Skip to main content

يسوع المسيح هو الحلُّ الوحيد

يمكن اعتبار أديان العالم مجموعة من المحاولات الهادفة إلى توفير أجوبة عن الأسئلة الأساسية: "مَن أنا؟"، "مِن أين جئت؟"، "إلى أين أنا ذاهب ؟"،"لماذا؟"، وهكذا دواليك. فلمّا فكر غوتاما البوذا مثلاً في الوجود البشري صعقه على الأخصّ شمولُ الألم وارتأى أنّ في وسعنا الإفلات من الألم بسلوك سبيلٍ وسط: ألاَّ نكون مُفرطين في الانضباط، ومع ذلك لا نكون عديمي الانضباط، ألاّ نضحك كثيراً، ومع ذلك لا نغرق دائماً في سيولٍ من الدموع. أو لنأخذ الأجوبة التي قدّمها كارل ماركس، حيث تنشأ مشكلات الحياة من نظام الطبقات. فإنْ تخلَّصنا من طبقيّة المجتمع، يبدأ الظُّلم عندئذٍ يزول بالتدريج.

أما في المسيحية فالأجوبة عن الأسئلة الأساسية تأتينا من طريق إعلان الله لذاته عموماً في الكتاب المقدّس وخصوصاً في يسوع المسيح.

والاسم "يسوع" بحدّ ذاته مهمٌّ بسبب معناه: "الربّ يخلّص" (راجع متى 21:1). وهذا الاسم يفترض مسبّقاً وضعاً يحتاج الناس لأن يُخلَّصوا منه، ويدلّ على أنّ لدى الله سبيلاً للخلاص.

كذلك لُقِّب يسوع أيضاً "المسيح" وهي الترجمة العربية للّفظة العبرية "مسيّا" ومعناها "الممسوح". وبحسب الفكر العبري، كان الشخص يُمسَح بالزيت (الدهن) علامةً على أنَّه مدعوٌّ إلى مهمّة خاصّة. كان الملوك يمسحون، شأنهم شأن الكهنة والأنبياء أيضاً. ويبدو مرجّحاً بالنسبة إلى يسوع أن عمله قد جعله يحمل الصفات الثلاث: نبي وكاهن وملك.

لماّ قدّم يسوع للذين يسمعون له أجوبته عن الأسئلة الأساسية، قدّمها بطريقة جديدة كليّاً. فإنَّ غوتاما البوذا تفحَّص الحياة وتأمَّل غوامضها ثَّم عرض ما طلع به من حَلّ غير أنه أبقى الله خارج نظامه. ومِن بعد يأتي محمد ويواجه الأسئلة المطروحة دائماً أبداً ويذهب إلى أن الله أوحى إليه بالأجوبة. أمّا بالنسبة إلى يسوع المسيح، فعندنا شيء مختلف كليّاً: فقد صرّح المسيح بأنه جاء من لدن الله وأنَّه هو الله.


سيرة يسوع

تبدأ سيرة يسوع بداية غير عاديّة وتنتهي نهايةً بعيدة عن المألوف، (أمر متوقّع إذا كان هو الله). فقد كان ليسوع أُمٌّ بشرية، ولكن لم يكن له أبٌ بشري. وسيرة يسوع الفريدة على الأرض تبدأ بحادث حبَلٍ فريد، ذلك أن يسوع وُلِد من عذراء.

يروي إنجيل لوقا الخبر بكل بساطة. فقد أُرسل الملاك جبرائيل إلى مريم ليُبشِّرها بأنَّها ستلد ابناً ينبغي أن تسمّيه "يسوع ". ولسوف يُعرَف بأنه ابن الله العليّ. إذ ذاك تتحيّر مريم حيرةً نفهم سببها إذ تقول:" كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً ؟"(لوقا 34:1 ).

وليس بعجيبٍ أن يتناهى خبر هذه الولادة المعجزة إلى محّمد فيُشير إلى كلام مريم بالقول:"أنّى يكون لي غلام ولم يمسني بشر؟ "(سورة مريم 20،19 ).


إتمام نبوّة

ورد في الكتاب المقدّس أن البشير متّى يفسِّر هذه المعجزة بأنها إتماماً لنبوّةٍ نطق بها أشعياء منذ زمنٍ بعيد (راجع متى 1:22و 23). وقد دوِّنت هذه النبوّة في الفصل السابع من سفر أشعياء:

... يعطيكم السيد نفسُه آيةً. ها العذراء تحبل، وتلد ابناً اسمه " عمانوئيل " زُبْداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشرّ ويختار الخير، تخلى الأرض التي أنت خاشٍ من ملكيها (أشعياءء7:14 ـ 16 )

إنَّ لهذه النبوّة ـ شأنها شأن الكثير غيرها من النبوّات الموجودة في الكتاب المقدس ـ مَرمَيَيْن، أحدهما قريب والآخر بعيد. أما الإتمام القريب فقد تمَّ بُعَيْدَ النطق بالنبوّة. وأمّا البعيد، فبعد مئات السنين. وقد حصل الإتمام الأوّل في أيام أشعياء نحو السنة 730 ق م.


