Skip to main content

إثبات وجود الوحي وضرورته وصحة الكتاب المقدس

الحقيقة الثانية

في الحقيقة الأولى أتثبتنا وجود الموحي وهو الله خالق الأكوان. وفي الحقيقة الثانية نتقدم إلى إثبات وجود الوحي وصحة الكتاب المقدس الذي نستمد منه براهيننا أو أفكارنا دون غيره، لتكونوا على بينة من أمره، ولتعلموا أننا لا نستند إلا على براهين ساطعة، وحجج قاطعة، وأمور واقعة، أعلنها الله وآمن بها الناس. وتأكدوا أن الله هو أصل جميعها، وأنه هو الذي شاء فأعلنها لرجاله الأنبياء تدريجاً حسب اللزوم. ولهذا فها نحن نأتيكم بما يؤكد لكم أن الكتاب المقدس وحي حق إلهي، وأن وحيه صحيح لا ريب فيه، لعلكم به تؤمنون، وله تخضعون.

وقد قسمنا أدلتنا إلى فطرية، وخارجية، وداخلية.

أولاً: من الأدلة الفطرية على صحة الكتاب المقدس ما يأتي:

من البين لكل مفكر أن المعرفة العقلية، مهما سمت، لا تصل إلا إلى معرفة الفرق بين الأزلي والحادث، والى أن الخالق موجود، والى أنه هو وحده خلق الخلق بلا شريك في عمله ولا في ملكه. ولكن صفات هذا الخالق وغايته ولماذا خلق الخلق - كل هذه أمور لا يمكن لمخلوق ما أن يصل إليها مهما سمت مداركه وارتقت مباحثه وامتدت آراؤه. ولذا فنحن في أشد الاحتياج إلى وحي من الإله الأزلي ليعلّمنا ما يأتي:

1- إننا محتاجون إلى وحي سمائي ليعلّمنا عن سمو ذات الله الذي أوصلتنا عقولنا إلى الاعتراف به والإيمان بوجوده، وليعلّمنا عن مخالفة ذاته تعالى للحوادث وأنه إله متفرد بالبقاء، ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير، وأنه باقٍ حي خفي لا يفنى ولا يرى، وليظهر لنا جلاله وبهاءه (خروج 19: 14-20).

2- إننا محتاجون إلى وحي سمائي ليعلّمنا عن المعلنات السمائية التي بواسطتها نفهم مبادئ وقوانين معاملة الله للإنسان، ومعاملة الإنسان لله، ومعاملة الإنسان لأخيه الإنسان، وليعلّمنا كيف يتصرف الإنسان في ما حوله من النباتات والجمادات والسوائل والطيور والحيوانات بما يعود على الهيئة الإنسانية الاجتماعية من المنافع العامة، وبتمجيد الخالق المانح لهذه العطايا كلها (مز 19: 1 ومز 115).

3- إننا محتاجون إلى وحي سمائي ليعلّمنا عن كمال الطبيعة البشرية مبدئياً حين خلق الله أبوينا الأولين آدم وحواء ووضعهما في جنة عدن، وليعلّمنا عن نقص الطبيعة البشرية ذاتها من حين سقوط آدم وحواء ورفضهم لطاعة القدوس صاحب الحنان إلى عبودية الشيطان وطردهما من جنة عدن، وليعلّمنا عن استمرار هذا النقص والفساد من يوم السقوط إلى الآن بل إلى نهاية العالم ما دام مولود المرأة يدرج على ظهر البسيطة بدمه ولحمه وعظمه وجلده (تك 6: 5 و8: 21).

4- إننا محتاجون إلى وحي سمائي ليعلّمنا أن نقص الطبيعة البشرية وفسادها قد أدى بجميع البشر إلى الهلاك الأبدي المحتم، وأن الناموس أغلق على الجنس البشري أجمعين تحت الخطية التي حبلت ثم ولدت موتاً أبدياً (يعقوب 1: 15)

5- إننا محتاجون إلى وحي سمائي ليظهر لنا قيمة محبة الله للبشر بإعلانه طريق الخلاص في نبوات أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم أولا، وبإعلانه تجسد “رَبّ الْمَجْد” ثانياً، وأعني به سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي بتجسده العظيم حل المجد في أرضنا، والذي به ظهر الكلمة في الجسد بسر عظيم فائق الإدراك، والذي به تم الفداء المجيد بآلامه وصلبه وموته، والذي به تم التبرير بقيامته المجيدة وصعوده المبارك وجلوسه عن يمين عرش العظمة في الأعالي، والذي ليس بأحد غيره الخلاص: "من آمن واعتمد خلص" (مرقس 16: 16) .

