Skip to main content

انتصار أم هزيمة

علّق أحد الهندوس في كالكوتا على جدران بيته عبارات رئيسيّة من أديان العالم – من البوذية، العبارة الرمزيَّة: "تحيَّةً للجوهرة في زهرة اللوطس"؛ ومن الإسلام، الدُّعاء: "باسم الله الرحمن الرحيم"؛ ومن الكونفوشيوسيّة، المثَل: "الحكيم يعتمد على النشاط الهادئ دون جلبة"؛ ومن الهندوسيّة، العبارة "ذلك هو أنت".

وكان بين العبارات آيةٌ من الكتاب المقدّس واردة في العهد القديم والعهد الجديد، اعتُبِرت بطريقةٍ من الطرائق راسخةً في صميم الإيمان المسيحي، ألا وهي تلك العبارة التي قالها المسيح وهو على الصليب:

"إلهي إلهي، لماذا تركتني؟" (مرقس 15 : 34).

من شأن المسيحية أن تؤيِّد وجهة نظر ذلك الهندوسي. فهنا، في موت المسيح،يكمن سرُّ فهم المسيحيّة.

ومن الأُمور المهمَّة أنَّ الأناجيل الأربعة تشدّد كثيراً لا على سيرة المسيح ولا على أمثاله، ولا على معجزاته أيضاً، بل على آخر مرحلة من حياته على الأرض.

فيوحنّا مثلاً يخصِّص نحو 45 بالمائة من إنجيله لأحداث الأسبوع الأخير من حياة المسيح، و18 بالمائة لخبر موت المسيح وقيامته.


الوقائع

إن الوقائع الأساسيَّة واضحة بكل دقائقها. فخلال السنين الثلاث أو نحوها من التعليم الجهاري، تنامى عداء القادة الدينيين للمسيح. وقُبيل الاحتفال بعيد الفصح السنوي أُلقي القبض على المسيح من قبل السلطات اليهودية ووجّهت إليه تهمة التجديف. وقد سلّمته السلطات اليهودية للسلطات الرومانية، لكنَّه اتُّهِم هذه المرة بالتحريض على الثورة والعصيان ولا سيمّا بالكلام ضدَّ القيصر. وحكم عليه بيلاطس، الوالي الروماني، بالموت. فصُلِب، وبعد ست ساعات مضت وهو معلّق على الصليب، مات.

ولأنَّ السبت، يوم الراحة المقدّس عند اليهود، كان يقترب، أُنزِل جسد المسيح عن الصليب ووُضِع في قبر محفور في الصخر. ولم يسع الوقت لمسح الجسد، كما جرت العادة، بِما يُعَدُّ من دهون وطيوب وعطور. فكان على أتباع المسيح، ولا سيمّا منهم النسوة اللواتي من شأنهنّ أن يتولَّين دهن الجسد، أن يكتفوا فقط بمراقبة القبر الذي ووري فيه الجسد مراقبةً دقيقة، كي يعودوا إلى إتمام ذلك الواجب حالما ينتهي السبت.

وقد سُدَّ بابُ القبر بحجر دُحرِج عليه بالطريقة المألوفة يوم ذاك. وأقامت السلطات اليهودية حراسةً على القبر مشدَّدةٍ، إذ علمت بوعد المسيح أنَّه سيعود إلى الحياة بعد موته. ولكنْ على الرغم من جميع هذه الاحتياطات، لمّا وصلت النسوة إلى القبر فجرَ يوم الأحد، حاملاتٍ الطيوبَ والعطور والدهون، وجدن القبر فارغاً.

وعلى مدى أربعين يوماً بعد ذلك، شاهد المسيحَ أشخاصٌ عديدون مختلفون، على غير انتظار مِن قِبَلهم. (يورد بولس لائحة معِّبرة تشملهم جميعاً، وذلك في 1 كورنثوس 15:3-8). وفي ما نعلم، لم يظهر المسيح بعد قيامته إلاَّ لمؤمنين. ثَّم توقفت هذه الظهورات حالاً بعد أربعين يوماً. وبعض أتباع المسيح رأوه فعلاً وهو يؤُخذ عنهم إذ... ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعيُنهم (أعمال الرسل 1:9).


الدَّعوى على المسيح

وُلد يسوع في بيت لحم، في جنوب البلد. وسمع الملك هيرودس بخبر "ملك اليهود" هذا من مجوس (أو حكماء) جاؤوا من الشرق، ربما من بلاد الفرس (حيث تقع إيران حالياً) أو من بلاد العرب. وإذ خشي هيرودس قيام ملك ينافسه، أرسل جنوداً إلى بيت لحم فقتلوا الأطفال الذكور جميعاً، لكنْ بعدما كان يوسف ومريم أُنذرا في حُلم فهربا بطفلهما إلى مصر. وفي آخر الأمر تسنّى لهما أن يعودا إلى الناصرة، وهناك تربّى يسوع.

