مريم في بيت لحم
إن كان الله له مطلق السلطان في مقاصده، فله أيضاً مطلق السلطان في اختياره لتلك الأواني التي تحقق مقاصده. ولأكثر من سبعمائة عام قبل ميلاد المسيح، تنبأ ميخا النبي بميلاد المسيح في بيت لخم: "أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". وكانت هذه نبوة عن مكان ميلاد المسيا، وقد اقتبسها رؤساء الكهنة والكتبة في إجابتهم عن السؤال الذي طرحه هيرودس عليهم – أين يولد المسيح؟. ولكن كان بيت مريم في الناصرة في الجليل، وكان الوقت يقترب لميلاد طفلها القدوس، وهكذا: "في تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة (العالم أو الإمبراطورية الرومانية). وبناء على هذا القرار تحرك يوسف (ومعه مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى بابنها)، لكونه من بيت داود وعشيرته، وصعد من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية في مدينة داود التي تدعى بيت لحم. ولم يكن الإمبراطور الروماني يدري كثيراً عن نتائج هذه الفكرة التي طرأت على ذهنه. كما لاحظ أحد الكتاب أن "هذا العمل كان لتحقيق قصد الله العجيب، لكي يولد المخلص الملك في قرية – كانت بحسب شهادة الله لابد أن يتم فيها هذا الحدث". وما يلفت الملاحظة أكثر أنه على الرغم من صدور هذا القانون، والذي بموجبه صعد يوسف ومريم مع كثيرين أيضاً إلى مدينتهم ليكتتبوا هناك، غير أن الاكتتاب قد تم بعد ذلك بفترة "عندما كان كيرينيوس والياً على سورية". كم عجيبة حكمة الله وكمال طرقه! فيوسف كان عليه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيت لحم، ويحرك الله الإمبراطور ليدفع إمبراطوريته للاكتتاب فيصعد يوسف إلى بيت لحم. يا له من برهان أكيد أن الله يمسك بزمام الحكم في يديه ويحرك قلوب الناس حيثما يشاء أن يمليها. والمسيحي يؤمن ويعرف ذلك وهو يستريح بسلام إزاء كل أعمال الناس ونشاطها، وإزاء كل التشويش والاضطراب والصراعات التي تجري هنا وهناك.
وبينما كان يوسف ومريم في بيت لحم، أن مريم "ولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (ع 7). وليس غرضنا في هذا الجزء أن نتناول موضوع التجسد، ولكننا بالحري نتكلم عن تاريخ مريم الشخصي. ونتجاسر أن نقدم لأحدهم بعض التأملات على هذا الحدث العجيب، وسر الأسرار فقال: "إن ابن الله ولد في هذا العالم ولكنه لم يجد مكاناً هنا. وإن كان جميع الناس لهم بيوت ولهم أماكن ولو في فندق غير أن ابن اله لم يجد مكاناً غير مذود. وهل عيثاً يسجل الروح القدس هذه الحادثة؟ كلا، فليس مكان لله ولا لأمور الله في هذا العالم. وهل نجد ما هو أكثر كمالاً غير تلك المحبة التي جعلته ينزل إلى الأرض. ولكنه بدأ في مذود وانتهى بالصليب، وبين البداية والنهاية كل الطريق لم يكن له أين يسند رأسه". ونحن كمؤمنين بكل خشوع وتعبد في حضرة إلهنا نتأمل في الطريقة التي بها "الله ظهر في الجسد" نعمة ربنا يسوع المسيح الذي من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تستغنوا أنتم بفقره. وإذا كانت هذه الأمور هكذا فليتنا نتذكر أنه لكي يتمم مقاصد محبته ويفتدي شعبه سواء كان إسرائيل أم الكنيسة، كان لزاماً عليه أن يرفض في حياته ويصلب في موته. إن الطفل المضجع في المذود هو "غرض كل مشورات الله، وهو الممسك والوارث لكل الخليقة، المخلص لجميع الذين يرثوا المجد والحياة الأبدية". ولا عجب فإن مريم كانت محتجة كل هذا الوقت. ولا كلمة تسجل عنها لما كانت تشعر به أو تفكر فيه أو تقوله، والحق أنها كانت مختفية وراء مجد ابنها.
- عدد الزيارات: 3673