ثانياً: من الأدلة الخارجية على صحة كتاب الله المقدس ما يأتي:

1- إن تواتر الكتاب المقدس من أيام كتابته سفراً فسفراً، وثباته في موقفه الجليل بين الله والناس، وثباته كما هو منذ وجوده إلى هذا اليوم على رغم أنوف رؤساء القوات الإبليسية الذين وقفوا في وجهه وقفات هائلات في مواقف تاريخية مشهورة، حتى أن بعضهم، مثل انطيخوس الرابع، أمر بإبادة كل نسخة من نسخ الكتاب، وبإلزام جميع اليهود بعبادة الأصنام عموماً وصنم المشتري خصوصاً، وبقتل كل من يتمسك بعبادة الإله الحي، وأمثاله من ملوك اليونان وملوك الرومان الذين أرادوا ملاشاة هذا الكتاب ليخلو الجو لوثنيتهم - كل هؤلاء وأولئك جاهدوا ضد الكتاب المقدس بكل وسيلة لئيمة وفظيعة وغير مشروعة - ومع كل هذا فقد عاد الكتاب المقدس من كل هذه الميادين الدموية فائزاً منصوراً لأنه هو الكتاب الوحيد الذي قد جردت عليه سيوف أقوى المحاربين المجرمين، وأقلام فصحاء وسفهاء الكاتبين. ومع هذا فلم تزده الوقائع كلها إلا ثباتاً على ما هو عليه كما هو بأسفاره وفصوله واعداده وجمله وكلماته وحروفه ونقط حروفه بلا نقص ولا زيادة، ولم تزده المحن إلا نشاطاً وانتشاراً بين الناس، على اختلاف قبائلهم وشعوبهم، بكثير من اللغات. وها هو شاهد عيان، كما ترونه الآن.

2- أنه لا يوجد في العالم أجمع كتابٌ يضارع هذا الكتاب المقدس في تأثيره على الأفكار والأفئدة لأنه هو الكتاب الوحيد الذي به أصلحت القلوب، وكشفت الكروب، أعلنت وسائط مغفرة الذنوب، وارتقت الآداب، وانتشرت المدنية الحقة بين جميع الناس، مهما اختلفت العادات والأجناس.

3- أنه هو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم يرَ علماءُ الاجتماع وشعراء العالم كله خيراً منه ولا مثله. ولذلك فقد فضلوه على سائر مؤلفات العالم، واقتبسوا منه في مؤلفاتهم ورواياتهم وأشعارهم وتاريخهم، حتى أن جميع الآباء الكرام الذين هم آباء البيعة الأولون ذكروا في مؤلفاتهم بلا ترتيب وعلى غير قصد منهم كل آيات الكتاب شغفاً به وبروحه وبأهميته وبضرورته لحياتهم ولحياة أتباعهم دنيوياً وأخروياً، حتى أن الذي يريد أن يجمع الكتاب من وسط هذه المؤلفات الروحية يمكنه أن يفعل ذلك. وهذا من الأنواع التي بها حفظ الله كتابه وهو خير الحافظين.

4- أن جميع الآثار والتاريخ والاكتشافات شهادات ناطقة بصحة الكتاب المقدس، وبصحة نسبته التاريخية تماماً. وكل المستندات الأثرية والتاريخية المحفوظة في متاحف لندن وأورشليم وبرلين وإرلندة وباريس وواشنطن وغيرها من المتاحف تثبت للملإ أجمع أن الكتاب المقدس جاء بالحقيقة في الأعصار التي عينت تأريخياً لكل سفر من أسفاره لأن اصطلاحات كل كاتب من كتبة الأسفار الملهمين وافقت العادات والاصطلاحات السائدة في العصر المنسوب إليه بالتمام.

5- إن وجود النسخ الخطية القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل ميلاد المسيح رب المجد شهادة حية ناطقة ضد الذين قاموا بعد هذا التاريخ بمئات من السنين وادعوا تحريف الكتاب المقدس وتبديله، وشهادة محسوسة ملموسة على أن الكتاب المقدس أعلى من أن تتناوله أيدي الغايات الدنيئة لتغيير ما جاء فيه، إن كنتم بالأدلة تتعظون.