أُمٌّ وابنٌ

على أن أشعياء استخدم في نبوّته هذه كلمتين مميَّزتين، إحداهما تدلُّ على الأم والأخرى على الابن. والكلمة المستخدمة للدلالة على الأمّ تعني امرأة شابَّة عذراء. إذ لما كتب متّى إنجيله باليونانية استعمل في ترجمة هذه الكلمة اللفظة "بارثينوس" وتعني "عذراء" بلا لبس ولا غموض.

والآن، إلى الكلمة الثانية. فقد قال أشعياء إنّ ذلك الولد سيُدعى "عمانوئيل"، ومعنى هذا الاسم " الله معنا". وكانت الشعوب الساميَّة قد درجت على تسمية المواليد غالباً بأسماء تتضمّن تعليقاً على حادثةٍ ما مرتبطة بولادة أولئك المواليد. وأذكر أن طفلاً سُمّي "رَجعان" لأنه وُلِد لأبوين كبيرين في السنّ، وكأن هذا الطفل جنى متأخِّر (رجعي). فنسبةً إلى نبوّة أشعياء، سُمّي الطفل "عمّانوئيل" لأن المعنى الأوفى لهذه النبوّة لا يظهر إلَّا في الإتمام المتعلِّق بيسوع المسيح. فالمسيح كان فعلاً " الله... معنا ". إنه لم يكن مجرّد آية (علامة ) على أن الله في جانبنا، بل كان في نفسه الله... معنا.

لذا كانت البداية الفريدة لسيرة المسيح على هذه الأرض حدثاً هامّاً. وقد جرى التمهيد لها بنبوّة عنها جاءت قبلها بسبع مئة سنة. وهذا يُبّين دخول الله إلى العالم الذي خلقه، لا كإنسان متفوِّق من صنفٍ ما، ولا كملك، بل طفلاً حُبِل به بأُعجوبة وما هو إلّا "الله... معنا".

من الواضح أنَّ هذه النظرة إلى ولادة المسيح تختلف كلياًّ عن نظرة أولئك الذين يعتبرونه مجرَّد إنسان فربّما اعتبروه إنساناً صالحاً على نحوٍ مميَّز أو معلِّما ًشهيراً، ولكنهم مع ذلك يعتبرونه مجرّد إنسان يفسِّر العالم ويشرحه كما يراه. إلا أن الكتاب المقدّس، على نقيض هذا، يقدم لنا إنساناً فريداً، إنساناً لا يبدأ وجوده عند ولادته بل يدخل عالمنا هذا من العالم الآخر، أعني من الأبديَّة. وبالحقيقة، هذا هو ما يعنيه المسيحيون بالتجسُّد ذلك أنَّ الله صار إنساناً وجاء إلى العالم الذي يراه، بطريقة تشبه الطريقة البشرية المعهودة لكنَّها تختلف عنها بفرادةٍ عجيبة: حادثة فريدة كانت لها بداءة فريدة.

حداثته

وُلِد يسوع في عائلة فقيرة، ولا نعرف عن حداثته إلّا القليل. والأرجح أنَّه كان يذهب مع العائلة إلى أورشليم كلَّ سنة. فنحن نعلم أنه ذهب إلى هناك لما كان ابن اثنتي عشرة سنة، حيث أذهل معلّمي الشريعة بالأسئلة التي سألهم والأجوبة التي أجابهم (راجع لوقا 2: 46و47).

ومن المشوِّق أن نلاحظ الطريقة التي بها صحَّح المسيح بلطفٍ زلَّة لسانٍ من مريم خلال تلك الزيارة إلى العاصمة. فلمَّا بدأ المسافرون من الناصرة طريق العودة إلى بلدهم، كانوا قد تركوا يسوع في أورشليم. لذا كان على مريم ويوسف أن يعودا إلى المدينة ليجداه. ولما وجداه بعد عناء، أبدت مريم انزعاجها إذ قالت:

"يا بُنيّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هو ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذَّبين

"فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟" (لوقا2: 48و49).

"أبوك وأنا..."

"... في ما لأبي".


نشأته

يُرجّح أن يسوع قضى ساعات طويلة وهو يراقب يوسف إذ يعمل صانعاً الكراسي والأَسِرَّة، وقبضات الفؤوس، والأنيارَ التي توضع على أعناق الثيران عند الحراسة. ولعلّ هذه هي الخليفَّة وراء دعوته اللطيفة التي أطلقها بعد عدة سنين:

تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم. احملوا نيري عليكم، وتعلَّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم: لأن نيري هيّن وحملي خفيف (متى 11: 28 ـ 30).


خدمته

لما بلغ يسوع الثلاثين تقريباً، اختار له جماعة صغيرة من اثني عشر تابعاً، وانطلق في خدمة دامت نحو ثلاث سنين تميّزت بالتجوال شبه الدائم في أنحاء مملكة هيرودس البالغة نحو ثمانية آلاف كلم2، حيث كان يُعلِّم ويشفي في أثناء تجواله.

المسيح كارزاً

لم يكن معلِّم الدين اليهودي، أي "الرابّي " مجرَّد خطيب. بل كان يتوقع من تلاميذه أن يتشرّبوا نمط حياته بالكامل وأن يحفظوا تعاليمه غيباً. ويبدو أن المسيح حذا حذو معلِّمي الدين اليهود. فكان لزاماً على أتباعه ألاثني عشر أن يتركوا أعمالهم، من صَيدٍ وجباية ونحوهما، كي يتفرّغوا لإتباع معلِّمهم.