اشتهر تاريخ اليهود بظهورٍ منتظمٍ لأنبياءَ يرسلهم الله فيتكلَّمون بما يوحي إليهم من كلام، ولم يندر أن يتكلَّموا عن أحداثِ المستقبل. من هؤلاء إيليا وأليشع اللذان سبق لنا أن صادفنا اسميهما. ومنهم أشعياء وهوشع مُعاصِرهُ. وقد كان آخِرَهم ملاخي. فبعد ملاخي حدث انقطاعٌ مشؤوم في تَسلسُل الأنبياء، فكانت فترة صمت دامت أكثر من أربع مئة سنة. حتّى دوَّى صوتُ يوحنا المعمدان قاطعاً الصمت، معلناً قدوم المسيح: يأتي بعدي من هو أقوى منّي، الذي لست أهلاً أن أنحني وأحلّ سيور حذائه. أنا عمّدتكم بالماء وأما هو فسيعمّدكم بالروح القدس (مرقس 1: 7 و8).

وقد عرَّف يوحنا نفسه من خلال نبوّة قديمة، فكان– كما قال:

صوتَ صارخٍ في البريَّة: أعدّوا طريق الربّ، اصنعوا سبله مستقيمة (متى 3:3؛ راجع أيضاً أشعياء 3:40). فيوحنا كان الصوت؛ ويسوعُ كان الربّ.

ويبدو أن الشعب فهموا سريعاً رسالة يوحنا المعمدان. فقريباً سيظهر شخصٌ يكون على الأقلّ منقذاً. ولعلَّه شخص يستطيع أن يحرِّر الشعب اليهودي من نير الرومان الغزاة. ألم يبعث الله في الماضي رجالاً من هذا النوع؟... أو يكون القادمُ آنذاك هو المسيّا الذي طال انتظاره، أي المسيح الذي أقامه الله ومسحه ليكون منقذاً لشعبه؟

سبق أن رأينا في الفصل الثاني أن يسوع دُعي "المسيح" وتفسيره "الممسوح"، كما رأينا أيضاً أن الملوك كانوا يُمسَحون مَثَلُهم مثلُ الأنبياء والكهنة. فإذا كان يسوع هو المسيح، فهل هو المعَّين من الله والممسوح ملكاً أو نبيّاً أو كاهناً؟


المسيح المُنقذ

يتحدَّث العهد القديم عن إقامة الله لمُنقِذين يُخلِّصون شعبه. وخير مثلٍ على هذا سفر القضاة، حيث نشهد سلسلة طويلة من المُنقِذين أمثال عُثنيئيل وإهود، ودبورة النبيَّة، وجدعون وشمشون.

ونجد في نبوءة دانيال (24:9- 27) الإشارات الوحيدة في العهد القديم إلى مسيحٍ مُخلِّصٍ يأتي في المستقبل ولا يُذكَر بالاسم. فانطلاقاً من هذه النبوّة، ومن إدراكٍ لدور الله في تاريخ الأمَّة بإرسال مُنقِذ، عمَّ عند الشعب اليهودي رجاءٌ مسيحانيٌّ قويٌّ.

المخلَّص: العبد المتألِّم

على أنّ في العهد القديم اتّجاهاً ثانياً من التعليم النبوي يُركِّز على عبدٍ للربّ متألِّم. وكان أشعياء، بصورة رئيسيَّة، هو الذي أفاض في الحديث عن هذا الغرض. ففي سفر أشعياء أربعة مقاطع تُدعى أحياناً أناشيد العبد (42: 1- 4؛ 49: 1- 6؛ 50: 4- 9؛ 52: 13- 53: 12). إلا أنَّ في السفر إشارات أُخرى إلى هذا العبد بحيث يبلغ مجموع الإلماعات إلى العبد سبع عشرة (من أشعياء 41: 8 إلى أشعياء53:12). ويتميز النشيد الرابع على وجه الخصوص بتصويره لا مسيحاً ظافراً بل عبداً متألَّماً.

فمن كان هذا العبد المتألِّم؟ يوضح الأُستاذ كايرد (G. B. Caird)، في "لغة الكتاب المقدَّس والتصوير البيانيّ فيه"، حقيقة الأمر ببراعة إذ يقول:

أكان مقدَّراً أن يكون العبد هو الأمّة كلها أو مجرَّد بقيّةً، أن يكون كثيرين أو قليلين أو واحداً فقط؟ إنَّ السبب الذي حدا بالدارسين المُحدَثين أن يناقشوا هذه المسألة بلا انقطاع هو أنَّ النبيَّ نفسه لم يكن يعرف الجواب الصحيح.

