Skip to main content

وشعَّ الضياءُ المنير يعكسُ أنوارَ المذودِ الحقير

وشعَّ الضياءُ المنير يعكسُ أنوارَ المذودِ الحقيرالمكان مكتظٌّ بالناس، والكلُّ قد أتى من كلِّ حدبٍ وصوب يبغي الاكتتاب، وإدراجَ اسمه وأسماء عائلته في ملفٍ خاص به عند الحكومة. وهكذا غصَّت بيتُ لحم المدينةُ الصغيرة بالزائرين من رعاة ومزارعين وعاملين.

وشعرتُ وكأنَّ الدنيا تدور من حولي لكثرة ما خدمتُ وتعبتُ في الليالي الأخيرة. ولمَّا حاولتُ أخذَ قسطٍ من الراحة لبعض الوقت إذا بي أسمع صوت صاحب الخان الجهوري يرنُّ في أذنيَّ من جديد، فقمتُ على عجلٍ وذهبتُ إليه. نظرَ إليَّ ووجَّه أوامرَهُ كالمعتاد طالباً مني أن أقودَ رجلاً وامرأته إلى حظيرة الخراف والبقر لكي يقضيا ليلتهما هناك. استغربتُ جداً من طلبِه هذا إذ لم يسبقْ لنا أن وجَّهنا نزلاءنا إلى هذا المكان من قبل. فالحظيرة كهفٌ صغير مظلم، وبارد، وقذر ولا مكانَ فيها للبشر. سألت صاحب الخان فيما إذا كان حقًا يريدني أن أقود هذين الزوجين إلى هناك، فردَّ عليَّ بنبرةٍ أقوى من قبل قائلاً:

"هيَّا أسرعي فالمرأة تعبة ومرهَقة من كثرة السفر، ولا مجالَ للمناقشة الآن. فالخانُ مليءٌ بالناس ولا مكانَ لدينا سوى الحظيرة." وبينما أنا أقودهم إلى الحظيرة سألتهما عن المدينة التي أتيا منها، فقال لي الرجل: "أتينا من مكان بعيد من الناصرة وزوجتي مريم هي في حالة الوضع. أرجوكِ ساعديني في جلب الحاجات لأنها تعبة للغاية." أدخلتُهما الحظيرةَ للحال وأفرغتُ حمولة الحمار معه، وما هي إلاَّ دقائق حتى كانت مريم متمددةً على بساطٍ على الأرض وراحت تغطُّ في نومٍ عميق. تركتُ الحظيرة وذهبتُ أنا أيضاً لكي أرتاحَ من عناءِ النهار وتعب النُّزلاء. ولم أفقْ إلاَّ على صوت صاحبة الخان تناديني في منتصف الليل لكي ألحقَ بها وبسرعة. فوضعتُ الشالَ على رأسي وركضتُ وراءها غيرَ عالمةٍ إلى أين. وإذا هي تذهبُ متوجهةً نحو الحظيرة. ولمَّا دخلنا وجدنا مريم متألمة جداً من شدةِ المخاض ويوسف إلى جانبها يحاولُ تهدئتَها بكلامه اللطيف. عندها خرجَ يوسف إلى خارج الحظيرة وبقيتُ أنا وسيدتي هناك نساعد مريم ريثما تضعُ طفلَها البكر. عدتُ وأحضرْتُ معي بعضَ الثيابِ الرثةِ القديمة وشالاتِ صوف مهترئة ووضعتُها في أحدِ المذاود عساها تكونُ مكاناً مريحاً للطفل الصغير. ولم تمضِ ساعاتٌ قليلة حتى سمعتُ صرخةَ الطفل. فرحنا لولادة هذا الصبي فرحاً كبيراً، ودفعناه إلى أمه التي قبَّلتْهُ للحال ولفَّته بقمَّاط ووضعتْه في المذود إلى جانبها. وسمعتُ خوارَ البقر وثُغاءَ الخراف من حول المذود، وكأني بها هي الأخرى فرحةٌ بمولد الطفل الجديد. وأحسستُ عندها بدفءٍ غريب يسري في حنايا الحظيرة. ورأيتُ نوراً وضياءً غريبَين يشعَّان منه لم أرَهُما قطُّ في حياتي. وتساءلت في نفسي: مَن تُراه يكونُ هذا المولود الصغير؟! إنَّ هناك شيئاً غريباً يشدُّني إليه وإلى هذه العائلةِ الصغيرة. تركتُ الغرفة مع معلمتي وذهبتُ إلى مكاني محاولةً أن أنام من جديد. لكنَّ الفرحَ الذي غمرني خطفَ النوم من أجفاني وبقيتُ أتقلَّب في فراشي حتى ساعات الصباح. وقمتُ عندها على صوت معلِّمي يناديني من جديد.

