سلامة الكتاب المقدس من النسخ الكلي والجزئي
الحقيقة الثالثة
أن هذه الحقيقة تؤيد سلامة الكتاب المقدس من النسخ الكلي والجزئي الذي نسبه إليه أعداؤه أعداء الوحي.
ولذا فلنا فيها ما يأتي:
1- سلامة الكتاب المقدس من النسخ حسب التعريف اللغوي:
النسخ لغة هو الإزالة والإبدال، كنسخ الليل للنهار والشيب للشباب والموت للحياة. وهذا التعريف يكشف لنا عن نيات وغايات الطاعنين القائلين بوجود النسخ في الكتاب المقدس. فعدد مجموعة أسفار الكتاب المقدس معروف وهو 66 سفراً مبتدأة بسفر التكوين مختتمة بسفر الرؤيا. وقد ابتدأ الله بذكر الأزلية في بدء الوحي، فذكر الخلق ثم سقوط آدم وحواء وما نشأ عنه. ثم استمر في ذكر التاريخ المقدس بحوادثه تماماً وتفصيلاً لكل شيء من آدم إلى موسى ومن موسى إلى سبي بابل. ثم ذكر نبوات الأنبياء والأشعار الروحية المقدسة إلى عصر ملاخي آخر الأنبياء الموحى إليهم في العهد القديم قبل ولادة المسيح بأربعمائة سنة. فيرى المتأمل في العهد القديم أن كل سفر منه أساس للسفر الذي بعده. ولذا ازدادت الإيضاحات والإعلانات وصراحة النبوات شيئاً فشيئاً إلى أن جاء رجاء العالم، فصار في مقدور الباحث أن يحضر الموضوع الواحد من كل أسفار الكتاب تقريباً.
ولما جاء ملء الزمان تجسد ابن الله مولوداً من عذراء وعاش بيننا 33 سنة ونصفاً كان فيها مثالاً أتم للقداسة السماوية. فتمت في ولادته وحياته وأقواله وأفعاله وموته وقيامته وصعوده وحلول روحه القدوس كل نبوات العهد القديم ورموزه. ثم أرسل الله رسل المسيح بعد حلول الروح القدس فكتبوا العهد الجديد بتاريخه وتعاليمه ونبواته من بدء ولادة المسيح إلى انتشار المسيحية في أهم أركان العالم بين اليهود والأمم حتى دخلت قصر قيصر. وعندئذ أوحى الله إلى يوحنا اللاهوتي سفر الرؤيا التي أعلنت لنا المسيح بجلاله وجماله وجبروته وملكوته وكمال لاهوته، وأنبأتنا بأواخر الأيام ونهاية الخليقة ومجيء المسيح الثاني وأهوال القيامة. وكما ابتدأ سفر التكوين بالأزلية وخلق السماء والأرض وما بينهما، هكذا اختتم سفر الرؤيا بذكر السماء الجديدة والأرض الجديدة بعد أن تنحل العناصر الطبيعية ملتهبةً. وعطّر خاتمة الأسفار بذكر الحياة الجديدة والنعيم السماوي أمام عرش الله وبذكر الأبدية اللانهاية لها. وهكذا نرى علاقة العهد الجديد بالعهد القديم أشد وأقوى من علاقة الروح بالجسد، فلا محل للنسخ بوجه من الوجوه مطلقاً.
إذا تأملنا في العهدين يظهر لنا أن الكتاب المقدس من أوله إلى آخره ضروري لنظام الحياة الاجتماعية والأدبية والروحية إلى يوم القيامة. فحينما أراد الله تعالى أن يعلن لنا أفكاره ويؤكد لنا ضرورة بقاء الكتاب والعمل به إلى نهاية العالم قال بلسان وحيه الأقدس: "كل الكتاب هو موحىً به من الله ونافع للتعليم" (2تي 3: 16). وهذا الإعلان العجيب هادم لفكر النسخ الغريب، قاطع لقول كل خطيب.