فكأنَّما هو قد نشر إعلاناً عنوانه الرئيسي "مطلوب: عبدٌ للربّ" وفيه تحديد لبنود الوظيفة. ولا شك أن النبيَّ كان يعلم أنَّ عدَّة مشاهير، كموسى وإرميا مثلاً، قد جلسوا أمامه لوضع ملامحهم في الصورة المركّبة التي كان يرسمها. ولكنْ ما لم يكن ممكناً له أن يعرفه هو أنَّ مرشحاً واحداً فقط سيشغل في آخر الأمر هذه الوظيفة.

فقد كان مقدَّراً أن يكون العبدَ المتألِّم هو يسوعُ المسيح.

إذاً كان في العهد القديم تيّاران تعليميّان يَعِد كلٌّ منهما بمجيء مخلِّص، إلَّا أن أحدهما يُقدِّم مسيحاً ملكاً الآخر عبداً متألِّماً. ولمّا كان الشعب اليهودي واقعاً تحت ظلم الطغيان السياسيّ، فقد تمسَّك بفكرة كون المسيح ملكاً وحسب.

غير أن المسيح لم يشجِّع معاصريه اليهود على التشبُّث بهذه الفكرة المغلوطة. بل إنَّه في الواقع حذَّر منها أتباعه مراراً وتكراراً، مناشداً إيّاهم أن يخفِّفوا من غلواء التشديد على كونه المسيحَ الملكَ وحسْب. فبينما كان هذا صحيحاً من حيث التطبيق؛ إذ كان المسيح هو المخلِّص الإلهيّ، غير أن التلاميذ- شأنهم شأن جمهور الشعب- بدا أنَّهم لا يستطيعون أن يفكّروا في الإنقاذ إلَّا بمعنى التحرير السياسيّ. حتّى إنَّهم كانوا، بعد موت المسيح وقيامته، ما يزالون يفكِّرون هذا التفكير، إذ سألوه حينذاك قائلين:

"يا ربّ، هل في هذا الوقت تردُّ المُلك إلى إسرائيل؟" (أعمال:1:6).

وبالطبع لم يفعل المسيح ذلك. فهو قد أتى لغرضٍ آخر مختلف.

إلا أنَّه كان من الواضح جليّاً أنَّ إخفاء المسيح لقوّته الفريدة لم يكن مُمكِناً. فقد شفى كثيرين... ومَن ذا كان يستطيع مَنْعَ الذين شفاهم من التحدُّث عن شفائهم؟ وقد أقام أمواتاً... ومَن ذا كان يستطيع وقف الشهود عن إذاعة الخبر؟ وهو نهى عن ذلك غير مرّة (راجع مثلاً مرقس 5: 43)، غير أنَّ أخبار قوَّته انتشرت مع ذلك، حتّى إنّ الملك هيرودس أيضاً سمع عنه (راجع مرقس 6: 14). وهكذا لم يكن بُدٌّ من أن يُتعَبر المسيحُ خطراً يتهدَّد الرؤساء الدينيّين ولم تكُن حياتُهم لترقى إلى مستوى ما اتّصفت به حياة المسيح من وصراحة واستقامة، كما أعوزتهم القوّة في الشؤون الروحيَّة. كذلك أيضاً اعتُبِر المسيح خطراً يتهدّد الرؤساء المدنيين، إذ رأوا فيه ما يعكّر صفو الاستقرار السياسيّ.

ولكنَّ المسيح رفض دائماً هذا الدور السياسيّ. لنأخذ مثلاً الخبَر الوارد في يوحنا 6. فجميع كتبَةِ الأناجيل الأربعة يدوِّنون خبر هذه العجيبة المختصَّة بإشباع الخمسة الآلاف. إذا، كان طبيعيّاً أن يعترف الناس بها، ولم يكن بدٌّ من أن يتباحثوا في مسألة هويّة المسيح. وهنا أيضاً كان حتمياً أن تتّجه أفكارهم إلى النبوءات المتعلّقة بمجيء مخلِّص. وبعد، ألا يتضمَّن العهد القديم نبوّةً معروفةً جداً عن نبيٍّ مثل موسى يُرسِله الله (تثنية 18: 15- 19)؟ وموسى أعطى الشعب بأُعجوبةٍ طعاماً في أراضي سيناء الصحراوية. أفلم يكن المسيحُ هو النبيَّ المماثل لموسى؟ لابدَُّ أن يكون ذلك.

إنَّ هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم (يوحنا 6: 14).

