Skip to main content

في التلميحات

الباب الثاني

لاهوت المسيح في العهد القديم الأسفار الموسوية والتاريخية الخ

الفصل الأول

إن الله تعالى مرتفع فوق الكثافة واللطافة معاً فلا يصل إليه أحد بالتعبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والخالق القدير، لا تحده العقول، لسموه عن دائرة المعقول، ولا تدرك كنهه الأفهام، فهو تعالى منزه عن الكم والكيف والحصر والحد فلا يحيط به مكان ولا يحصره زمان، كقول أبي بكر الصديق: "والبحث في عين ذات الله إشراك". ومع ذلك فنحن ملزمون أن نؤمن به كما هو معلن في معلناته التي أوحى بها إلى عباده لأن نور الطبيعة غير كافٍ لأن يوصلنا إلاّ إلى معرفة وجود أزلي برأ الطبيعة وسيرها على أتقن نظام. وأما الوحي الإلهي فيعلّمنا عن صفات الله الواحد وأقانيمه ومظاهره وأعماله لأجلنا إلى آخر ما جاء في الوحي من الفوائد سواء أكانت تلميحات أو تصريحات أو رموزاً وإشارات أو نبوات.

ولقد رأينا في التوراة من التلميحات ما هو أصرح من التصريحات ولذا فلا نعتمد في هذا الفصل إلا على التلميحات الواضحة خدمة لحقيقة لاهوت رَبّ الْمَجْد كالآتي: إن ثالث كلمة وردت في أول السفر الأول من أسفار التوراة المسمى بالتكوين هي اسم الجلالة الأعلى "الله" باللغة العربية كما في تكوين 1: 1 وهذه الكلمة "الله" هي باللغة العبرانية "إلوهيم". والكلمة إِلوهيم هذه هي جمع مذكر سالم للاسم العبراني إِلوه (أي إله). ولم يرد اسم الجلالة باللغة العبرانية في كل الكتاب المقدس من أوله إلى آخره إلا بصيغة الجمع (ما عدا بعض المواضع الشعرية). وإذا قيل أن اسم الله في اللغة العربية يدل على مسمى مفرد حسب اصطلاح اللغة العربية ولا يذكر شيء عن الله بصيغة الجمع إلا على سبيل التعظيم أجبنا أن اللغة العبرانية التي أنزلت بها التوراة خالية من هذا الاصطلاح خلواً تاماً. وعلى هذا فذكر اسم الله بالجمع دليل على ما في وحدانيته من الأقانيم، وتلميح إلى لاهوت السيد المسيح له المجد والحمد والتسبيح.

أفعال دلت على جمع في وحدانية الله

إننا إذا تقدمنا قليلا في التكوين بعد هذا الاسم المبارك نرى تلميحاً جديداً في قوله تعالى: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تكوين 1: 26) لأن النون في الفعل "نعمل" لا تشير إلى تعظيم حسب اصطلاح العرب بل تشير إلى جمع وحدانية حسب الاصطلاح العبراني الأصلي "نعمل" نحن الآب والابن والروح القدس أي الثالوث الأقدس (انظر مزمور 33: 6).

وإذا تقدمنا أكثر في القراءة نرى تلميحات أخرى في قوله تعالى: "هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض" (تكوين 11: 7) لأن النون في الفعلين (ننزل ونبلبل) قد دلتانا على جمع في الذات الأحدية فضلاً عن كون الفعلين مسبوقين بالقول "هلمّ". فلو فرضنا وسلمنا جدلاً لذوي الاصطلاح العربي بأن الجمع في الفعل لتعظيم الإله الواحد فلمن قال الله: "هلم الخ؟" ألا يدل هذا القول على أنه يوجد متكلم ومخاطب؟ فمن هو المتكلم ومن هو المخاطب؟ ألا يدل هذا على وجود جمع في وحدانية الله؟ ألا يشير هذا، ولو تلميحاً، إلى الآب والابن والروح القدس؟ ومن هذا الابن المذكور بين أقانيم اللاهوت؟ أليس هو المسيح رَبّ الْمَجْد والقدرة والسلطان؟

الضمائر ذات التلميحات إلى لاهوت المسيح:

عندما قال الله "نعمل الإنسان" أوضح قصده بقوله: "على صورتنا كشبهنا" (تكوين 1: 26). فلم يقل ألا بما يدل على وجود الأقانيم في وحدته لأن الضمير "نا" في قوله "على صورتنا كشبهنا" عائد إلى القائل "نعمل" وهو الله. فلم يقل (أعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا) ولم يقل (نعمل الإنسان على صورتي كشبهي) بل قال "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا". وعليه فهذه الضمائر تلميح إلى تعدد الأقانيم من جهة، والى لاهوت المسيح من جهة أخرى.