لكنَّ الأيام التي تلتْ حدَثَ الليلةِ الفائتة بولادة الطفل في المذود الحقير كانت أشدَّ ذهولاً بالنسبة لي. لأننَّي رأيتُ فيها أشياءَ لا تُصدَّق، وسمعتُ غرائبَ وكأنَّها عجائب. إذ بينما أنا غارقةٌ في أفكاري يوماً، إذا بي أرى جماعةً من الرعيان يحملون بين أيديهم صرراً ملفوفةً يتّجهون بها نحو الحظيرة والفرح يغمرهم. قلتُ في نفسي: ربما هم أقرباء هذه العائلة قد سمعوا بالخبر المفرح فأتوا لكي يقدموا لهم الهدايا. لكن حدْسي هذا لم يكنْ صحيحاً، لأنَّ هؤلاء الرعاة لم يكونوا من الناصرة بل من كورةٍ قريبةٍ من بلدتنا وقد أتوا متلهِّفين لرؤية الطفل المولود. فَرُحتُ أنا أسترقُّ السمعَ لِما كانوا يقولونه ليوسف ومريم بعد أن دخلوا الحظيرة. قالوا بأنَّ ملاكاً ظهر لهم بينما كانوا يسهرون على قطيعهم في الليل. فارتعبوا منه لكنَّه قال لهم: لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مقمطًا مضجعاً في مذود... ولدهشتي من الخبر شهقتُ وكادَ أمري أن يُفتضَح. وقلت في سرِّي ملاكٌ ظهر لهم يخبرهم عن ولادة الطفل الذي ساعدْتُ أنا في أمر ولادته؟! يا للغرابة؟ ملاك من السماء يخبرُ سكان الأرض بولادة طفل قال عنه إنه المسيح الرب. مسيح الرب ترى مَن يكون؟ وماذا تعني هذه العبارة؟ ثم ماذا عن العلامة "طفلاً مقمطاً مضجعًا في مذود"؟ آه.. إنَّ كياني كلَّه يرتعد وتسري في جسمي قشعريرة إزاء هذا الخبر. حبَّذا لو أعرف. وهنا عدتُ مرةً أخرى إلى تنصُّتي فسمعت هذه المرة أشياءَ أكثرَ عجباً إذ كانوا يقولون بأنَّ جوقةً من الملائكة ظهرتْ أيضاً لهم وراحتْ تنشد وتقول للرعيان: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة.

تسمَّرتُ في مكاني حالما سمعت أنَّ الملائكة أيضاً هتفت تمجد الله في الأعالي وتخبر بحلول السلام على الأرض والمسرة بين الناس.  وقلت في نفسي: ماذا تعني كلُّ هذه الكلمات يا ترى؟ وهل هذا الطفل مسيح الرب والمخلص قد أتى من السماء؟ وهل فعلاً سيحلُّ السلامُ على الأرض وسننتهي من حكمِ الرومان؟ وستسودُ المسرَّة بين الناس؟ وبينما أنا أسرح في أفكاري هذه إذا بالرعيان يخرجون من الحظيرة فرحين مبتهجين بعد أن تحقَّقوا أنَّ بشارة الملاك لهم كانت حقيقةً واقعة وليست حُلماً أو من ضربِ الخيال. ودَّعهم عندئذٍ يوسف وذهبوا من حيثُ أتوا.

وفي تلك الليلة تمددتُ أنا على فراشي أفكر في من يكونُ هذا الطفل العجيب... المخلص ومسيح الرب؟!

مَن يكون هذا الذي أحسستُ بالدفء في كل جوانب الحظيرة حين وُلدَ؟

من يكون هذا الذي رأيت النور يسطعُ من محياه وهو في المذود؟

من هذا الذي أخبر عن ولادته ملاكٌ من السماء؟

هل سبق لأحد من البشر أن أذاعت السماء خبر ولادته؟

وهل سبقَ لأحدٍ من الأطفال أن وُضع في مذود للبقر حقير عند ولادته؟

ما هذه العلاماتُ العجيبة؟

أليست هذه كلها إشارةً ودليلاً واضحاً على عظمة هذا الطفل؟

أليست هذه كلُّها دليلاً على تميُّزه الفريد؟

نعم، أنا خادمة متواضعة لكنَّ حدْسي ينبئني أنَّ هذا الطفلَ مولودَ بيتَ لحم هو صورةُ الله غير المنظور لنا نحن البشر. فما أعظمَك أيها الإلهُ وما أعجبَ خطتَكَ هذه لنا نحنُ البشر الضالين. حقاً لقد أضاءَ نورُ الطفل هذا، مسيح الرب، قلبي وبدَّد منه الظلام. كما أضاءَ مجيئهُ روابي بيت لحم فاندثرَ منها الدجى وصارتْ تحملُ للملا بشارة السلام. حقاً لكم ابتهجتُ بمولدِ القدير حتى إنَّني خررْتُ وسجدْتُ لِمَن هو في المذودِ الحقير.

خادمةُ الخان في بيتَ لحم

  • عدد الزيارات: 4747