إلّا أن المسيح كان مختلفاً عن غيره من الرابيين. ذلك أنه كان ـ وقد علم تلاميذه أنه كان ـ معلِّماً وسيِّداً، في آن: " أنتم تدعونني معلماً وسيِّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك" (يوحنا 13:13 ). وليس أتباعه وحدهم مَن علموا أنه كان مختلفاً عن غيره من الرابيين، بل إنَّ عامَّة الشعب أدركوا ذلك أيضاً. فالرابيون ما ادَّعوا لأنفسهم أيَّ سلطان، بل كانوا دائماً يستشهدون بأقوال الرابيين السالفين كمرجعٍ ذي سلطانٍ يعتمدونه في آرائهم وأحكامهم. أمّا يسوع، فلم يكن من هذا النوع:

فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بهت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة (متى 7: 28و 29).

وقد كان "ملكوت الله" واحداً من الموضوعات العظيمة التي دار عليها تعليم المسيح. ففي مستهلِّ إنجيل مرقس، نقرأ أنه "... جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس 1:14 و15).

هذا الموضوع الرائع يذكرنا أن زمام العالم ليس مُفلتاً، إذ إنَّ الله يسيطر عليه. غير أن مُلك الله هذا لا يعني أننا محرومون الحرية. فنحن لسنا أشبه بآلات الساعة يعبّئها الله ويحتم عليها أن تظلّ تدور إلى أن تفرغ. بل إننا بالأحرى أحرار، ومع ذلك ـ شئنا أم أبينا ـ نعيش في عالم يسيطر عليه الله باعتباره الملك.

إنّ وضْعَنا يُشبه بالأحرى حالة من يعيش في بلدٍ تعرف حكومته كل شيء عن مخالفة للقانون. حتى إنَّ أحداً ما لا يستطيع أن يُجاوز حدَّ السرعة المسموح بها دون أن تعلم السلطات بأمره. وحكومة هذا البلد فعّالة بحيث إن كلّ مخالفٍ للقانون لا بُدَّ أن يلقى عليه القبض ويّلقى عقابه. ففي بلدٍ كهذا يكون الناس أحراراً، أحراراً حتى في خرق القانون، ولكنْ لا بدَّ أن يعلموا أنَّهم إن اختاروا سبيل الجريمة فعليهم أن يتحمّلوا العواقب.

طبعاً، إن التشبيه ليس كاملاً كليّاً، غير أنه يصف بالفعل عالماً مختلفاً جدّاً عن عالم الهندوسية مثلاً، لا أكون حرّاً في أفعالي. ففي الهندوسية تكون أحوالي وأفعالي اليوم نتيجةً لما يسمّونه " كرما" أي ما اشتمل عليه ماضيَّ من حاصل تسوية الميزان"؛ إذ إنَّ ما يحدِّد حياتي اليوم حتماً يعود إلى ما كان لي وما كان عليَّ لا في ماضي حياتي الحاليّة فقط بل في جميع حياتي الماضيات أيضاً.

ثمَّ إن صورة العالم التي ترسمها المسيحية تختلف عمّا هي عليه بحسب الإسلام، حيث يُعتبَر حُكم الله مطلقاً. ونحن نعلم أن العبارة "إن شاء الله "تتردَّد كثيراً في جميع البلدان العربيَّة. حتى إنّ "الأشعريَّة"، وهي المذهب اللاهوتي الأشهر والأكبر، تنكر كليّاً الحريَّة البشرية وتقول بالجَبْريَّة الشاملة (أي تسيير القضاء والقدر للبشر في كل شيء ).


تصوير ملكوت الله

عندما تحدث المسيح عن ملكوت الله، كان قصده أن يدعو الناس إلى الاعتراف بحكم الله وإلى إخضاع أنفسهم له، لا بسبب الامتيازات التي ستكون لهم، بل إقراراً منهم بأنه هو الله. كان اليهود قد أساءوا فهم رسالة الله إليهم، إذ رأوا فيها إعطاءهم امتيازات خاصَّة، وكأن الله كان معنيّاً بهم وحدهم دون غيرهم، كما لو كان حكم الله لهم وحدهم. حتى إن الكبرياء القوميَّة أدّت بهم في نهاية المطاف إلى كارثة قوميَّة. فلما كان المسيح هناك يتحّدث إليهم عن ملكوت الله، لم يكن اليهود أحراراً، بل كانوا جزءاً من الإمبراطورية الرومانية. وكما تكون الحال دائماً في مثل هذه الأوضاع، كانت لديهم آمال بالتحرُّر يمنّون النفس بها. أيلجأون إلى العصيان أم إلى الثورة، غير أن المسيح ذكّرهم بما كانوا قد نسوه من عهدٍ بعيد في غمرة انشغالهم بالسياسة. لقد ذكرَّهم بالله، وبملكوت الله

في الفصل الثالث عشر من إنجيل متى سبعة أمثال تدور على ملكوت الله. والمثل حكاية يمكن فهمها، تمَّ استخدامُها لتفسير حقيقة ليس من السهل فهمها. فتلك الأمثال السبعة توضح ما أراد المسيح قوله عن ملكوت الله.

