Skip to main content

انتصار أم هزيمة - المسيح المُنقذ

الصفحة 4 من 6: المسيح المُنقذ

المسيح المُنقذ

يتحدَّث العهد القديم عن إقامة الله لمُنقِذين يُخلِّصون شعبه. وخير مثلٍ على هذا سفر القضاة، حيث نشهد سلسلة طويلة من المُنقِذين أمثال عُثنيئيل وإهود، ودبورة النبيَّة، وجدعون وشمشون.

ونجد في نبوءة دانيال (24:9- 27) الإشارات الوحيدة في العهد القديم إلى مسيحٍ مُخلِّصٍ يأتي في المستقبل ولا يُذكَر بالاسم. فانطلاقاً من هذه النبوّة، ومن إدراكٍ لدور الله في تاريخ الأمَّة بإرسال مُنقِذ، عمَّ عند الشعب اليهودي رجاءٌ مسيحانيٌّ قويٌّ.

المخلَّص: العبد المتألِّم

على أنّ في العهد القديم اتّجاهاً ثانياً من التعليم النبوي يُركِّز على عبدٍ للربّ متألِّم. وكان أشعياء، بصورة رئيسيَّة، هو الذي أفاض في الحديث عن هذا الغرض. ففي سفر أشعياء أربعة مقاطع تُدعى أحياناً أناشيد العبد (42: 1- 4؛ 49: 1- 6؛ 50: 4- 9؛ 52: 13- 53: 12). إلا أنَّ في السفر إشارات أُخرى إلى هذا العبد بحيث يبلغ مجموع الإلماعات إلى العبد سبع عشرة (من أشعياء 41: 8 إلى أشعياء53:12). ويتميز النشيد الرابع على وجه الخصوص بتصويره لا مسيحاً ظافراً بل عبداً متألَّماً.

فمن كان هذا العبد المتألِّم؟ يوضح الأُستاذ كايرد (G. B. Caird)، في "لغة الكتاب المقدَّس والتصوير البيانيّ فيه"، حقيقة الأمر ببراعة إذ يقول:

أكان مقدَّراً أن يكون العبد هو الأمّة كلها أو مجرَّد بقيّةً، أن يكون كثيرين أو قليلين أو واحداً فقط؟ إنَّ السبب الذي حدا بالدارسين المُحدَثين أن يناقشوا هذه المسألة بلا انقطاع هو أنَّ النبيَّ نفسه لم يكن يعرف الجواب الصحيح.

فكأنَّما هو قد نشر إعلاناً عنوانه الرئيسي "مطلوب: عبدٌ للربّ" وفيه تحديد لبنود الوظيفة. ولا شك أن النبيَّ كان يعلم أنَّ عدَّة مشاهير، كموسى وإرميا مثلاً، قد جلسوا أمامه لوضع ملامحهم في الصورة المركّبة التي كان يرسمها. ولكنْ ما لم يكن ممكناً له أن يعرفه هو أنَّ مرشحاً واحداً فقط سيشغل في آخر الأمر هذه الوظيفة.

فقد كان مقدَّراً أن يكون العبدَ المتألِّم هو يسوعُ المسيح.

إذاً كان في العهد القديم تيّاران تعليميّان يَعِد كلٌّ منهما بمجيء مخلِّص، إلَّا أن أحدهما يُقدِّم مسيحاً ملكاً الآخر عبداً متألِّماً. ولمّا كان الشعب اليهودي واقعاً تحت ظلم الطغيان السياسيّ، فقد تمسَّك بفكرة كون المسيح ملكاً وحسب.

غير أن المسيح لم يشجِّع معاصريه اليهود على التشبُّث بهذه الفكرة المغلوطة. بل إنَّه في الواقع حذَّر منها أتباعه مراراً وتكراراً، مناشداً إيّاهم أن يخفِّفوا من غلواء التشديد على كونه المسيحَ الملكَ وحسْب. فبينما كان هذا صحيحاً من حيث التطبيق؛ إذ كان المسيح هو المخلِّص الإلهيّ، غير أن التلاميذ- شأنهم شأن جمهور الشعب- بدا أنَّهم لا يستطيعون أن يفكّروا في الإنقاذ إلَّا بمعنى التحرير السياسيّ. حتّى إنَّهم كانوا، بعد موت المسيح وقيامته، ما يزالون يفكِّرون هذا التفكير، إذ سألوه حينذاك قائلين:

"يا ربّ، هل في هذا الوقت تردُّ المُلك إلى إسرائيل؟" (أعمال:1:6).

وبالطبع لم يفعل المسيح ذلك. فهو قد أتى لغرضٍ آخر مختلف.

إلا أنَّه كان من الواضح جليّاً أنَّ إخفاء المسيح لقوّته الفريدة لم يكن مُمكِناً. فقد شفى كثيرين... ومَن ذا كان يستطيع مَنْعَ الذين شفاهم من التحدُّث عن شفائهم؟ وقد أقام أمواتاً... ومَن ذا كان يستطيع وقف الشهود عن إذاعة الخبر؟ وهو نهى عن ذلك غير مرّة (راجع مثلاً مرقس 5: 43)، غير أنَّ أخبار قوَّته انتشرت مع ذلك، حتّى إنّ الملك هيرودس أيضاً سمع عنه (راجع مرقس 6: 14). وهكذا لم يكن بُدٌّ من أن يُتعَبر المسيحُ خطراً يتهدَّد الرؤساء الدينيّين ولم تكُن حياتُهم لترقى إلى مستوى ما اتّصفت به حياة المسيح من وصراحة واستقامة، كما أعوزتهم القوّة في الشؤون الروحيَّة. كذلك أيضاً اعتُبِر المسيح خطراً يتهدّد الرؤساء المدنيين، إذ رأوا فيه ما يعكّر صفو الاستقرار السياسيّ.

ولكنَّ المسيح رفض دائماً هذا الدور السياسيّ. لنأخذ مثلاً الخبَر الوارد في يوحنا 6. فجميع كتبَةِ الأناجيل الأربعة يدوِّنون خبر هذه العجيبة المختصَّة بإشباع الخمسة الآلاف. إذا، كان طبيعيّاً أن يعترف الناس بها، ولم يكن بدٌّ من أن يتباحثوا في مسألة هويّة المسيح. وهنا أيضاً كان حتمياً أن تتّجه أفكارهم إلى النبوءات المتعلّقة بمجيء مخلِّص. وبعد، ألا يتضمَّن العهد القديم نبوّةً معروفةً جداً عن نبيٍّ مثل موسى يُرسِله الله (تثنية 18: 15- 19)؟ وموسى أعطى الشعب بأُعجوبةٍ طعاماً في أراضي سيناء الصحراوية. أفلم يكن المسيحُ هو النبيَّ المماثل لموسى؟ لابدَُّ أن يكون ذلك.

إنَّ هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم (يوحنا 6: 14).

وكان قصدهم المباشر أن يجعلوا يسوع ملكاً، وهو علم بذلك:

وأما يسوع، فإذا علم أنَّهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده(يوحنا 6:15).

لقد رفض المسيح أن يؤدي دوراً سياسيّاً. فهو قد جاء بوصفه المخلِّص المتألَّم كي يقهر الشيطان، ولم يأتِ مُنقِذا سياسيّاً كي يدحر القيصر.

محاكمة المسيح
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13679