ونرى في هذه التلميحات أن الله خلقنا على صورته الأدبية والعقلية كشبهه في الحياة القدسية، فأعطانا عقلاً لنميز به الأشياء الموهوبة لنا منه، وأعطانا نسمة حياة امتزنا بها على المخلوقات كافة؛ ولكنه من جهة ثانية أخلى الابن نفسه في ملء الزمان آخذاً صورتنا، فاتخذ الرب يسوع المسيح جسداً مثلنا، وفدانا به من خطايانا، وأعادنا إلى عرش القداسة بعد أن حكم علينا بالموت الأبدي عقب سقوط أبوينا الأولين.

وإذا تقدمنا أكثر في الكتاب نرى قوله تعالى : "وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا" (تكوين 3: 22). ونرى أن القائل هنا هو "الرب الإله" الأقنوم الثاني من الأقانيم الثلاثة. ولو كان هذا قول الثالوث الأقدس "الله" أو (إلوهيم) لكان سياق الكلام هكذا: "وقال الله إلخ" ومع ذلك فقوله "كواحد منا" تلميح ظاهر إلى وجود الأقانيم الثلاثة في وحدانية الله وتلميح اظهر لاهوت المسيح الرب والإله كما هو معلوم (راجع يو 20: 28). وأن لم يكن الأمر هكذا فلماذا قال الرب الإله عن الإنسان: "هوذا الإنسان قد صار كواحد منا؟" ومن هو المتكلم ومن هم المخاطبون إذاً؟ فبمَ يجيب الرافضون؟

البطل كالليل مملوءٌ من الخطر

والحق كالشمس لا يخفى على بصر

ومما يناسب ما تقدم ما عثرنا عليه في سفر أشعياء النبي فألحقناه به قوله تعالى: "ثم سمعت صوت السيد قائلاً من أرسل ومن يذهب من أجلنا" (أشعياء 6: 8). فالسيد في هذه الآية هو الرب القدير، واسمه يدل على وحدانية الله. ولكن "نا" الضمير في قوله: "من أجلنا" تلميح صريح إلى وجود الثالوث في هذه الوحدانية. وفوق هذا فإن جلوس السيد في الهيكل فوق كرسي عال وأذياله تملأ الهيكل، وتأكد أشعياء من أن عينيه قد رأتا رب الجنود، وتطهيره بمس شفتيه بجمر نار المذبح، وتأمينه من الخوف على حياته بعد أن رأى الله (راجع أشعياء 6: 1-9) كل هذا من التلميحات الجلية أن السيد رب الجنود المذكور في هذا الموضوع هو المسيح رَبّ الْمَجْد بلا خلاف. ومما يدل على عدم وجود الجمع للتعظيم في العبرانية قوله "أنا فرعون- أنا يوسف- أنا نبوخذنصر- أنا كورش الخ بالمفرد" وهكذا كل اصطلاحات الكتاب.

ومما يثبت نظريتنا هذه ويؤكد لنا أن كل هذه الضمائر التي مرّ ذكرها تلميح إلى لاهوت المسيح قوله المجيد: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 14: 23) لأن الضمير في قوله "نأتي" و"نصنع" عائد إلى الآب والابن معاً، وليس فيه شيء من التعظيم اللفظي لدلالته على وجود أكثر من واحد بالتصريح اللفظي لا بالتلميح المعنوي. وهذا ظاهر لقوم يعقلون، وفي بوادي الحق يجولون.

فلو لم تكن حقيقة الأمر كذلك لاستعمل الوحي المفرد لا الجمع. فإذا أردنا أن نؤمن كإيمان إبراهيم فها هو يقول: "وحدث لما أتاهني الله من بيت أبي" (تك 20: 13) وفي النص العبراني "أتاهوني إِلوهيم"، يعني حرفياً أتاهوني آلهة. وإذا أردنا أن نؤمن كإيمان موسى فها هو يقول: "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك" (تثنية 6: 4و5) "وفي النص العبراني (اسمع يا إسرائيل يهوه ألوهينا يعني حرفياً الرب آلهتنا فتحب يهوه ألوهيك الخ" يعني حرفياً الرب آلهتك. وفي هذا من التلميح ما يعلّمنا أن الله تعالى واحد وجمع معاً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط بل علينا أيضاً أن نلاحظ أن اسم الجلالة (إِلوهيم) إذا وقع في اللغة العبرانية فاعلاً فقد يجمع فعله، وإذا وقع مبتدأ فقد يجمع خبره، وإذا وقع منعوتاً فقد يجمع نعته، وإليكم بعض البراهين العملية من كتاب الله: "لأنه هناك ظهر له الله" (تكوين 35: 7) وفي الأصل العبراني "ظهروا له إِلوهيم" وأيضاً: "الذي سار الله ليفتديه" (2صموئيل 7: 23) في الأصل العبراني "ساروا إِلوهيم" وأيضاً: "لا تقدرون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس" (يشوع 24: 19) في الأصل العبراني "إِلوهيم قدوشيم" وأيضاً: "أنه يوجد إله قاض في الأرض" (مزمور 58: 11) في الاصل العبراني "إِلوهيم قضاة".