وكان قصدهم المباشر أن يجعلوا يسوع ملكاً، وهو علم بذلك:

وأما يسوع، فإذا علم أنَّهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده(يوحنا 6:15).

لقد رفض المسيح أن يؤدي دوراً سياسيّاً. فهو قد جاء بوصفه المخلِّص المتألَّم كي يقهر الشيطان، ولم يأتِ مُنقِذا سياسيّاً كي يدحر القيصر.


محاكمة المسيح

لم يُحاكِم اليهودُ المسيح رسميّاً قطّ. ولا شكَّ أنَّهم كانوا يقصدون كُلَّ حين أن يضمنوا تحميل الرومان المسؤوليةَ عن موته. غير أنَّهم أجرَوا له استجواباً غير رسميّ.

وكان رؤساء الكهنة والمجمعُ كلُّه يطلبون شهادةً على يسوع ليقتلوه، فلم يجدوا. لأنَّ كثيرين شهدوا عليه زوراً ولم تتّفق شهاداتهم (مرقس 14: 55 و56).

السؤال

أخيراً أعيا الكهنة من جرّاء هذه المحاولة غير الوافية بالْمرُاد، فسألوا المسيح صراحةً:

أأنت المسيحُ ابنُ المبارَك؟ (مرقس 14: 61).

وكان هذا السؤال مهمّاً للغاية.

فمن جهةٍ واحدة، واجه هذا السؤالُ يسوعَ مباشرةً بمسألة كونه المسيحَ فعلاً.

ومن جهةٍ ثانية، استخدم رئيسُ الكهنة أقوى أنواع الخطاب في طرحه السؤال، بحيث كان واجبّا على المسيح أن يجيب بكلّ وضوح.

أستحلفك بالله الحيّ... (متى 26: 63).

ومن جهةٍ ثالثة، كان السؤال مهمّاً لأنَّه أفسح للمسيح في المجال كي يوضح للّاهوتيين المتفلسفين حقيقة هويّته وما يعنيه بالتعبير "المسيح".

جواب المسيح

أنا هو... وسوف تُبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء (مرقس 14: 62). كان أوّل شيء فعله يسوع في جوابه هذا هو أنَّه أوضح بجلاءٍ دعوى كونِه المسيح. ومن ثَمَّ فسَّر ذلك ليس بالنسبة إلى الماضي (الولادة العذراوية، التعليم، العجائب) بل بالإشارة إلى المستقبل، وبالتحديد إلى حادثةٍ مستقبليَّة تنبّأ عنها دانيال النبيّ (راجع دانيال 7: 13و 14).

يبدو لي أنَّ المسيح كان يؤكِّد هنا، على أوضح ما يكون، أنَّه حتّى تلك الأفكار التي كانت مُتداوّلة فيما يتعلّق بمسيحانيّته قد كانت مقصٍّرةً عن تصوير الحقيقة. فهو لم يكن مسيحاً ملكاً بالمعنى السياسي. ولا كان أيضاً "ابن المبارّك" بمعنِّى مجازيٍّ وحسب، أي رسولاً من عند الله. بل إنَّه يذهب إلى اعتبار نفسه أكثر من ذلك بكثير، على حدِّ ما توضِح نبوءة دانيال:

كنتُ أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثلُ ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيَّام فقرّبوه قدّامه. فأُعطيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كلُّ الشعوب والأُمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض.

فإنَّ جواب المسيح، هذا يُلمع إلى نبوءة معروفةٍ مألوفة، كان ردّاً قاطعاً بالغ التأثير. وما من لاهوتيٍّ يستطيع أن يشكّ على نحوٍ معقول ما يريده المسيحُ من قوله. ولذا أدرك رئيس الكهنة في الحال أن يسوع كان يرمي إلى التصريح بأنَّه يعدو كونه مجرَّد إنسان، مُشيراً بصراحةٍ إلى لاهوته، مِمَّا اعتُبِر تجديفاً:

ما حاجتُنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجاديف. ما رأيكم؟ (مرقس 14: 63 و 64).

الحُكم

جاء في الردّ اجتماعيّاً، إذ حكم الجميع على المسيح أنَّه مستوجب الموت.

وبالطبع، ما كان الرومان ليعنيهم أمرُ سجينٍ متَّهم بمخالفةٍ لعقائدَ دينيّة يهوديَّة. وفي الواقع أنَّ بيلاطُس، لمَّا اقتاد اليهودُ إليه المسيحَ أوَّلاً، أجابهم جواباً متوقّعاً كُليّاً، إذ قال:

خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم (يوحنا 18: 31).