• تكلم المسيح عن رجلٍ يبذر البذار. وواضحٌ أن النتائج تعلّقت بنوعيَّة التربة التي وقع فيها البذار، فكانت أرضاً ليّنة وغنيَّة ومحضّرة جّيداً، أو أرضاً مليئة بالأعشاب الضارّة والأشواك، أو أرضاً داستها أقدام الدائسين أو أرضاً صخرية. هاهنا أوَّل شيء يودّ المسيح أن يقوله عنّي وعن ملكوت الله. فإنْ كان قلبي قاسيّاً ومُرّاً ومليئاً بالكبرياء والاكتفاء الذاتي، فحتى لو وقع البذار الجيِّد عليَّ ـ حتّى لو سمعت عن ملكوت الله ـ فإنّي لا أُريده إذ ذاك.

• وتكلَّم عن الإنسان الذي زرع زرعاً جيِّداً ثَّم جاء عدو وزرع زواناً في الحقل عينه. ولما طلع الزرع الجيَّد وبدأ ينمو، لم يكن ثمة طريقة يستطيع الفعَلة بها أن يقتلعوا الزوان دون إتلاف الزرع. هاهنا ردٌّ على الذين يرفضون الدخول إلى الملكوت بسبب خليط الناس الذين يرونهم يدّعون أنهم جزءٌ منه. فلربّما زعم الزوان أنه جزءٌ من المحصول الرئيس فقط لأنَّه شارك الحنطة في الحقل الواحد. وإنَّه لأمرٌ صحيح أننا نجد بين المعترفين بأنهم أولاد الله مَن هم غشّاشون أو كذّابون أو انتهازيّون، مثلهم مثل الزوان المزروع بين الزرع الجيِّد. وكم من كنيسة ناشطة أفسدها وجود مُرائين، ومؤمنين شرفاء أخزانهم وجود أُناسٍ فاسدين بينهم. فهوذا المسيح يُنذرنا أنَّ الحال الآن ستكون على هذا المنوال. أما طبيعة الملكوت الحقيقية فلن تُعرَف قبل أوان الحصاد، أي عند يوم الدينونة الذي فيه يُفصّل الزوان من بين الحنطة الجيّدة، يومّ يُفصّل المراءون من بين المؤمنين الأمناء.

• وتكلم عن كنزٍ مخفي في حقل، وعن تاجر يبحث عن لآلئ حسنة. كان التاجر مستعدّاً لأن يدفع أيَّ ثمن ليشتري لؤلؤة جميلة جدّاً، وما كان أيُّ ثمنٍ غالٍ ليحول دون ذلك. صحيحٌ بالطبع أننا لا نستطيع أن نشتري ملكوت الله، غير أنَّ الدخول له ثمنٌ لا بُدَّ أن يُدفع. فالناس لا يفهمونك، وينعتونك بأنك متطرِّف أو رجعيٌّ دينياً، ويستغربون استرسالك في الحديث عن الله. بل إنَّ إصرارنا على الاستقامة قد يسبّب الإزعاج لبعض الذين حولنا. ذلك أن وجود الشرف والاستقامة في مجتمعٍ يندران فيه، من شأنه أن يكون مصدر إزعاج دائم للجميع، وهكذا نخسر صديقاً تلو آخر. وفي بعض البلدان قد يكون الأمر أخطر جدّاً، حيث قد يعني دخولُ ملكوت الله فَقْدَ الوظيفة وحرمان الحريّة، والسجن بلِ الموتَ أيضاً. ففي هذين المثلين، أي مثل الكنز المخفي في حقل ومثل التاجر الطالب لآلئ حسنة، يلمَّح المسيح إلى هذه الحقيقة: ربما كان عليك أن تدفع ثمناً غالياً لقاء دخولك ملكوت الله... ولكنّ الأمر يستحقُّ ما يُبذَل في سبيله من عناء.

* وضرب المسيح مثلاً عن صيادين وما صادوه من سمك. لا شكَّ أنَّ سامعيه غالباً ما كانوا يرون صيّادي الجليل طالعين إلى الشطّ وهم يجرُّون شباكهم الملأ سمكاً من كل صنف، ومن ثَّم يجلسون على الشاطئ ويفضلون رديء السمك عن جيِّده. وقال المسيح إنّ الحال عند رجوعه لاستلام مُلكه ستكون على هذه الشاكلة، إذ يكون ذاك أوان الفَصْل، حيث يُضَمُّ الجيِّد ويُطرح الرديء. عند ذاك يظهر الحقّ جليّاً. ولا شك أن هذا المثل ينطوي على تحذير: إنَّ هنالك ملكوتاً ينبغي دخولُه، ونعيماً ينبغي اكتسابه، وجحيماً ينبغي اجتنابُه.

