيث كان واجبّا على المسيح أن يجيب بكلّ وضوح.
أستحلفك بالله الحيّ... (متى 26: 63).
ومن جهةٍ ثالثة، كان السؤال مهمّاً لأنَّه أفسح للمسيح في المجال كي يوضح للّاهوتيين المتفلسفين حقيقة هويّته وما يعنيه بالتعبير "المسيح".
جواب المسيح
أنا هو... وسوف تُبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء (مرقس 14: 62). كان أوّل شيء فعله يسوع في جوابه هذا هو أنَّه أوضح بجلاءٍ دعوى كونِه المسيح. ومن ثَمَّ فسَّر ذلك ليس بالنسبة إلى الماضي (الولادة العذراوية، التعليم، العجائب) بل بالإشارة إلى المستقبل، وبالتحديد إلى حادثةٍ مستقبليَّة تنبّأ عنها دانيال النبيّ (راجع دانيال 7: 13و 14).
يبدو لي أنَّ المسيح كان يؤكِّد هنا، على أوضح ما يكون، أنَّه حتّى تلك الأفكار التي كانت مُتداوّلة فيما يتعلّق بمسيحانيّته قد كانت مقصٍّرةً عن تصوير الحقيقة. فهو لم يكن مسيحاً ملكاً بالمعنى السياسي. ولا كان أيضاً "ابن المبارّك" بمعنِّى مجازيٍّ وحسب، أي رسولاً من عند الله. بل إنَّه يذهب إلى اعتبار نفسه أكثر من ذلك بكثير، على حدِّ ما توضِح نبوءة دانيال:
كنتُ أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثلُ ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيَّام فقرّبوه قدّامه. فأُعطيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كلُّ الشعوب والأُمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض.
فإنَّ جواب المسيح، هذا يُلمع إلى نبوءة معروفةٍ مألوفة، كان ردّاً قاطعاً بالغ التأثير. وما من لاهوتيٍّ يستطيع أن يشكّ على نحوٍ معقول ما يريده المسيحُ من قوله. ولذا أدرك رئيس الكهنة في الحال أن يسوع كان يرمي إلى التصريح بأنَّه يعدو كونه مجرَّد إنسان، مُشيراً بصراحةٍ إلى لاهوته، مِمَّا اعتُبِر تجديفاً:
ما حاجتُنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجاديف. ما رأيكم؟ (مرقس 14: 63 و 64).
الحُكم
جاء في الردّ اجتماعيّاً، إذ حكم الجميع على المسيح أنَّه مستوجب الموت.
وبالطبع، ما كان الرومان ليعنيهم أمرُ سجينٍ متَّهم بمخالفةٍ لعقائدَ دينيّة يهوديَّة. وفي الواقع أنَّ بيلاطُس، لمَّا اقتاد اليهودُ إليه المسيحَ أوَّلاً، أجابهم جواباً متوقّعاً كُليّاً، إذ قال:
خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم (يوحنا 18: 31).
ففي أثناء المحاكمة الرسمية أمام بيلاطس، ممثِّل السلطة الرومانية، طُرِقت هذه الوتيرة، أعني اتِّهامَه بالتجديف، فكان الردُّ واضحاً تماماً: ليتَّهم اليهود بهذه المسألة. ثُمَّ لمّا اتُّهم بالتحريض على الثورة، ولم يؤيَّد هذا الاتِّهام بأيَّة بنيِّةٍ وافية، قال بيلاطس لليهود أنَّه سيُطلقه.
وفي نهاية المطاف تبيَّن أنَّ الأمر بمجمله كان مؤامرةً مبطَّنةً لفَّقها اليهود كي يحصلوا على حُكم الموت الذي كانوا يبتغون:
"إن أطلقت هذا، فلست مُحِبّاً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر".
فلمّا سمع بيلاطس هذا القول، أخرج يسوع وجلس على كرسيّ الولاية في موضعٍ يُقال له البلاط (يوحنا 19: 12و 13).
وهُنالك حكم بيلاطس على المسيح بالموت. فلو أنَّ القيصر سمع أنَّ رجلاً قال بأنَّه ملك فأُلقيَ القبض عليه وجرى اتهامه واستجوابه ومحاكمتُه ثُمَّ أُطلق سراحه، لكان على الوالي الروماني عندئذٍ أن يُفسِّر للقيصر أموراً كثيرة. وما تجاسرَ بيلاطس أن يخاطر هذه المخاطرة. ولذا حكم على يسوع بالموت.
- عدد الزيارات: 14332