ففي أثناء المحاكمة الرسمية أمام بيلاطس، ممثِّل السلطة الرومانية، طُرِقت هذه الوتيرة، أعني اتِّهامَه بالتجديف، فكان الردُّ واضحاً تماماً: ليتَّهم اليهود بهذه المسألة. ثُمَّ لمّا اتُّهم بالتحريض على الثورة، ولم يؤيَّد هذا الاتِّهام بأيَّة بنيِّةٍ وافية، قال بيلاطس لليهود أنَّه سيُطلقه.

وفي نهاية المطاف تبيَّن أنَّ الأمر بمجمله كان مؤامرةً مبطَّنةً لفَّقها اليهود كي يحصلوا على حُكم الموت الذي كانوا يبتغون:

"إن أطلقت هذا، فلست مُحِبّاً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر".

فلمّا سمع بيلاطس هذا القول، أخرج يسوع وجلس على كرسيّ الولاية في موضعٍ يُقال له البلاط (يوحنا 19: 12و 13).

وهُنالك حكم بيلاطس على المسيح بالموت. فلو أنَّ القيصر سمع أنَّ رجلاً قال بأنَّه ملك فأُلقيَ القبض عليه وجرى اتهامه واستجوابه ومحاكمتُه ثُمَّ أُطلق سراحه، لكان على الوالي الروماني عندئذٍ أن يُفسِّر للقيصر أموراً كثيرة. وما تجاسرَ بيلاطس أن يخاطر هذه المخاطرة. ولذا حكم على يسوع بالموت.


المسيح على الصليب

صُلِب المسيح الساعةَ التاسعة صباحاً. ومن على الصليب تكلَّم سبع مرّات. فأوّلاً، طلب المغفرة لمسمِّريه. ثمَّ أوصى يوحنا، أحد تلاميذه، أن يعتني بمريم أُمِّه. وبعدئذٍ وقع وعداً لأحد الْمُجرِمَين المصلوبَين معه بأنَّه سيكون معه في الفردوس ذلكَ اليوم. ومن ثمَّ كانت الصرخة: "أنا عطشان"، وآخِرَ الكُلِّ كان الإعلانُ الظافر: "قد أُكمِل"، وبعدَه الصلاة التي درج اليهود على تلاوتها في آخر كلّ نهار: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي".

أما الصرخة المركزيَّة، وهي مفتاح الحادثة كلَّها، فقد كانت:

"إلهي، إلهي، لماذا تركتَني؟" (مرقس 15: 34).

وهي تلك العبارة التي علَّقها الهندوسيُّ على جدار غرفته في كالكوتا.

وهكذا نرى أنَّ متى ومرقس يدوِّنان العبارة المركزية باللغة الآرامية كما استخدمها المسيح: إلوي، إلوي، لمَا شبقتَني؟

المزمور الثاني والعشرون

هذه العبارة المذكورة ترد في مستهلّ المزمور الثاني والعشرين، وقد كُتب قبل حادثة الصلب بألف سنة تقريباً. ورغم طول المدى الزمنيّ، يقدِّم هذا المزمور تعليقاً رائعاً على اختبار الصليب، وكأنَّما قد كُتب لهذه الحادثة بالذات.

يفهم اليهود المزمور الثاني والعشرين عادةً على أنَّه يُشير آلام الأُمَّة كمجموعة وإلى خلاصها النهائيّ، وإن كان بعضهم قد أشاروا أنَّ في ذهن الكاتب فتراتِ معاناة داود، على الأرجح لمّا كان شاول يُطارده. ولا شكّ أنَّه كان لهذا المزمور مناسبةٌ مباشرة لمّا نُظِم. غير أنَّ المسيحيين رأوا في المزمور أيضاً ما يُعتبَر إنباءً بآلام المسيح.

ينقسم المزمور إلى قسمين:

• الآيات 1- 21، وموضوعها الآلام غير المستحقَّة؛

• الآيات 22- 31، و موضوعها الحمد لأجل النجاة.

ويبدو أنَّ في وسط المزمور تغييراً في النبرة من الأدنى إلى الأعلى. فإذا ما طُبِّق على حادثة الصلب/ فهو يمدّنا بتوكيد رائعٍ أنَّ يسوع قد أُنقِذ فعلاً من اختبار الوحشة الرهيب.

لأنّه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين؛ ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع (الآية 24).

بيد أنَّه ما يزال يواجهنا السؤال: ماذا كان السبب الكامن وراء ما يُدعى عادةً "صرخة الهجران" التي أطلقها المسيح؟ لماذا شعر المسيح أنَّ أباه قد تركه؟ إنَّ الجواب يمدّنا بواحدةٍ من الحقائق المركزية في المسيحيَّة، إذ إنَّ المسيح على الصليب قد جُعِل "خطيَّة لأجلنا" (2 كورنثوس 5: 21)، وقد "حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة" (1 بطرس 2: 24)، "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا" (أشعياءء 53: 5).