* يتبقّى لنا من أمثال متّى السبعة اثنان: مثل حبَّة الخردل، ومثل الخميرة. فإنَّ بزرة الخردل الدقيقة تنمو لتصير شجرة كبيرة تأوي إليها الطيور وتبيت فيها. والخميرة تفعل فعلها في العجين فتخمّره كلّه. هكذا كانت لملكوت الله بداءات صغيرة (ربمّا كان المسيح يفكِّر ساعتئذٍ بمجموعة أتباعه تلك الصغيرة وغير المؤثِّرة ). ولكن لننتظر حتى نرى إلى ما سيؤول إليه الأمرُ كلُّه. فعندما يعود الملك، عندئذٍ يُعرَف امتداد ملكوته. إنّ أهل الملكوت قليلون نسبيّاً وعديمو الأهميَّة ظاهريّاً، غير أنَّهم مبعوثون إلى العالم أجمع كشهودٍ للمسيح، وقوّة الله عاملة فيهم وحولهم... والعالم يتغيّر بواسطتهم.

يساعدنا تشديد المسيح على ملكوت الله في تفسير الأجوبة عن الأسئلة الأساسيّة المشار إليها في الفصل الأوّل: من أين جئتّ أنت؟ من أين جاء هذا العالم؟ إنَّ الله هو صانعنا جميعاً. ونحن لله، والعالم له. إلى أين نحن جميعاً ذاهبون؟ إن الأمور ليست خارجة عن السيطرة، ولا هي تتّجه إلى التصادم والتحطُّم بل إنهَّا سائرة إلى الوقت الذي فيه سيُظهِر الملك نفسه ملكاً ويجمع رعاياه إلى ملكوته. وماذا يجري للباقين؟ إنَّهم سيُرفضون ويُطرحون خارجاً، أشبه بزوان الحقل وبالسمك الرديء العالق في شبكة الصيّادين.


معجزات المسيح

تروي الأناجيل كيف شفى المسيح مرضى، وأقام موتى، وحوَّل الماء خمراً في عُرس، ومشى على وجه بحر الجليل، وأمر عاصفة بأن تهدأ، وأطعم آلاف الناس ببضعة أرغفة وقليلٍ من السمك. هذه الأحداث تُروى بكل بساطة ودون فذلكة، حيث تُجرى المعجزات تلبيةً لحاجةٍ ما، ولم تُجرَ أُعجوبة واحدة للبرهنة على أن المسيح يستطيع إجراء المعجزات. فيبدو أن الافتراض المتضمَّن في كل معجزة هو التالي: "هذا هو يسوع المسيح، وهو بالطبع من قام بهذه الأعمال المدهشة. إنَّه مختلف عن غيره. إنَّه حقّاً الله... معنا. "

ولنا أن نحدّد ثلاث خصائص تتّسم بها المعجزات، وهي أنّها:

• مذهلة،

• ذات معنى ومغزى،

• آياتٌ بيِّنات على القدرة والسلطان.

• المعجزات مذهلة لأنّها فريدة إذ ليس في الحياة الاعتيادية ما يوازيها. وعليه، فلمّا شفى يسوع رجلاً من الفالج ( الشلل )، وذلك بعبارة واحدة قالها: "... قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك"، جاءت ردّة فعل الجمهور الذي رأى ذلك على نحوٍ متوقّع:

فأخذت الجميع حيرة، ومجدوا الله، وامتلئوا خوفاً قائلين: إننّا ق رأينا اليوم عجائب (لوقا 26:5 ).

• وقد كانت المعجزات ذات معنى ومغزى. لم تكن ألاعيبَ خفّة وحِيَلاً بارعة ففي معجزة شفاء المفلوج، انتهز المسيح الفرصة للتكلُّم عن الخطيَّة وكيف يُمكن أن تُغفَر. وقد قدَّم برهاناً واضحاً على قدرته، وأشار إلى سلطانه في الشفاء كدليل على سلطانه الفريد في القضايا الأخلاقية.

لنلاحظ أن المعجزات لم تبرهن أن يسوع كان هو الله معنا. فكثيرون غيره في كلا العهدين القديم والجديد أجرَوا معجزات، بل أقام بعضهم موتى (إيليا في 1 ملوك 17:17 ـ 23؛ أليشع في 2 ملوك 8:4 ـ37؛ بولس في أعمال 7:20 ـ 12 ). إلَّا أن المعجزات كانت ذات معنى ومغزى، على ما نرى من تعليق يوحنا بعد تحويل الماء خمراً في عرس قانا:

هذه بداية الآيات و فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده، فآمن به تلاميذه ( يوحنا 11:2)

• كانت المعجزات آياتٍ بيِّنات على قدرة المسيح وسلطانه. هذه الناحية مهمَّة خصوصاً في معجزات طرد الأرواح الشريرة التي أجراها المسيح، وهي ذات صلة بالموضوع الذي نظرنا فيه منذ قليل، أعني ملكوت الله. فقد أوضح المسيح أن هنالك قوّة أُخرى مناهضة للملكوت هي قوّة الشّر. ولا بدّ للإنسان أن يكون إمّا في ملكوت الله وإمّا في قبضة الشرّ. وما الأرواح الشريرة إلّا مظهر من مظاهر قوّة الشّر. فليست من نسج الخيال الجامح ولا هي توهُّمات يستطيع المثقَّف أن يرفضها بسهولة كما يرفض حكاية شيخ الميلاد (بابا نويل ). وإنمّا كانت الأرواح الشريرة حقيقة واقعة آنذاك، وما تزال كذلك اليوم. وقد حدثت مُعجزات طُردت فيها هذه القوّات الشريرة من قبل قوّةٍ أقوى منها. ففي الفصل الرابع من إنجيل لوقا، مثلاً، نقرأ أن المسيح كان في المجمع بكفرناحوم. وكان في ذلك المجمع إنسان يسكنه روح شرّير، فأمر المسيح الروح الشرّير بالخروج من ذلك الإنسان، فامتثل طائعاً. وهُنا أيضاً نلاحظ ردّة فعل الجمهور ذات الدلالة:

فوقعت دهشة على الجميع، وكانوا يخاطبون بعضهم بعضاً قائلين: ما هذه الكلمة؟ لأنه بسلطان وقوّة يأمر الأرواح النجسة فتخرج (لوقا 36:4 ).