2- الكتاب المقدس لم ينسخه كتاب آخر:
بما أن الكتاب المقدس قد ابتدأ بذكر الأزلية والخلق وانتهى بذكر الأبدية والسماء الجديدة والأرض الجديدة، فهو كافٍ شامل لاحتياجات البشر من بدء الخليقة إلى يوم النشور. ومن القضايا العملية الواضحة أن الشيء الكافي الشامل الصالح لا يحتاج إلى شيء آخر يزيله ويحل محله. وقياساً على هذه القاعدة أقول أن الكتاب المقدس نافع للتعليم دون سواه إلى يوم القيامة، ولم ينسخه كتاب ما. ولقد حكم المسيح باستحالة وجود كتاب آخر بعد الكتاب المقدس حتى ينسخه فقال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم.. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 19و20) أي إلى اليوم الأخير. فهل كان المسيح يأمرنا أن نعمل بما أوصانا به في كتابه إلى انقضاء الدهر لو كان الكتاب المقدس سيُنسخ بكتاب آخر؟ وهل يرضى المسيح أن يستمر معنا بدون كتابه؟ وهل يقبل تغيير تعاليمه بما يناقضها وينفي كفارته ويكذب فداءه؟ بالطبع لا- لأنه معنا ما دمنا نحن معه عاملين بوصاياه حافظين كتابه بدليل قوله: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23).
فكل ما يأتي بعد كلام الله لا يكون ناسخاً بل زائداً من الناس. وهذا هو حكم الله على كل زيادة من الناس: "إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب" (رؤيا 22: 18). فليس لنا قول ولا عمل لهدم أفكار المعتقدين بالنسخ إلا ما قاله رَبّ الْمَجْد نفسه: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" (متى24: 35). وقد تأكدنا مما قاله المسيح له المجد أن الكتاب المقدس باق بحرفه ومعناه ما بقيت السماء والأرض، وأن الذي يأتي بعده بشيء خارج عنه يصب الله على رأسه جميع ضربات غضبه الإلهي لأنه تعالى جعل الذين اتبعوا المسيح وحافظوا على ما أنزل الله في إنجيله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وأما غير المؤمنين الذين قالوا أن لهم كتاباً نسخ الكتاب المقدس فهم زائغون عن حق الله من كل وجه، لأنه لم توجد عندهم حجة أو كلمة واحدة تؤيد دعواهم هذه. فإذا نسخت فقرة من كتابهم أو جملة أو قضية وأبدلت بخير منها أو مثلها فذلك حجة عليهم لا لهم، لأن الموحي الخبير لا يمكن أن يصدر أمراً أو نهياً في كتابه الموحى به منه إلا وهو يعلم صلاحيته للاتباع. وأما إذا وضع اليوم مبدأ وغيره غداً أو بعد أسبوع أو شهر أو سنة مثلا، فقد دل ذلك على جهل الواضع بما سيحدث في المستقبل. فلو فرضنا وامتدت حياة الموحي إليه مائة سنة أخرى، فمن يعلم إذا كانت قد بقيت قضية واحدة من قضايا وحيه على أصلها أم نسخت مثنى وثلاث ورباع؟ فالمؤلف البشري يعتني بما يضعه في كتابه لكي لا يضطر إلى تغييره ولو بعد سنين، فكم بالحري خالق البشر؟ فالقول بإباحة النسخ دليل على الارتباك والجهل بما سيحدث في المستقبل، أجارنا الله.