المزمور 22: 1- 24

إِلَهِي! إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ إِلَهِي فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ. فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوءَ لِي. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجُوا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزُوا. أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. كُلُّ الَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: [اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ]. لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنّاً عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلَهِي. لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ. لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي. لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي. أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ. يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ. مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ. وَاخْشُوهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعاً. لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ الْمَِسْكِينِ وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.

ينبغي التشديد على أننا نضع يدنا هُنا على لُبّ المسيحيّة.

فليست المسيحية مجرَّد تحليل لمشكلات الإنسان تصحبه بعض الاقتراحات التي تبيِّن لنا كيف يُمكن أن نحلَّ نحنُ تلك المشكلات. بل إن المسيحيّة في جوهرها هي ما قد فعله الله بخصوص مشكلاتنا.

وتثبت المسيحية أو تسقط بموجب أحداث تاريخيَّة معيّنة، ليس بما قاله المسيح وحسب، بل بما فعله أيضاً. هذا الأمر يوضحه بجلاءٍ بولسُ الرسول في رسالته الأولى إلى المؤمنين المسيحيين في مدينة كورنثوس، حيث يقول:

فإنّني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وإنَّه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب (1 كورنثوس 15: 3 و4).

عند هذه النقطة بالتحديد، وهي نقطة حاسمة أكثر من سواها، تتنازع أديان العالم. فاليهودية تُنكر أن يسوع هو المسيح وأنَّه مات وقام حيَّاً "حسب الكتب". والإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك فيُنكر صلب المسيح. وفي ما يلي تلخيصٌ القضيَّة المتنازَع حولها، وذلك بقلم واحدٍ من عُلماء المسلمين:

على أن القرآن لا يعترف بأنَّه قد صُلب، بل يُفيد أنَّه رُفِع إلى السماء رأساً. هذه هي "الحقيقة" الواحدة التي لا يُمكن إنقاصُها والتي تفصل ما بين المسيحية والإسلام- حقيقةٌ مُثبتةٌ بالفعل من قِبَل العناية الإلهيَّة لمنع الخلط بين الديانتين. فسائر التعاليم الأُخرى، كمسألة طبيعة المسيح أو الثالوث مثلاً، يُمكن فهمُها ميتافيزيقيَّاً بطريقةٍ تؤلِّف بين المنظورَين. غير أنَّ مسألة موت المسيح تبقى هي "الحقيقة" التي تستعصي على أيِّ تفسيرٍ من شأنه أن يكون مشتركاً بين نظرة كلٍّ من المسيحية والإسلام إلى هذه الحادثة (سيّد حُسين نصر، في "الحياة والفكر الإسلاميَّان").

أعتقد أنَّ هذا التلخيص للقضيَّة مُنصفٌ للغاية. ولكنْ ربَّما كان من الواجب أن نُضيف، في سبيل إكمال الصورة، أنْ ليس جميع المسلمين ينظرون إلى حادثة الصليب نظرة واحدة. فإلى حدٍّ بعيد، تعتقد تعليم الأغلبيَّة النظرة التي عرضها نصر. غير أنَّ الأحمديَّة قديمة تذهب إلى أن المسيح أُغمي عليه فقط على الصليب وأفاق في القبر وأخيراً مات في كشمير.

ولكنَّ كِلا التفسيرين لصلب المسيح يُناقض تعليم المسيحيَّة الجوهريّ أنَّ المسيح مات لأجل خطايانا. ونتيجة هذه المناقضة يُحسِن التعبيرَ عنها كاتبٌ أحمديّ، هو محمَّد ظفر الله خان، إذ يقول:

ما إن يُثبت أنَّ المسيح لم يمت على الصليب، حتَّى ينتفي الموتُ المقترن باللعنة. وحمْلُ خطايا البشريَّة، والقيامةُ، والصعود، والكفّارة. فإذ ذاك ينهار بنيان علِم اللاهوت الكنسيّ بكامله (الإنقاذ من الصليب، ص 89). وإنَّه لَعلى حقِّ.