ربّما نفهم اليوم لماذا يستصعب بعضُهم أن يؤمنوا بحصول المعجزات، إذ يبدو أن الاعتراضات تصبُّ في ثلاث خانات:

• "لم أر معجزةً قطّ"

• "ليست المعجزات إلَّا حوادث عاديَّة مبالغاً فيها على نحوٍ كامل"

• "لا يمكن أن تحدث معجزات" (بتوكيد جازم )

فلنتقدم إلى النظر في كلٍّ من هذه الاعتراضات.

لم أرَ معجزةً قطّ، وبالتالي لا أومن بمثل هذه الحوادث. "هذه الحجَّة تكتسب مقداراً من القوّة إذا كان في مقدوري أن أقول إنَّ أحطاً من أصدقائي أيضاً لم يرَ معجزةً قطّ. على أنَّه من الأرجح أن نجد أنَّنا إذا أكثرنا عدد الشهود الذين نطلب شهادتهم قد نُضطر بالأحرى إلى تعديل إنكارنا الأصليّ. ذلك لأنَّه يُحتمَل أن نعثر في دائرةٍ واسعة من الأصدقاء بالأقلِّ على واحدٍ رأى أو اختبر ما يُشبه المعجزة، مِمَّا يدعوه هو هكذا. فعلى سبيل المثل،أنا شخصيّاً لم أشهد حصول معجزة، إلَّا أن اثنين من أصدقائي شهدا ذلك، وكلتا الحادثتين معجزة شفاء. كانت إحداهما اختفاء سرطان على نحوٍ فجائي، أمَّا الثانية فمرضٌ أربك الأطباء وأعياهم، وأقعد صديقي المُبتلى به عن العمل أسابيع إَّلا أنَّه تلاشى حالاً بعد صلاةٍ رفعها صديقٌ ذهب ليزوره. فلو لم أكن مسيحيّاً مؤمنً، أو لم أكن أومن بالمعجزات، لكان يمكنني أن أقول واثقاً: "إنّي لم أر معجزةً قطّ "، ولكنْ ربّما كان علىّ تعديلُ قولي إن أنا ضمَّنت أصدقائي، بحيث ينبغي أن أقول، مثلاً: أنا لم أرَ قطُّ معجزة حقيقية، وكذلك أيضاً أصدقائي جميعاً. " فباستعمالي الصفة " حقيقية "، أستثني "معجزات " الشفاء.

وفي الواقع أن حوادث شفاء يتعذّر تعليلُها وحوادثَ شفاء استجابةً للصلوات قد حدثت، في ما يبدو، بشيءٍ من الانتظام على مرّ التاريخ. من ذلك مثلاً أن اللاهوتي فيليب ميلانكثون رُدَّت إليه الحياة وهو على عتبة الموت استجابةً لصلوات مارتن لوثر. وقد كتب لوثر إلى زوجته في 2 تموز (يوليو ) 1540، يقول:

بالحقيقة، مات فيليب. إلّا أنه مثل لعازر، قد أُقيم من بين الأموات. إن الله، أبانا المُحِبّ، يسمع صلواتنا. أمرٌ نستطيع أن نفهمه، وإن كنّا غالباً ما لا نصدِّقه.

وفي القرن الثامن عشر،حصلت مع جان وسلي حادثة شفاء أقرب إلى الغرابة. فإذ كان متّجهاً ليعظ في مكان دُعي إليه، أخذ حصانه يعرج. وقد دوَّن وسلي في مذكراته أنَّه ترجّل عن الحصان، ووضع يديه عليه، وصلّى لأجل شفائه، فإذا العرَج يتلاشى.

فهذه الحجَّة " لم أر معجزة قطّ، ولذا فالمعجزات لا تحدث " هي إذاً حجَّة ضعيفة لأنَّ في الوجود أشياء كثيرة لم يرها المرء، لكنَّها قويَّة لأنها لا تتضمَّن احتمالات (إذا ) أو استدراكات (ولكن ). إلَّا أنها تكون أقوى إذا كان في وسعي أن أقول إنّ أحداً من أصدقائي أيضاً لم يَرَ معجزةً قطّ. ولكن سؤالي لأصدقائي يوصلني سريعاً إلى شخص ما قد عاين معجزةً ما بكل تأكيد، ولا غرابة أن نتوقع أمراً كهذا. ذلك أن المعجزات أحداثٌ غير عاديَّة. ولذا، فمن المنتظر أن تفتِّش حواليك قليلاً حتى تجد واحدة. إنَّما يبدو أنها هناك فعلاً... إذا كنت تُنعِم النظر.