وإليكم أيضاً براهين مماثلة لما تقدم مذكورة في أسماء الصفات الدالة على الله عز وجل: "وإن كنت سيداً فأين هيبتي قال لكم رب الجنود" (ملاخي 1: 6) في الأصل العبراني "وأن كنت "أدونيم" أي سادة" وأيضاً: "لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه” (أشعياء 54: 5) في الأصل العبراني "بعليك عسيك أي بعولك صانعوك" وأيضاً : "اذكر خالقك" (جامعة 12: 1) في الأصل العبراني "خالقيك" وأيضا: "بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس" (أمثال 9: 10) في الأصل العبراني "مخافة يهوه ومعرفة هاقدوشيم" يعني القدوسين. وهكذا كل أسماء الله وكل الأسماء الدالة على الله في العهد القديم مذكورة بصيغة الجمع ما عدا بعض الأسماء التي ذكرها بعض الأنبياء مفردة لضرورة شعرية في اللغة العبرانية. فالذي ورد بصيغة الجمع منها ورد نحو 3000 مرة بل أكثر، والذي ورد بصيغة المفرد منها لم يزد على 50 مرة. ألا تدل كل هذه البراهين على أن الله واحد وجمع معاً؟ ألا يدل هذا على وجود أقانيم في الوحدانية؟ أليس كل هذا تلميحاً إلى لاهوت المسيح؟ لا يمكن أن يقول غير المؤمن: كيف يكون الله جمعاً وواحداً في آن واحد؟ نعم لا يمكن لأحد أن ينتقد هذا ولا أن يفحصه كشيء واقع تحت قياس العقل 1- لأن الله روح فوق المادة، والانتقاد لا يكون إلا على ما هو مادي في مثل هذه الحال. فلا يمكن أن نصور الكائن الروحي بالفكر الطبيعي 2- لأن الله غير مدرَك ونحن مدرَكون، ولأنه غير محدود ونحن محدودون، فلا يمكن البحث في كنه غير المحدود بالعقل المحدود.

ومما زاد الأمر أهمية وجلاءً وحوّل التلميحات إلى تصريحات لا تحتاج إلى تأويلات هو أن الكنيسة المسيحية منذ عصورها الأولى رأت ضرورة التعبير عن هذا المعتقد العلي الشأن فاصطلحت على كلمة أسموها "أقنوماً" وهي كلمة آرامية أصلاً. وهي تشير في مسماها إلى كائن حي قدير يقدر بالحق أن يقول عن نفسه "أنا" ويخاطب بالقول "أنت" ويقال عنه "هو". ولذا فقد أعلن المسيحيون من صدر المسيحية (بناءً على ما تقدّم) أن الله واحد في جوهره وذاته جمع في أقنوميته وثالوثه الأقدس.

قلنا أن الله فوق أفكارنا واصطلاحاتنا وتصوراتنا. ولكنه تعالى تنازل لأجل تعليمنا فنسب إلى ذاته الكريمة بعض ما ينسب إلى البشر من طريق المجاز، كالوجه واليد والفم والقدم ونحو ذلك. وفوق هذا فقد نسب إلى نفسه بعض الانفعالات النفسية، كالغضب والرضى والحزن والفرح وغيره، فقرّب ذاته لأفهامنا المحدودة بالتعبيرات المحدودة، مع أنه تعالى منزه عن كل ما يقع تحته البشر. وعلى هذا فنحن نرى أنه هو الذي علمنا أنه يتكلم ويسمع ولكن لم يعلن لنا ولم يعلّمنا كيف يتكلم ولا كيف يسمع لأنه فوق كل فوق لا يُحصى ولا يُرى ولا يُدرك ولا يفنى. ولكن لا يفوتنا أن كل ما جاء في باب تعليمنا عن اتصاله بنا ومعلناته لنا تلميحات مؤدية إلى الاعتقاد الصحيح بلاهوت المسيح.