ينبغي أن نقول حالاً إنَّه لا سبيل إلى إزالة الفكرة القائلة بموت المسيح الكفّاري من الكتاب المقدّس بمجردَّ إسقاط بضع آياتٍ من هنا وهناك. فالعالَم الإسلاميُّ يُعلَّم أنَّ التوراة والإنجيل مُحرَّفان، ولكنْ لو صحَّ ذلك لكان علينا أن نقول في الحال إنَّ إزالة التحريف معناها، على أقرب وجه، خسارة الكتاب المقدّس بكامله، إذ إنَّ تعليم الكفّارة هذا متأصِّل فيه عميقاً جداًّ، ومفاده أنَّ خطاياي يمكن أن تُغفر لأنّ المسيح مات عنّي. هذا التعليم يُصوِّره في العهد القديم خبرُ الخروج من مصر والتضحيةُ بخروف الفصح. يصوِّره نظامُ. الذبائح المعقَّد، من حيثُ يشير إلى بلوغ غاية إتمامه في موت المسيح. وهو مصوِّرٌ أيضاً في الخبر العجيب عن استبدال كبشٍ بابن إبراهيم ليُذبح فداءً له، وذلك على جبل الْمُرايّا بحسبما جاء في تكون 22: 1-14. كما أنَّه مصوَّر كذلك في أشعياء 53 ومزمور 22، وفي تأسيس يوم الكفّارة على ما هو مذكور في لاويين 16.

فالواقع أن المسيحية تحمل الخطَّية على محمل الجدّ. فالخطيّة أكثر بكثير من تلك الأمور الخطأ التي أفعلها، إذ إنهَّا مبدأُ عامل، لكونها قوّةً في داخلي تسيطر عليَّ. ومن الأديان ما يوحي أنَّ كل ما نحتاج إليه هو التنوير: فما إن نعلم كيف ينبغي أن نتصرّف حتّى نكون قادرين على التصرُّف حسناً. إلا أن المسيحية تبتسم ابتسامةً واثقة وتقول: لن تستطيع.

وما أسرع ما تتبيَّن لنا حقيقة الخطيَّة وسلطتُها حالما نتنبَّه إلى مداها الواسع. ذلك أنّ دينونة الله لحياتي تشمل أفكاري ودوافعي ورغباتي كما تشمل أفعالي. فما من جهاز قضائي يستطيع أن يتعامل مع الأفكار، إذ لا يتناول إلَّا الأعمال الناتجة من الأفكار. أما الله فيُلاحظ الأفكار الخاطئة، ويراها جميعاً نابعةً من خطيَّةٍ كامنة، من قوةٍ عاملةٍ فينا.

فحريٌّ بنا أن نسائل أنفسنا:

هل المسيحية على صواب في تحليلها أو هي على خطأ؟ أفي وسعي حقّاً أن أفعل ما ينبغي لي أن أفعله؟ أوَ أستطيع أيضاً أن أفعل ما أُريد فعله؟

الخطيَّة حقيقة واقعة. وقليلون هم الذين يحاولون إنكار هذا الواقع. ويشدّد الصليب على ناحية ثانية من نواحي مسألة الخطيَّة، أعني بها برَّ الله. فكِلا العهدين القديم والجديد يتّفقان على أنَّ الله لا يُمكن أن يقول لنا ببساطة: "حسناً، انسوَا أمر خطاياكم". إذ من الواجب أن تُعالج الخطايا. وقد كان في فترة العهد القديم نظام ذبائح حيوانية. إلَّا أن هذه الذبائح لم تُعالج الخطايا نهائيّاً، بل ما فعلته هو أنَّها أشارت مقدَّماً إلى الوسيلة الحاسمة في معالجة الخطيَّة على يد المسيح. فقد مضت قرونٌ والخطيّة لا تُعالَج إلَّا رمزيّاً. وربَّما بدا أنّ الخطيَّة أفلتت من العقاب والبرّ لم يلقَ الثواب؛ حتّى جاء المسيح ليُعالج كلَّ الخطايا، خطايا الذين عاشوا في أيّام العهد القديم وخطايا الذين يأتون بعد المسيح. فليس من فرق، إذ الجميع أخطئوا، وقد عولجت الخطايا كلّها بالطريقة الواحدة عينها:

لأنّه لا فرق، إذ الجميع اخطئوا وأعوزهم مجدُ الله، متبرّرين مجّاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدّمه كفّارة بالإيمان بدمه لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإهمال الله، لإظهار برّه في الزمان الحاضر ليكون باراًّ ويبرّر مَنْ هو مِنَ الإيمان بيسوع (رومية 3: 22- 26).

إلا أنَّ خطايا الماضي لم تُترك دون عقاب، إذ تعامل المسيح معها أيضاً على نحوٍ حاسم، كما تعامل مع خطايا الحاضر.

وطبعاً أنَّ صورة موت المسيح كذبيحة كفّارية ليست إلَّا واحدةً من الصور التي يستخدمها الكتابُ المقدس. فهنالك أيضاً استعارةُ العبوديَّةِ القويّةُ جداًّ. هذه الصورة البيانية قدَّمها لنا المسيح نفسُه إذ قال:

"لأنّ ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدَم بل ليخدِم، وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين" (مرقس 10: 45).