6- إن من أهم القوانين الصارمة التي سنها معلمو إسرائيل وفرضوها على كتبة الناموس (الذين هم نساخ الوحي) ما جاء فيها بالحرف الواحد: "قبل أن تنسخ كلمة واحدة من كلام الله يجب عليك أن تغسل جسدك كله، وتلبس الثياب العبرانية، وتجهز نفسك بالأفكار الخشوعية. وأما الرقوق التي تكتب عليها فيجب أن تكون من جلود الحيوانات الطاهرة شرعاً. وكذلك الحبر الذي تكتب به يجب أن يكون أسود نقياً مجهزاً من خليط الكتن "أي الهباب" والكربون "أي تراب الفحم البلدي" والعسل. ومع أنك تعرف، بل تحفظ كتاب الوحي قلبياً، فلا تكتب كلمة واحدة من ذاكرتك. ارفع عينيك إلى نسختك، والفظ الكلمة بصوت عال قبل أن تخطها. وقبل أن تكتب اسماً من أسماء الله يجب عليك أن تغسل قلمك. وقبل أن تكتب اسم الله الأعظم يجب عليك أن تغسل جسدك كله. وبعد النهاية من نسخ نسختك إذا وجدت فيها ثلاث غلطات فيجب عليك أن تعدم تلك النسخة".

7- قد فرض أيضاً على كل ناسخ كاتب من كتبة الشريعة أن يعدّ أحرف كتابه، وفرض عليه أن يعرف كم حرفاً من كل نوع سيكتب في الصفحة الواحدة قبل أن يبتدئ فيها بالكتابة، وفرض عليه أن كل صفحة من الرقوق تكون سطورها مساوية للأخرى وأن كل سطر يكون ثلاثين حرفاً. وفرض على كل من لا يقدر على القيام بهذه الواجبات أن يذهب من بين نساخ الوحي الإلهي.

8- ولقد استمر كتاب الله باقياً في الوجود كما هو على رغم أنوف المضطهدين له. ونذكر، على سبيل المثل، أن أنطيخوس الرابع المار الذكر حينما حاصر أورشليم بفيالقه آمن أهلها فسلموا إليه وفتحوا له الأبواب. ثم غدر بهم وذبح الجميع ذبح الأغنام. وصوبت جيوشه الأسلحة إلى باب الهيكل ليلاً ونهاراً، ومنعوا العابدين من الصلاة لله بأوامر قيصرية، وألزموا كهنة الرب بأكل لحم الخنزير والذبح للأوثان في الهيكل على مذبح الرب. وأصدر أوامره المشددة بإتلاف جميع نسخ التوراة إتلافاً تاماً عاماً وهدّد كل من يحفظ نسخة منها بالموت. وفعلاً تمت هذه الأوامر ليس في أورشليم فقط بل في جميع بلاد اليهودية أيضاً حتى صار الكتاب في خطر الفناء التام. وفي تلك الأيام وصلت رسل هذا الملك إلى بلدة " مودين " من البلاد اليهودية بهذه الأوامر، وكان فيها كاهن شيخ مع أبنائه يدعى متتيا. فجاء إليه هؤلاء الرسل وأمروه بلسان الملك أن يذبح للمشتري هو وأبناؤه وإلا فإنهم يذبحونهم ذبح الأغنام. فصرخ الكاهن متتيا في وجوههم بشدة، وشهد للرب إلهه واله آبائه. ثم التفت فرأى يهودياً جباناً خاف من مخالفة أوامر الملك الفاتح فتقدم ليذبح للمشتري، فغار الكاهن غيرة للرب وقتل اليهودي الخائن الجبان، وقتل رسل الملك ونادى في مودين بصوت عال قائلاً: من كان يحب الرب الإله الحي فليتبعني. وركض إلى محلته فوق قمة الجبل واعتصم فيه، واجتمع حوله المؤمنون هناك، فصار رئيساً لجيش صغير ولكنه قوي جداً. وابتدأ يشن الغارات على جماعات الوثنيين ويطاردهم من بلدة إلى بلدة، ويطهر البلاد شيئاً فشيئاً حتى كبر جيشه ووصل إلى أورشليم. فهاجمهم فيها ودحرهم وطردهم وطهر الهيكل وهدم مذابح الأصنام. ثم جمع النسخ الباقية التي كانت مخبوءة عند أصحابها من جميع بلاد اليهودية بكل إجلال واحترام، وأمر النساخ أن يشتغلوا بنسخها كما كانوا يفعلون قبلاً وكما هي حرفاً حرفاً، ففعلوا. ولم يمضِ غير قليل حتى انتشر الكتاب ثانية بسرعة أدهشت العالم أجمع، وأعادت المياه إلى مجاريها على رغم قوات الظلمة لأن النور يدرك الظلمة والظلمة لا تدركه.