أن الله كان موجوداً منذ الأزل (قبل الخلق) فلم يكن موجوداً سواه، ولذلك لم يكن الحال محتاجاً حينئذ إلى أن يعبر عن ذاته الكريمة بأي تعبير، ولا أن ينسب لها أية نسبة خاصة بالمخلوقات. ولكن بعد الخلق اقتضت إرادته أن يكلم البشر فكلمنا بما نفهم إلى أن صرنا قادرين أن نصفه تعالى بأنه هو السميع البصير الحي المتكلم المريد وهلم جراً. وفضلا عما تقدم فقد أسمى نفسه بأسماء جليلة الشأن وهامة جداً لأن منها ما دل على وحدانيته ومنها ما دل على ثالوثه الأقدس. ومن ضمن أسمائه التي أسمى بها نفسه "يهوه" وهذه كلمة عبرانية معناها العربي "القيوم" (الواجب الوجود الأزلي). وقد أعلن الله لليهود اسمه أولاً "يهوه" هو اسم الذات الإلهية مباشرة، ودعوه (الاسم الأعظم) لأن الله جعله اسماً لنفسه، فسمى به ذاته أولاً لموسى النبي "وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكري إلى دور فدور" (خروج 3: 15). ومما يدل على أهمية هذا الاسم أنه ذكر في عدة أسفار من العهد القديم بغاية التبجيل والتعظيم كما يأتي:

"هكذا قال الرب صانعها الرب مصورها... يهوه اسمه" (إرميا 33: 2).

"الرب إله الجنود يهوه اسمه" (هوشع 12: 5).

"هوذا الذي صنع الجبال يهوه إله الجنود اسمه" (عاموس 4: 13).

"الذي يدعو مياه البحر ويصبّها على وجه الأرض يهوه اسمه" (عاموس 5: 8و9: 6).

ولهذه الأسباب وقّر اليهود هذا الاسم (يهوه) كل التوقير حتى صار الواحد منهم لا يتجاسر على النطق به في كل وقت، وحتى أنهم لما كانوا يقرأون الكتاب ويصلون في القراءة إلى هذا الاسم كانوا يخافون ويستبدلونه (في القراءة فقط) بالاسم "أدوناي" الذي معناه (أربابي). وكانوا لا ينطقون بالاسم (يهوه) إلا تحت شروط خاصة، وأماكن خاصة، حتى أن كتبة التوراة كان الواحد منهم إذا وصل إلى الاسم (يهوه) لا يكتبه إلا إذا اغتسل وتناول قلماً جديداً وحبراً جديداً وركع على ركبتيه وعندئذ يكتبه وهو في حالة عبادة وخشوع. ومن عجيب الأمور أن الاسم (يهوه) يطلق على كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة الكائنة في ذات الإله الواحد. فعن الآب: "قال الرب لربي" (مزمور 110: 1) في العبراني (قال يهوه لادوني يعني قال يهوه لربي) وعن الابن: "وأخلصهم بالرب إلههم" (هوشع 1: 7) في العبراني (بيهوه آلهتهم) وعن الروح: "يد السيد الرب وقعت علي ورفعني روح بين الأرض والسماء" (حزقيال 8: 1و3) في العبراني (يد يهوه الخ) مما دل دلالة واضحة على وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت، وعلى أن كلا منهم له الاسم الكريم (يهوه)، وعلى أن الله عزم على أن يخلص الخطاة بذاته كما قيل: فرأى (الله) أنه ليس إنسان وتحير من أنه ليس شفيع. فخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضده" (أشعياء 59: 16) وكقول هوشع المار ذكره: "واخلصهم بالرب إلههم" (هوشع 1: 7). فإذا علمنا أن اسم (يسوع) ليس مفرداً بل مركباً في اللغة العبرانية من كلمتي (ياه- سوع) و(ياه) هو ذات الاسم (يهوه) و(سوع) معناها (مخلص) تأكد لدينا أن الاسم في الاصل هو (الرب مخلص). أليس في هذا تلميح بل تصريح يؤدي بنا إلى لاهوت المسيح في العهد القديم؟

إن هذه التسمية (الآب والابن والروح القدس) لا تستلزم وجود سابق أو لاحق أو أكبر أو اصغر أو أضعف أو أقوى بين الأقانيم، بل تستدعي المساواة التامة بين الأقانيم الثلاثة. ويستنتج من هذه المساواة ضرورة اعتقادنا واعترافنا بلاهوت المسيح حسب تلميحات العهد القديم مع العلم بأن التمييز بين الأقانيم الثلاثة لا ينافي وحدة الجوهر والذات. 