3- الكتاب المقدس لم ينسخ بعضه بعضاً:
لقد ظن بعض العقليين العصريين أن النسخ الجزئي قد حدث في الكتاب المقدس. فقال بعضهم أن العهد الجديد نسخ العهد القديم، لأن العهد القديم عهد النواميس الطقسية الخ ولأن العهد الجديد عهد النعمة والمحبة. ونحن نقول أن النعمة والمحبة قد غرست بزورهما في العهد القديم، وتم نموهما في العهد الجديد[4]. ونقول أن المحبة والنعمة أمران ثابتان في العهدين معاً، كما أن أحكام غضب الله على الأشرار ثابتة في العهدين معاً كذلك بلا فارق، لأن العهدين كتاب واحد صادر من الإله الواحد. وإذا أردت أن تعرف قيمة مراحم الله في العهد القديم فانظر (أشعياء 49: 14و15و 54: 7 -10 و55: 1-7 ومز27: 10 و130: 3-8 وارميا 31: 20وحز 18:31و32 وهوشع 11: 8). وإذا أردت أن تعرف قيمة غضب الله في العهد الجديد، وأنه لم يذكر الرضى إلا بجانب الغضب، ولم يذكر الحياة إلا بجانب الهلاك فانظر (يوحنا 3: 16-18و36 ورومية 5: 20و21و6: 23 الخ) مثلاً. وهذا نموذج صغير، فضلاً عما هو موجود في سفر الرؤيا الذي بنى على شرح أنواع عقوبات العاصين الرافضين ومثوبات الطائعين التائبين السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح وتفصيل ما يتبع العقوبات من الأهوال والمثوبات من حسن المآل. فلا فرق بين العهدين من هذه الوجهة. وليس أحدهما ناسخاً للآخر لأن نسخ الشيء معناه الحكم بصلاحية الناسخ وعدم صلاحية المنسوخ، وأن واضع الناسخ أبعد نظراً من واضع المنسوخ. وعندنا، نحن المسيحيين، أن واضع العهدين واحد هو الإله الواحد الحكيم الخبير العليم الذي يضع الشيء بحكمته وعلمه، فلا يحتاج إلى شيء آخر ينسخه. فكل أسفار العهدين مظهرة رحمة الله وفداءه لأنها حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين على الدوام، ولأن القسم الأول من الكتاب المقدس يسمى العهد القديم لأنه عهد طقوس ورموز وإشارات ونبوات والقسم الثاني منه يسمى العهد الجديد لأنه عهد تحقيق لما فات وإيضاح لما هو آت. فالعهد القديم عهد الناموس، وهذا الناموس أنواع.
(النوع الأول) الناموس السياسي: وقد دعي الناموس السياسي شريعة الملك، فكان الملك ملزماً أن يمشي عليه كما عينه الله ما دامت المملكة قائمة في إسرائيل. نعم، أن الناموس السياسي تم في شخص ملك الملوك ورب الأرباب ربنا يسوع المسيح؛
ولكن هذا الناموس السياسي ظل ويظل معمولاً به في الممالك المسيحية وغيرها من الممالك النظامية إلى اليوم الأخير. فلا يقال لإتمام الناموس السياسي في الملك الذي ليست مملكته من هذا العالم "نسخ" بل "كمال وإتمام".
(النوع الثاني) الناموس الأدبي: الناموس الأدبي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على المحافظة على أوامر الله ووصاياه. وهذا الناموس لم ينسخ بل كُمل في المسيح الذي قام بكل مطاليب الشريعة دون سواه. ومما يدل على عدم نسخ الناموس الأدبي أن المسيح نفسه، له المجد، حينما سُئل من الناموسي عن أعظم وصية في الناموس قال: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (متى 22: 34 -40) وهذا لا ينسخ أبداً.
(النوع الثالث) الناموس الرمزي: الناموس الرمزي هو شريعة الأمة، أعني بها الهيكل بطقوسه وذبائحه وكهنته. نعم، كان اليهود يواظبون على الصلوات في الهيكل؛ ولكن المسيح الآن هو هيكلنا الذي نعبد الله فيه دائماً.
وكانوا يقدمون الذبائح الصباحية والمسائية واليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية؛ ولكن المسيح هو ذبيحتنا الدائمة الذي قدم نفسه للفداء مرة واحدة للتكفير عن خطايانا لننال به نصيباً مع المقدسين. وكانت الذبائح تقدم إلى الرب بأيدي الكهنة؛ والآن لنا كاهن سماوي أعظم، هو الرب يسوع المسيح، الذي لم يدخل قدس الأقداس السماوي إلا بدم نفسه لمغفرة خطايانا وكهنوته لا يزول. فالناموس الرمزي أدّ بنا وأدّى بنا إلى المسيح المرموز إليه بالهيكل والذبيحة والكاهن معاً. وإتمام الرموز في المرموز إليه لا يسمى نسخاً بل إتماماً. فلو كان العهد الجديد قد نسخ العهد القديم لقال المسيح "قد نسخ". ولكنه لم يقل ذلك بل قال "قد أكمل" وبعد هذا "نكس رأسه واسلم الروح" (يو 19: 30). وهذا وصول إلى النعمة لا إلى النسخ. فنحن نعتبر الكتاب كله كتاباً واحداً ووحي الله الثابت بلا تغيير. ونكتفي هنا بإيراد هذه الأنواع الثلاثة، ولكننا نؤيدها بالملاحظات الآتية:
إن الأعمال التي أتاها الآباء قبل وجود الشريعة وظهورها على يد موسى النبي لا تسمى هذه الشريعة ناسخة لها لا كلياً ولا جزئياً لأن الآباء عملوا بالاجتهاد الإلهامي لا بالوحي المكتوب. ولا يمكن أن تسمى أعمال الآباء من آدم إلى أيام موسى شريعة أو شرائع البتة. فلو فرضنا وكان كل أمر أو نهي في الشريعة الموسوية ناسخاً لما كان قبل شريعة موسى في شرائع الآباء المزعومة لكانت العرافة والعيافة واستخدام الجان والتوابع والتنجيم وما أشبه ذلك محسوبة من شرائع أولئك الآباء الذين سبقوا موسى. وهذا لا يقول به عاقل في الوجود.