9- ولقد ورد في كتاب (برقي أبهوث) العبراني ما معناه: "نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء، واستودعها موسى إلى يشوع، وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل، وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء، وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم (مجمع اليهود الأعظم) الذي أسسه نبي الله وكاهنه عزرا بقصد المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. فوضع المجمع ثلاث وصايا:

(الأولى) " احترس في القضاء ".

(الثانية) " علم كثيرين ".

(الثالثة) " كن حصناً حصيناً للتوراة ".

وفرض المجمع هذه الوصايا الثلاث على كل فرد من أفراد الشعب ثم قام سمعان العادل، أحد خلفاء المجمع، فقال كلمته المأثورة وهي: "العالم قائم على ثلاثة أعمدة: التوراة والعبادة والعمل الصالح". وورد في كتاب التلمود أيضاً أنه بعد نهاية السبي البابلي أعاد المجمع الأعظم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم، تحت رئاسة عزرا النبي والكاهن. وهذا يدلكم على عظم المحافظة على صحة الكتاب المقدس محافظةً لا مزيد عليها، قديماً وحديثاً، إلى الآن، بل إلى اليوم الأخير.

10- أن كثرة اللغات واختلافها، وتباعد أعصار الترجمات عن بعضها مع موافقة المعاني لبعضها في كل كلمة من كلمات الكتاب المقدس، من أكبر الأدلة على صحته الكلية.

11- أن قرارات المجامع المسكونية المسيحية الخاصة بقانونية أسفار الكتاب المقدس سفراً فسفراً من أعظم الشهادات الناطقة في تاريخ الكنيسة على أن هذا الكتاب صحيح وحق لا ريب فيه، وأنه ملحوظ بعيني الله القادر على كل شيء.

12- قد وجدت صفائح آشورية في خرابات نينوى ونقلت إلى المتحف البريطاني مكتوبة من قبل ظهور موسى بأجيال كثيرة، وفيها ذكر قصة الخلق وظهور أبوينا الأولين وسقوطهما، وقصة فلك نوح والطوفان، وقصة بناء برج بابل وبلبلة الألسن. ووجد أيضاً في معرض المتحف البريطاني عمود بابلي أثري قديم جداً وقد رسمت فيه صورة تمثل أبوينا الأولين آدم وحواء والشجرة بينهما والحية خلف حواء تغريها على الأكل من الشجرة حسب النصوص المذكورة في سفر التكوين في مواضع هذه الحوادث تماماً. وهذا دليل على صحة الكتاب المقدس. وكذلك وجد لوح في خرابات أشور ذكر فيه خراب سدوم وعمورة بالنار والكبريت، كما هو مذكور في سفر التكوين. ووجدت كذلك آثار شهدت بصحة أخبار غزوة كدر لعومر ملك عيلام وحلفائه في فلسطين، ومن جملتهم امرافل ملك شنعار وجنوب بابل كما في التكوين. وكل هذا دلّ على صحة وحي الكتاب المقدس.

نعم أن هيرودتس الروماني وبلوطارخ اليوناني المؤرخين الكبيرين الوثنيين قد اتفقا في تاريخيهما على انتقاد رواية موسى النبي في سفر التكوين عن وجود خمر العنب في مصر أيام يوسف الصديق، وقالا أن هذه الرواية برهان على عدم صحة التوراة. ولكن الله القدير صاحب التوراة قاد خطوات المكتشفين الأثريين حتى عثروا على أطلال وقبور مصرية قديمة جداً يرجع تاريخها إلى ما قبل يوسف بعشرات الأجيال. ووجدوا على حيطان هذه القبور صوراً منقوشة ومحفورة تصف شجر العنب من غرسها كبزرة في الأرض إلى نقلها وتعهدها إلى أثمارها ونضج ثمرها إلى جنيه إلى عصره ووضع خمره في الآنية إلى صبه في الأقداح وشربه. وفعلاً اكتشفوا في تلك القبور زجاجة من عصر بناء هذه القبور المذكورة مكتوب عليها بالخط الهيروغليفي كلمة واحدة تنطق (إرب) وترجمها المكتشفون فوجدوا معناها (خمر). وهذا برهان على كذب هذين الوثنيين المفتريين على الناس بلا دليل ولا برهان! بل هذا حجة قاطعة على صحة الكتاب المقدس. وكذلك وجد هؤلاء المكتشفون من الآثار ما دل حقيقة على حصول الجوع الشديد في أرض مصر زمن يوسف حسب نص التوراة تماماً، الخ الخ.

13- وأيضاً الحجر الموآبي الذي وجد في الآثار محتوياً على 30 سطراً بالحروف الفينيقية. فقد تكلمت هذه السطور عن حروب ميشع ملك موآب مع يهورام ملك إسرائيل (كما هو مذكور في 2 ملوك 3: 6-27) وضد الأدوميين أيضاً. ولو شئنا لطال بنا المدى في هذا الباب. فلنكتف.