وفكرة العبودية هذه قويَّةٌ على نحوٍ خاصّ في رسالة بولس إلى مؤمني مدينة روما، ربمَّا لأنَّ العبودية كانت مألوفةً لديهم جداًّ. (ومن المرجَّح أنَّ بعض المسيحيين في روما كانوا عبيداً). فيوضح بولس أنَّ المسيحيين المؤمنين في مدينة روما كانوا قبلاً "عبيداً للخطية" (راجع رومية 6: 17 و20)، ولكنَّ المسيح قد حرَّرهم. بل إن بطرس يوضح الصورة بأكثر جلاء، حيث يقول:

عالمين أنكم افتُديتم- لا بأشياء تفنى بفضَّة أو ذهب- من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دمِ المسيح (1 بطرس 1: 18و19).

ولنلاحظ هنا أن بطرس يدمج الصورتين معاً: الافتداء من عبوديَّةٍ للخطيَّة موروثة؛ والحريَّة بموت المسيح الذي يُشبَّه بحمل مقدَّمٍ ذبيحة.

هذا ويستخدم الكتاب المقدَّس صوراً أُخرى تهدف إلى توضيح معنى موت المسيح، أو على الأقلّ إلقاء بعض الضوء عليه.

وما لا يسمح لنا الكتاب المقدَّس بأن نفكِّر فيه هو أن صلب المسيح كان مجرَّد غلطةٍ رهيبة، أو إساءةً للعدل شنيعة، أو مهزلة قضائية مروِّعة. فليس الرومان مِن قتلوا المسيح ولا اليهود. بل إن المسيح هو مَن "وضع" حياته وقد أكَّد أنَّ له سلطاناً أن يفعل ذلك... وأن يستردَّ حياته أيضاً (راجع يوحنا 10: 17و18).

وفي أوّل عظةٍ مسيحية مدوَّنة نسمع بطرس أحد أتْباع المسيح الأوائل، يقول: هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه (أعمال 2: 23).

فلم يكن صلب المسيح حادثاً عرضيّاً بل إنَّه الحَدَث المركزي في التاريخ كلِّه. إنَّه المفتاح الذي لا بُدَّ منه لفهم المسيحية على حقيقتها، كما أنَّه المفتاح للأجوبة المسيحية عن الأسئلة الأساسية.

وكما أنَّ تلك الأسئلة الأساسية هي شخصيَّة في نهاية الأمر [مَن أنا؟ من أين جئت؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ولماذا؟ ] فكذلك المفتاح بالتمام هو شخصيٌّ أيضاً. هذا المفتاح يُقدَّم لك إذ تبلغ آخِر هذا الفصل. ولن يلاءم المفتاح القفل إلَّا ما دام محتفظاً بشكله الأصلي. فإذا لويت المفتاح أو حنيته أو قطعت شيئاً منه، فإنَّه يصير غير ملائم، ويبقى الباب مقفلاً، وتظلُّ الحياة لُغزاً والموتُ رُعباً. أمّا إذا قبلت المفتاح كما يقدّمه الكتاب المقدّس فإنّك تجد أن الله يأتي إليك في المسيح وقد بذل حياته عوضاً عن حياتك: إذ إنَّ المسيح الإنسان الخالِص من أيَّة خطيَّة قد حُمِّل خطاياك وسُمِّر على الصليب. فالمسيح قد صُلب ومات ودفن لأجلك أنت. خُذ هذا مفتاحاً، فإذا الباب ينفتح على مصراعيه، وإذا المعنى الغنيُّ يُضفَى على قصَّة المسيح كلِّها، وعلى تاريخ العالم بالذات، وعلى الحياة، وعلى حياتك أنت شخصيّاً.

وإليك الآن مهمَّةً تؤديّها. اقرأ القصَّة بنفسك كما دونَّها لوقا في إنجيله، من الآية 47 في الفصل 22 إلى آخر إنجيل لوقا. وقد كتب لوقا كتاباً ثانياً، هو سفر الأعمال. فتابع قراءة الفصل الأول من الأعمال، ترّ أنَّ بطرس صار إنساناً جديداً. ثَّم اقرأ عظته المدوّنة في الفصل الثاني. ولاحظ إدراك الحقيقة كما حصل فجأةً من قِبَل أولئك القوم في أورشليم، إذ تبيّن لهم أنَّهم هُم مسؤولون عن صلب المسيح، لأنَّ خطاياهم قد أرسلته إلى الصليب، وإذا بهم يسألون: "ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة"؟ (أعمال 2: 37). 

  • عدد الزيارات: 14336