تلميحات عمومية

"في البدء خلق الله السموات والأرض وروح الله يرف على وجه المياه" (تكوين 1: 1و2). في هذين العددين تلميح إلى لاهوت المسيح، والى اشتراكه مع الآب والروح القدس في عمل الخلق، لأن الكلمة هنا "الله" هي "إِلوهيم" العبرانية كما مر. وهذا التلميح معزز بشواهد كثيرة من كتاب الله نكتفي منها بما يأتي:

أولاً- "بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها" (مز 33: 6). فمن هو هذا الذي به صنعت السموات؟ أليس هو المسيح كلمة الرب؟

ثانياً- "منذ الأزل مُسحتُ... لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعاً" (اقرأ أمثال 8: 22-30). فمن هو الممسوح الأزلي الصانع في عمل الخلق؟ أليس هو المسيح؟

ثالثاً- "بالإيمان نفهم أن العالمينَ أتقنت بكلمة الله" (عب 11: 3).

المسيح بتجسده، وبولادته من العذراء. وكذلك بحثنا في القيامة والصعود بصفة كونهما برهاناً قاطعاً على لاهوت المسيح.

ومما يجب لفت النظر إليه أن هذا الكتاب مفيد لكل قارئ من كل طائفة ون كل مذهب ون كل دين لأن غرضنا الأول إنما هو تمجيد الله بإعلان لاهوت الفادي المجيد.

(عبد الفادي القاهراني)

فمن ذا الذي أتقنت به العالمون؟ أليس هو الرب المسيح كلمة الله (راجع كولوسي 1: 16).

"وظهر له الرب... فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه... وسجد إلى الأرض. وقال يا سيد... فلا تتجاوز عبدك" (تكوين 18: 1-3). ونحن بالتأمل في هذه الأعداد الثلاثة وما يليها إلى آخر الأصحاح ينكشف لنا من الحقائق ما يأتي:

1- إن ملاك الرب، وهو "الله"، ظهر لإبراهيم كما ذكر في الكتاب بالمفرد الدال في العربية على الوحدانية وإن كان في العبرانية جمعاً.

2- وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه... وقد يظهر لنا من هذا أن الرب ظهر في ثلاثة أقانيم يعني لدى خليله إبراهيم فهو "إِلوهيم"

3- بينما الثلاثة كانوا واقفين لديه، سجد إلى الأرض وخاطبهم بالمفرد قائلاً: "يا سيد" فهو خاطب الثلاثة في الواحد كما نظر الواحد في الثلاثة.

4- إن الثلاثة سألوا إبراهيم قائلين: "أين سارة امرأتك؟" (تك 18: 9). وهذا دليل على أن عمل الثالوث واحد.

5- إن الذي بشر إبراهيم وسارة بغلام نحو زمان الحياة واحد مع أن السائلين ثلاثة فهم ثلاثة في الواحد.

6- انصرف اثنان إلى سدوم وعمورة، وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب بخشوع واحترام متضرعاً إليه مستشفعاً بسدوم وعمورة إذا أمكن، وإلا ففي لوط وعائلته. فهنا كان الرب يتكلم مع إبراهيم .

7- وفي الوقت نفسه كان لوط قد ضاف الاثنين وأخرجاه وامرأته وابنتيه قبل هلاك المدينة، واستشفع بهما في صوغر قائلاً: "لا يا سيد. هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي... أليست هي (صوغر) صغيرة فتحيا نفسي؟ فقال له إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر" (تك 19: 1-22). فبينما الرب يكلم إبراهيم بعد ذهاب الاثنين نرى لوطاً يخاطبهما بلفظ المنادى المفرد مستشفعاً في المدينة. فأجاب الرب قائلاً: "قد رفعت وجهك في هذا الأمر" وهؤلاء الثلاثة كانوا هم الرب الواحد الذي خاطب إبراهيم كما هو مذكور في تك 18: 10 قائلاً: "إني أرجع إليك نحو زمان الحياة" بصيغة المفرد المتكلم. ألا تدل كل هذه على وجود الثالوث في الوحدانية؟ أليس في هذا تلميح هو التصريح بلاهوت المسيح؟ أليس الأقانيم الثلاثة المذكورون هنا هم- الآب والابن والروح القدس؟ أليس الابن هو المسيح؟

وإن شئتم التصريح فلنصرّح أن الذي ظهر لإبراهيم وللوط هو المسيح: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر" (يوحنا 1: 18).

  • عدد الزيارات: 4499