في قانا الجليل
(يوحنا 2: 1 - 11)
تمضي السنون قبلما نجد مريم مرة أخرى في سجل الوحي. رأيناها آخر مرة في أورشليم عندما كان يسوع عمره اثنتا عشرة سنة وقد صعدت مع رجلها إلى هناك لتحفظ عيد الفصح ثم رجعت إلى الناصرة. ولا يرد شيئاً عن يسوع أو عن أمه لمدة لا تقل عن ثمانية عشر عاماً. وطوال هذه الفترة التي كان فيها يسوع مختفياً كانت هي كذلك مختفية وهكذا يكون الأمر مع المسيحي فإن حياتنا الآن مستترة مع المسيح في الله، ولكن عندما يظهر المسيح حياتنا ستظهرون معه في المجد (انظر أيضاً 1 يوحنا 3: 2) كذلك في الإنجيل ففي اللحظة التي بدأ فيها يسوع ظهوره لإسرائيل (ص 1: 31) نجد مريم مرة أخرى تأتي في المشهد. ولكن لكي نفهم الأمر فهماً صحيحاً وما تبع ذلك فتجب ملاحظة أن سيرتها الشخصية تتوقف. وعندما نراها بعد ذلك أو يرد ذكرها فإما بغرض رمزي أو لتعلم درساً ثميناً في ارتباطها مع ربنا. وتجد ملاحظة أن مريم هذه المنعم عليها لا ينبغي أن تكون محط أنظار شعب الله عندما يأتي ابنها يسوع في المشهد، فما يشغل القارئ هو كمالاته وحكمته وخضوعه الكامل لإرادة إلهه ومجده، وفي نفس لوقت لا ننسى هذه الوحدة في العلاقة بين مريم وطفلها.
ويقال لنا أنه "في اليوم الثالث" "كان عرس في قانا الجليل. وكانت أم يسوع هناك". "ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس". إن البعض يشكون إذ تناولنا هذا المشهد بشكل رمزي عندما نطرح الصورة النبوية لرجوع إسرائيل المستقبلي. والجملة التي تتكلم عن العرس أنه كان "في اليوم الثالث" إنما تشير بوضوح إلى ذلك المعنى النبوي، فاليوم الثالث يتكلم عن زمان البركة (وكذلك الدينونة إذا أضفنا إليها حادثة تطهير الهيكل) والتي جاءت بعد اليومين للشهادة وهما ليوحنا المعمدان وليسوع نفسه – والمسجلة في ص 1، والتي تعني غالباً القيامة – وهي ظلال مستقبلية لحقيقة بركة الشعب الأرضي وكذلك بركة الشعب السماوي والتي تتأسس على القيامة وحدها. ولكي نفهم الخاصية الرمزية لهذا العرس – فقد اتخذ العرس مجراه ولكنه اختير خاصة لإظهار هذا الغرض وهو مفتاح هذه الحادثة ولا بد لنا أن نقول ذلك لأن كثيرين حتى من المسيحيين أنفسهم لم يفهموا بحسب أفكارهم البشرية المناقشة التي دارت بين الرب نفسه في تعاملاته مع مريم في هذه المناسبة، وقد نسوا مجد ذاك الذي استعلن هنا كما في أماكن أخرى وكذلك كماله المستعلن في تلك العلاقة.
ونقرأ "ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه" (ع 3 - 5). ونسجل هنا ملاحظات كتبها واحد تشرح معنى هذا الجزء: [إنه في العيد (أو العرس) لا يعرف أمه، وهذه هي علاقته الطبيعية مع إسرائيل، والمنظور لها أنه قد ولد منها تحت الناموس، فإسرائيل أمه، إنه يفصل نفسه عنها ليتمم البركة]. وهذا يساعدنا في شرح طبيعة هذا المشهد الرمزي المشار إليه. وهذا صحيح فإذا كان يسوع قد ولد من امرأة وولد تحت الناموس، فقد كان عليه أن يموت عن هذه العلائق جميعها لكي يمجد الله تمجيداً كاملاً ويفتدي الذين هم تحت الناموس بأن يصير لعنة لأجلهم قبلما يأتي بالبركة لإسرائيل. وحبة الحنطة كان ينبغي أن تقع في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر كثير.
ولكن هناك شيئاً آخر يجب أن نتذكره أن يسوع قد أخبر أمه – كما رأينا كذلك من قبل – أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه أي لصوالح أبيه، وأنه قد أتى ليفعل إرادة أبيه وهو قد فعل ذلك ففي كل خطوة كان في شركة مع أبيه سواء من جهة التوقيت أو الأسلوب الذي يتبعه، كما قال عن نفسه "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذلك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5: 19 - 20). ولذلك كان من المستحيل عليه أن يقبل اقتراحاً من مريم عما ينبغي أن يعله وهذا معناه أن مريم تتدخل في منطقة مقتصرة ومحددة للآب وللابن. كان ما قالته تعبيراً عن حثها للرحمة وهو في ذات الوقت يعبر عن إيمانها بقوة يسوع التي لا يمكن أن تنكر. وعندما نأتي إلى دائرة كمال المسيح وتكريسه فإننا لا نسمع غير صوته الذي يقول أنه جاء ليفعل إرادة أبيه. إن هذا يفسر لنا قوله "مالي ولك يا امرأة؟؟ لم تأت ساعتي بعد".
كانت كلمة يسوع لأمه التأثير المقصود، ويتضح هذا من حقيقة أنها لم تحاول أن تجيب،وأنها كانت تعتمد على تدخل يسوع وإظهار قوته، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه". وهذا جميل ورائع في حد ذاته، فمع أن مريم بسبب عواطفها الزائدة جربت في أن تأخذ مكاناً لا يخصها، وربما رغبة منها أن ترى ابنها يظهر علانية،ولكن سرعان ما تكلم الرب حتى عادت إلى مكانها الصحيح وانسحبت إلى الخلف. حتى وهي تتطلع إلى مجده الذي يفوق المجد البشري (ع 11) موصية الخدام بطاعة له لا تقبل الجدال. إن التوفيق بين عواطف الأمومة مع إيمانها بيسوع باعتباره يدعى ابن العلى وابن الله، وهي تراه في طريقة حياته اليومية يأكل ويشرب وينام، إنما يصبح هذا التوفيق أمراً صعباً ولكن الله نفسه كان يلاحظها ويفتح قلبها كل يوم لما كانت تحتاج أن تتعلمه وكذلك في هذه المناسبة عرس قانا الجليل. لم تعد تنشغل بتاتاً بنقص الخمر، وبقيت شاهدة بصمتها عن ما سيحدث، ولذلك استمتعت بهذا الامتياز الذي لا ينطق به كشاهدة لبداية هذه الآيات التي صنعها يسوع عندما أظهر مجده وآمن به تلاميذه. إن ما يصدر عما هو إلهي هو جزء من مجد الله وإظهار لحقيقة شخصه، وبالتالي فإن تحويل الماء إلى خمر كان بقوة كلي القدرة ونتيجة ذلك أن تلاميذه آمنوا به.كانوا قد قبلوه من قبل مع ضعف إيمانهم أما الآن فقد تثبت إيمانهم وذلك مريم أيضاً.
وإذ أكمل يسوع إرساليته في قانا الجليل انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة.
- عدد الزيارات: 4838