الله ينتظر، ثم يأمر ببناء سفينة كبيرة
تكوين 5: 1- 8: 15
أصبح العالم بعد ذلك يسكنه نوعان من الناس: شعب قايين الذين رفضوا الله، ولم يريدوا أن تكون لهم أية علاقة به، وشعب شيث الذين كانوا يؤمنون بالله، ويصدقون كلامه، وينتظرون المخلص الذي وعدهم الله أن يرسله إليهم.
وكان من بين شعب شيث شخص اسمه أخنوخ، وكان أخنوخ هذا يحب الرب جداً، وعاش كل حياته قريباً جداً منه، وذات يوم كان أخنوخ سائراً مع الله، والله نقله إلى السماء ولم يتركه يموت، لأن الله كان مسروراً
به جداً.
ولكن كان من نسل شيث أيضاً أولاد وبنات من الشباب، وهؤلاء غاروا من شبان وشابّات شعب قايين، غاروا منهم لأنهم كانوا أغنياء وأقوياء ولأنهم اخترعوا آلات موسيقية. ورأوهم يقضون وقتهم مع الموسيقى والرقص والغناء، يمتعون أنفسهم بكل ما يشتهون، غير مهتمين إن كان ذلك حلالاً أو حراماً. ولأنهم كانوا لا يهتمون بالأخلاق أو بالأدب، لا في كلامهم ولا في ملابسهم. هذا كله طبعاً لم يكن بحسب مشيئة الله، ولكن شعب قايين كما قلنا، لم يكونوا يحسبون لله حساباً.
وبكل أسف نقول أن بعض أولاد شيث، أعجبهم منظر بنات قايين، فتزوجوا منهنّ ولم يبالوا إن كان عملهم هذا يرضي الله أم يغضبه.
وبالطبع كانت بنات قايين شريرات، وشيئاً فشيئاً ابتدأ شعب شيث يتصرف مثل شعب قايين، وقلّ عدد الناس الذين يخافون الله، ويحبونه، وينتظرون مجيء المخلص. وزاد شر الناس فلم يكن أحد يفكر في الله أو يخاف من غضبه، ولم يطلب من الله الرحمة وغفران الخطايا إلا القليل جداً من الناس.
ويرى الله الناس وشرهم ومع ذلك يستمر بالإحسان إليهم، ويتأنى عليهم، على أمل أن يرجعوا إليه. صحيح أن الله صبور، وطويا الروح وكثير الرحمة، ولكنه في نفس الوقت عادل وبار، ولابد أن يأتي يوم يقول الله فيه كفى...أنا صبرت طويلاً، ولكن الناس لم يتوبوا... لا بد إذاً من أن أعاقبهم على شرورهم.
هذا ما حدث بالضبط مع نسل قايين ونسل شيث أيضاً، لأنهم ساروا في طريق قايين. أعلن الله أنه سيعاقبهم وإنما بسبب رحمته أعطاهم مهلة للرجوع عن شرورهم. أعطاهم 120سنة، كان يمكنهم فيها أن يتوبوا ويرجعوا ويطلبوا غفران خطاياهم. وقال الله أنه سيهلك كل ما على وجه الأرض من الناس والبهائم. كان شر الناس قد كثر جداً وملأ الظلم الأرض كلها وكان لا بد أن يظهر الله غضبه ويعاقب الأشرار.
قد تندهش أيها القارئ عندما أن الله لم يجد بين كل الناس إنساناً باراً غير واحد فقط، كان اسمه "نوح" وكان نوح هذا مثل آدم وشيث وأخنوخ يحب الله ويؤمن بكلامه، وينتظر المخلص الآتي حسب وعد الله، ويعترف أنه لا يستطيع أن يخلص نفسه. وأراد الله أن يخلص "نوح" وزوجته وأولاده وزوجات أولاده.
لذلك أمر الله "نوح" أن يبني سفينة كبيرة، لتكون مسكناً له ولعائلته، وأن يكون فيها يتسع لعدد كبير من الحيوانات، التي قصد الله أن يحفظها من الهلاك. وقال الله لنوح: اجعل مكان الحيوانات في أسفل الفلك، ومكان سكناك أنت وعائلتك في أعلى الفلك، اجعل للفلك باباً واحداً في جانبها ونافذة واحدة في سقفها.