إن عجز البشر عن القيام بواجبات الناموس الرمزي لا يسمى نسخاً لأن المسيح جاء فقام بما عجزنا نحن عنه، لأنه كاهننا الأبدي الدائم. فمثلاً أمر الله بذبح اسحق، ولكنه رحمه فقدم كبشاً عوضاً عنه. وهذا هو أنموذج إتمام الأوامر لا نسخها. لم يأمر العهد الجديد بمنع الختان ولكنه أمر أن يفهموا الغرض منه فيختنوا قلوبهم لأن الاقتصار على تأدية الطقوس الخارجية مضيع للنعمة الباطنية. ولما كان المسيح الذبيحة الدهرية قد قدم نفسه مرة واحدة فقد أكمل التمييز بين الحيوانات لأن الغرض تم في المسيح ذاته، فضلاً عن كون أوامر العهد القديم كانت لشعب خاص وكون أوامر العهد الجديد صدرت لجميع الأمم في العالم أجمع. فلا ناسخ ولا منسوخ فيها كلها بدليل قول الرسول: "كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافق".
أن الله تعالى يَعد عباده الطائعين بمواعيده المفرحة. فإذا عصوه وارتكبوا كل أنواع المحرمات فجردهم مما كان لهم جزاء عصيانهم فهل يسمى هذا نسخاً؟ أليس الأفضل والموافق لحقائق الوحي الشريف أن يسمى هذا التجريد عقاباً؟ فأنتم ترون من كل هذا أن النسخ غير موجود وغير مقبول، وأن وحي الله بريء منه براءة النور من الظلمة والطهارة من النجاسة والحق من الباطل.
لقد أتممنا بنعمة الله واجب الباب الأول بإثبات ثلاث حقائق تمهيدية وهي:
1- وجود الله سبحانه وتعالى
2- ضرورة الوحي وصحة الكتاب المقدس
3- سلامة الكتاب المقدس من النسخ.
ولنتقدم الآن إلى الباب الثاني الذي يحتوي على موضوع التلميحات والظهورات في الأسفار الموسوية والتاريخية. والله لنا نعم المعين.
[1] - أي تابع داروين صاحب نظرية "النشوء" المشئومة التي تقول أننا معشر بني آدم أصلنا القردة!
[2] - وهذا القياس ينطبق على المخلوقات المادية التي خلقها الله، وأما الروحيات فلها قياس آخر حسب القواعد اللاهوتية. فانتبهوا.
[3] - نعم قد يقع من المطر في الأرض مثلاً في بضع سنوات أقل مما هو لازم للزراعة الخ. لكن ما هو السبب يا ترى؟ - إذا عرف السبب بطل العجب - فاعلم أن السبب مذكور بل ومشروح بإيضاح في سفر تثنية الاشتراع 11: 13-17 حيث نقرأ قوله تعالى "إذا سمعت لوصاياي.... أعطي مطر أرضكم في حينه"، وإلا فلا. تأمل في هذا واحترس.
[4] - قال بعضهم عن علاقة العهد القديم بالجديد: "الجديد اختبأ في القديم- القديم استعلن في الجديد"
- عدد الزيارات: 5309