* "ليست المعجزات إلا حوادث عادية مبالغاً فيها".

هذه الحجّة الثانية تعني أن المسيح لم يُطعِم حقّاً خمسة آلاف نفس بخمسة أرغفة وسمكتين. فما حدث فعلاً هو أن الغلام المذكور في الخَبر أخرج زاده وقدّمه للمسيح ليرى هل ينفع في حلِّ المشكلة القائمة في إطعام ذلك الجمع الغفير. ثَّم لمّا رآه الآخرون يفعل ذلك خجلوا وحذوا حذوه، فأخرج كلُّ واحدٍ منهم زاده وقد كانوا مخبِّئين الزاد خشية أن يُطلب إليهم إشراك الآخرين في تناوله وألا يكون لديهم ما يكفي للتوزيع. وعليه، فالمسيح أيضاً لم يمشِ حقاً على وجه الماء. فما حدث فعلاً هو أنه كان يمشي على طولَ الشاطئ. ولكن في وسط العاصفة وبين الرذاذ المتطاير، ووسطَ صفير الرياح، ظنّ الذين في السفينة أنَّه كان ماشياً على الماء.

أعتقد أن صواب التفكير يقضي بالإشارة إلى أنَّ البيَّنة الوحيدة التي عندنا على هاتين الحادثتين (إشباع الخمسة الآلاف وسير المسيح على الماء) هي بيِّنة الكتاب المقدّس. فما من غموضٍ يعتري أيَّ هذين الخبرين، إذ يوصف المسيح وهو يُطعم خمسة آلاف نفس بخمسة أرغفة وسمكتين، كما يوصف وهو ماشٍ من الشاطئ على الماء لينضمّ إلى تلاميذه في القارب الصغير الذي كان وسط البحيرة (راجع مرقس 45:6ـ 53). فالآن، بينما يستطيع كل مَن يقرأ هاتين الحادثتين أن يقول أنَّه لا يصدقهما، ينبغي لنا إذا رفضناهما أن نحذَر خطرا محقّقاً.

ما لا يجوز لنا أن نفعله هو أن نلفّق شيئاً نضعه محلَّ الأشياء التي نرفضها. قِسْ على هذا ما يفعله أولئك الشكّاكون الذين يجدون أنهم لا يستطيعون أن يصدِّقوا ما جاء في الكتاب المقدّس عن محاكمة المسيح وموته وقيامته. فإنَّهم يتولَّون إخبارنا بدلاً من ذلك "بما حدث فعلاً": أنَّ قيافا كان بالحقيقة يحاول إنقاذ المسيح، وأن كل ما جرى كان بالحقيقة جزءاً من خطَّة أعدّها حزب الغيارى، وأنَّ يوسف الرامي بالحقيقة أنزل المسيح عن الصليب حيّاً ... الخ. وليس في مثل هذه التصوَّرات أيُّ ضرر ما دامت تؤخذ على حقيقتها، أعني كونها مجرد تخيُّلات وأوهام. إلا أنَّ أي إنسان يأخذ هذه التصوُّرات على محمل الجدّ يكون أكثر سذاجةً من أبسط شخصٍ يثق بنصّ الكتاب المقدّس ثقةً كليَّة (كايرد G. B. Caird في "لغة الكتاب المقدّس والتصوير البياني فيه").

لك أن تصدِّق ما يرويه الكتاب المقدّس، ولك ألَّا تصدَّقه. ولكنَّ الإخلاص الصريح يقضي بعدم الزعم أنَّ ما يقوله الكتاب هو غير ما يفهمه الجميع بكل بساطة.

"لا يمكن أن تحدث معجزات". إنَّ التوكيد الجازم في هذه الحجَّة الثالثة يفيد أن الناس لا يقدرون أن يسيروا على الماء، ولذلك فهم لا يسيرون على الماء. فالسير على الماء مناقض لقوانين الفيزياء. ونحن نعرف جيِّداً مثل هذه القوانين، والاختبار يُثبت القوانين. إلَّا أن المسيحي المؤمن قد يرد على مثل هذه الحجة بالقول: إنّما القوانين مجّرد استنتاجٍ من الملاحظة. فإن لاحظت شخصاً ما يسير على الماء، يجب أن تتضمّن صياغتي للقانون هذه الملاحظة بطريقة من الطرائق. أو قد يُجيب المسيحي المؤمن قائلاً: أجل، هنالك قوانين تتحكّم بشؤون الطبيعة، وهي ليست قوانين عَرَضيَّة. فإنَّ الله ضمَّن هذه القوانين في الطبيعة عندما خلق العالم. وليس بالتأكيد ما يُدهش إذا كان الله يتسامى عن هذه القوانين من حين إلى حين. كما أننا قد نلاحظ أيضاً أن الكون ليس هو ذلك الشيء الملتزم للقوانين على النحو الذي قد يتصوّره بعضنا. فعلماء الفيزياء يعرفون أننا عندما نبدأ في سبر أغوار المقوِّمات الأساسية للكون تنحلّ، على ما يبدو، جميع القوانين المنطقية والحسنة والمرتّبة وتتحول إلى أسئلة عن الاحتمال، أي عمّا قد يحدث ويُحتمَل أنه سيحدث، وليس عمّا يجب أن يحدث.