وآمن نوح بكلام الله، وقام وابتدأ يعمل كما أمره الله. وتجمع الناس الأشرار حول نوح وهو يبني الفلك، وأخذوا يسألون بعضهم بعضاً: ماذا سيفعل هذا الرجل العجوز؟ وما فائدة هذه السفينة الكبيرة المكونة من ثلاث طوابق؟ هل سيسافر بها فوق الجبال؟ ها..ها..ها.. وابتدأوا يضحكون عليه ويتهمونه بالجنون... ولكن "نوح" أخبرهم أن الله أمره أن يبني الفلك، لأنه غاضب على شر الناس، وسيرسل عليهم طوفاناً يغطي كل وجه الأرض، وإن الجميع سيهلكون إلاّ الذين في الفلك.
لما سمع الناس هذا الكلام، انفجروا بالضحك، وطبعاً لم يصدقوا ولا كلمة منه، واعتقدوا أن الرجل "نوح" يخرف، ولذلك فهو يضيع وقته، ويصرف نقوده على غير فائدة.
وفي أيامنا هذه، يستهزئ الناس الأشرار الذين لا يؤمنون بكلام الله، بنفس الطريقة. الله يقول لنا في الكتاب المقدس، أن الأرض سيأتي عليها يوم تحترق فيه بالنار، فيقول الناس هذا كلام فارغ، لأن الأرض باقية من ألوف السنين، وستبقى إلى ما لا نهاية، ولن تحترق بالنار. ولكن هؤلاء الناس سيخافون ويرتعبون ويهلكون عندما يتمم الله كلامه، ولا يمكنهم الهروب من الدينونة، كما حدث بالضبط مع الناس في عصر نوح، كما سنرى.
استمر نوح يبني الفلك مدة 120 سنة، وطوال هذه المدة كان يكرز يحذرهم ويطلب منهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله... ولكنهم لم يسمعوا له. وعند نهاية المدّة، تمّ بناء الفلك، وأمر الله "نوح" وأولاده أن يدخلوا الفلك، وأن يأخذوا معهم الحيوانات التي قال لهم عنها. وبعد ذلك أغلق الله الفلك على نوح ومن معه. ولم يكن أحد من الذين خارج الفلك يستطيع أن يدخلها... الفرصة انتهت والباب أُغلق بيد الله.
بعد ذلك أخذ المطر الشديد ينزل من السماء من فوق، واندفع أيضاً ماء من الأرض من أسفل، وأخذ الماء يرتفع على سطح الأرض شيئاً فشيئاً، وخاف الناس وعرفوا أن كلام نوح كان صحيحاً، وأن الطوفان سيغرق الجميع. عندئذ ابتدأ البعض يطرقون باب الفلك ويقولون: يا نوح افتح لنا... افتح يا نوح الباب وخذنا معك. ولكن "نوح" طبعاً لم يكن يستطيع أن يفتح الباب، لأن الله أغلق عليه من الخارج. وكلما كانت المياه ترتفع، كلما كان الناس يتأسفون ويقولون: يا ليتنا تبنا وسمعنا كلام الله الذي كلمنا به نوح. وابتدأ الناس يركضون هنا وهناك إلى الجهات المرتفعة، وتسلقوا التلال والجبال، ولكن المياه ارتفعت باستمرار، حتى غطت كل الجبال العالية. هكذا مات جميع الناس بالطوفان، ولم يسلم من الهلاك إلا الذين دخلوا الفلك، وهم نوح وأولاده والحيوانات التي معهم. والمياه التي أغرقت الأشرار جميعاً، رفعت الفلك. وسارت الفلك على وجه الماء.
نظر نوح من نافذة الفلك، فلم يجد الناس الذين كانوا يصرخون إليه، ولم يعد يسمع صوتهم، فعرف نوح أن الجميع ماتوا تحت غضب الله بواسطة طوفان الماء.