آراء متحوِّلة في الكون

جدير بنا فعلاً أن نتوقّف قليلاً كي نلفت النظر إلى سلسلة مهمَّة من التغييرات التي طرأت على تفكيرنا في ما يتعلّق بكوننا هذا. فقبل القرن السابع عشر كان العالم أشبه شيء بحالة فوضى عارمة

... قد تتداخل فيه عند أية لحظة معجزات إلهية، ملائكة الله ـ وحتى السَّحرَة والشياطين...

عالمٌ حلَّ محلَّه عالمُ قوانين

... فيه تعاقُبٌ منتظِم للسبب والنتيجة. حتّى إذا شارف القرن الثامن عشر نهايته كانت الصورة هذه قد أصبحت عالميَّة... فإذا قوانين العلوم كشريعة مادي وفارس التي لا تتغيَّر، وإذا بنا أمام نظامٍ صلب مطلق يتحكَّم بما يتعلّق بكيان الإنسان الكلّي، على الصعيد المادّي والعقلي والخُلقي. في عالم كهذا لم يكن مكان للحريَّة ولا للمسؤولية ولا لمعايير الخير والشر... (الأستاذ رايفن G.E. Raven في خطاب ألقاه عام 1953 على جماعة من العلماء).

إلَّا أن هذه السلسلة شهدت مرحلةً ثالثة. فعوضاً عن القواعد المطلقة تُصاغ في ما يتعلّق بالأشياء، وهي قواعد تجاهلت حتّى أولئك الذين قدّروا الأشياء وقاسوها، كشف لنا آينشتاين عن عالم يتميّز بالنسبيَّة. أن يُفسَّر كل شيء ويُفهم من وجهة نظر المراقِب أو المُلاحظ. ولم تعُد الأطوال والأوزان والسرعات هي تلك الأمور المطلقة التي كُنّا نعدُّها هكذا، بل كانت نسبيَّةً بالنسبة إلينا.

والجدير ذكرُه هنا أن يكون علم اللغات قد سار على غير هُدى خاف العلم في فترته الآليَّة، محاولاً التخلّي عن الإنسان. هذا الإنسان الذي هو صاحب اللغة منذ نشأتها. فإن نوام شومسكي (Noam Chomsky)، خبير في علم اللغات في العصر الحديث، قد حكم بالتخلّي عن المعاني أو علم دلالات الألفاظ من ساحة الدراسات اللغوية، لكون هذا الفرع ليس جزءاً من هذه الدراسات. هذه المرحلة أيضاً عبرت وولَّت. فها هو الإنسان قد أعيد إلى مركزه من جديد باعتباره عنصراً أساسياً في عالم الدراسات العلميَّة.

وقد جاء بعد آينشتاين في مجال العلوم آخرون، منهم هاينسبرغ (Heisenberg) الذي طلع بمبدأ عُرف باللا حتميَّة. ومؤدّى هذا المبدأ أنَّ انعدام اليقين داخلٌ في صُلب كلِّ مراقبة للعمليّات الأساسية، وذلك لأننا بالتحديد لا نستطيع أن نعرف شيئاً عن أيَّة حادثة دون مراقبتها، ولأن مراقبتنا لا تتدخَّل حالاً في تلك الحادثة. وها نحن نقتبس مرَّة أُخرى مِمَّا قاله رايفِن:

إن الاعتراف بمبدأ عنصر التغيّر في نظام الطبيعة، من شأنه أن يبدِّل المفهوم القديم- الذي يأخذ بالتسلسل الحتمي للأمور- ويجعله خاضعاً لعملية التغيّر والإبداع اللذان يحدثان فعلاً.

وعليه يستطيع المسيحي المؤمن أن يُجيب من يُنكر المعجزات قائلاً: عليك بإبداء قليلٍ من التواضع بعد. أنت تشير إلى قوانين الفيزياء. حسناً، إنّ الله قد وضع في صلب الطبيعة. وتتحدّث عمّا يمكن أن يحدث وعمّا لا يمكن. فهل نعرف حقّاً ما هو ممكن وما هو غير ممكن؟ أو نحن في وضعٍ يمكنّنا من أن نقول لله ماذا يجوز له أن يفعل وماذا لا يجوز؟ وتقول أنك لم تَرَ قطّ معجزةً تحدث. فهنالك أُمور كثيرة لم ترَها، وربَّما لن يكون لك حتّى مجرّدُ الرجاء برؤيتها دون إيمان، ودون خضوعٍ للهِ الذي وحدَه يُضفي المعنى على العالم الذي يراه. ثقْ إذاً في يسوع المسيح الذي يُعلن لنا الله والذي برهن مرّةً على قدرة الله إذ عاش بيننا.

إن سيرة يسوع تبدأ بمعجزةٍ هي ولادته من العذراء، وتبلغ ذروتها في معجزة هي قيامته، والمعجزات بين هذه وتلك هي لافتاتٌ تجابه كل عاقل قائلةً: "قف. انظر. فكِّر. من هو هذا الإنسان؟"

للاستعانة على الإجابة عن هذا السؤال، نتوجّه الآن إلى النظر في القضيّة الأساسية في المسيحية، وهي ليست حياة المسيح ولا معجزاته، بل موته.  

  • عدد الزيارات: 18144