والآن نسأل سؤالاً: لماذا خلص الله "نوح وأولاده"؟ هل كان هؤلاء بلا خطية؟ وما الفرق بين نوح وأولاده والناس الذين هلكوا؟ آه... الفرق هو أن نوح، بالرغم من أنه خاطئ كباقي الناس، إلا أنه كان يصدق كلام الله، ويؤمن بوعده تعالى. كان يؤمن بأن الله سيرسل "مخلصاً" يحمل خطايانا ويموت من أجلهم ويحمل العقاب بدلاً عنهم، وهذا الإيمان هو الذي جعله يصدق الله عندما أمره بأن يبني الفلك ويدخلها. آمن نوح أن الله لا بدّ سيهلك الأشرار بالطوفان كما قال، وآمن أيضاً بأن الله سينجيه هو وأولاده، إذا دخلوا الفلك، وأن الله سيحفظ الفلك فلا تتحطم بسبب المياه الكثيرة.
نجا نوح وعائلته من الهلاك، ليس لأنهم كانوا بلا خطية، أو أحسن من غيرهم، بل لأنهم سمعوا كلام الله وصدقوه، وآمنوا بالمخلص الآتي، الذي سيموت عنهم ويتحمل عقاب خطاياهم. كذلك، عندما يحترق العالم الحاضر بالنار حسب كلمة الله، سيقول الأشرار: يا ليتنا صدّقنا وآمنا بكلام الله! يا ليتنا تبنا ورجعنا إلى الله!! لكن الفرصة تكون قد ضاعت إلى الأبد، فلا ينفعهم الندم شيئاً. أما الذين يؤمنون بالرب يسوع المسيح، المخلص الذي جاء إلى العالم، فهم لا خوف عليهم، لأنهم سيكونون آمنين سالمين، تماماً، كما كان نوح في الفلك. لا يمكن لنار الدينونة أن تؤذيهم، لأنهم في المسيح (وكانت الفلك ترمز إلى المسيح).
ولكن يجب أن نعرف جيداً أن هؤلاء سيخلصون من الهلاك، ليس لأنهم أفضل من غيرهم- لأن الجميع أشرار- بل لأن المسيح له المجد أحبهم ومات لأجلهم، وحمل عقاب خطاياهم، وهم قبلوه وآمنوا به كمخلص لهم.
استمر المطر ينزل40 يوماً ثم أمر الله أن يكف المطر، وفرح نوح عندئذ لأنه عرف أن الله ما زال يذكره، ولم تغرق الفلك، بل كانت عائمة على وجه الماء.
ظلت الفلك عائمة مدة 150يوماً، ثم بدأت المياه تنقص شيئاً فشيئاً حتى ظهرت قمم الجبال. وكان نوح مسروراً جداً لنجاته هو ومن معه، ولكنه كان يشتاق جداً أن ينزل من الفلك إلى الأرض بعد أن عاش في الفلك مدة تقرب من السنة.
وفي أحد الأيام أراد نوح أن يعرف هل نشفت المياه عن الأرض أم لا؛ ففتح نافذة الفلك وأطلق غراباً من الغربان التي معه في الفلك. وقال نوح: إن لم يرجع الغراب يكون قد وجد مكاناً يبني فيه عشه، ولكن الغراب رجع بعد قليل، ففهم نوح أن الأرض لم تجف. وبعد مدة أرسل الغراب مرة أخرى... ثم مرة ثالثة، وكان الغراب يعود إلى الفلك. وذات يوم أرسل نوح الغراب، فلم يرجع، وسرّ نوح لأنه عرف أن الأرض بدأت تجف، بدليل أن الغراب وجد مكاناً لعشه. ولكن كان يلزم أن "نوح" يبقى أياماً كثيرة في الفلك حتى تجف الأرض، قبل أن يستطيع أن ينزل من الفلك.
أرسل نوح- بعد مدة طويلة- حمامة إلى خارج الفلك، ولكنها عادت بعد قليل. فانتظر أسبوعاً وأرسل الحمامة مرة ثانية، فعادت هذه المرة وفي فمها ورقة زيتون خضراء. من ذلك فهم نوح أن الأشجار بدأت تظهر. وبعد أسبوع آخر، أرسل نوح الحمامة فلم ترجع. عرف نوح أن الحمامة لابد وجدت مكاناً لنفسها... وأخذ نوح ينتظر اليوم الذي يستطيع فيه أن يسمح الله له بالخروج من الفلك.. ولكنه قال في نفسه: الله يعرف الوقت المناسب وظل ينتظر بصبر.
- عدد الزيارات: 2089