14- ولإقناع إخوتنا المسلمين  نقول إن القرآن شهد بصحة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد شهادة واضحة بقوله: "يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل الخ- إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور- وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه الخ" وغير هذا كثير لو تذكرون.

وعلى هذه البراهين كلها أقول أن الكتاب المقدس هو كتاب الله الصحيح، ووحيه الصريح، لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه باطل.

(ثالثاً) الأدلة الداخلية على صحة الكتاب المقدس (أي ماذا يقول الكتاب عن نفسه)

1- أن جميع أسفار الكتاب المقدس ومواضيعه متآلفة المباني، مترابطة الأسلوب، متحالفة المعاني، مع تفاوت درجات معارف الكتبة الملهمين، ومع كثرة أنواع البواعث الدالة على ظهور أسفار هذا الكتاب المبين. بل مهما تنوعت الأحوال، فلا تؤدي جميع أسفار هذا الكتاب إلا إلى وحدة المآل.

2- لما أراد هؤلاء الأنبياء الملهمون أن يمجدوا لله في كتابة أسفارهم أنكروا أنفسهم، ولم يجعلوا في أعمالهم فخراً لأنفسهم. حتى أن النبي منهم كان يحاول إفناء ذاتيته في الله عند الإشارة إلى نفسه، بدليل ما جاء عن لوقا الطبيب أنه قصد نسبة الفضل في تأليف بشارته إلى غيره بقوله: “كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة” (لو 1: 2)، وبدليل ما جاء عن بولس أنه قصد الاتضاع وإنكار النفس في أمجد أقواله عن إعلانات الرب له: "إنه لا يوافقني أن افتخر. فإني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته. أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم، الله يعلم، اختطف هذا إلى السماء الثالثة. وأعرف هذا الإنسان أنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2 كو 12: 1-4).

3- أن صحة الكتاب واضحة كالشمس لأن أسفاره يفسر بعضها بعضاً بلا أدنى مناقضة، ولما فيه من التأديب الرباني والسمو الروحاني، ولما فيه من التصريحات الجلية المعبرة عما هو داخل قلب الإنسان وعما هو كامن في أفكاره. حتى أن الإنسان لا يمكن أن يعرف ما هو داخل قلبه وفكره شخصياً إلا من قراءة فصول الكتاب المقدس (تكوين 6: 5 و8: 21 ومزمور 56: 5 وتث 29: 29 ورسالة رومية).

4- أن المسيح، له المجد، لفت أنظار مقاوميه إلى تفتيش الأسفار المقدسة ليتأكدوا أنه هو رَبّ الْمَجْد الآتي لأجل خلاص العالم. ولذلك قال لهم: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي” (يو 5: 39).

5- أن الكتاب المقدس ذاته شهد لنا على أنه موحى به من الله لأننا نرى فيه أن الله خاطب موسى وأمره بتأليف كتابه ففعل كما أمر.

ونرى في أسفار الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى أمثال هذه العبارات: "هكذا يقول رب الجنود" "وكانت كلمة الرب إلى النبي" "هكذا تكلم الرب... قائلاً اكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر" الخ.

6- أن فاعلية الكتاب المقدس في قلوب قارئيه سعياً وراء الحق، ولو كانوا من غير المؤمنين، وسلطانه المطلق الذي خضعت له مئات بل ألوف الملايين على مر الأيام والسنين، وجلال عباراته التي تلزم القارئ بالوقوف في موقف الخشوع والإكرام والاحترام لما يستولي على فؤاده من آي المهابة والإجلال - لهي أدلة على أنه وحي من الله السميع العليم، وأنه صحيح سليم.

7- أن الكتاب المقدس دستور كامل لكل فرع من فروع حياة البشر عموماً، والمؤمنين منهم خصوصاً، لأن كل إنسان يرى فيه كل ما هو في احتياج إليه في السر والنجوى من أنواع الإرشادات والنصائح والتحذيرات والإنذارات.

8- أن الكتاب المقدس هو كلمة الله التي قيل عنها في الرسالة إلى العبرانيين 4: 12 "لأن كلمة الله حيّة وفعالة وامضى من كل سيف ذي حدّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته". بل هو السلاح الكامل وسيف الروح الذي أشار إليه الرسول بولس (افسس 6: 11-17). وهو الذي تسلح به سيدنا المسيح نفسه يوم التجربة في البرية ضد إبليس ليعلّمنا أن لا نحارب الشيطان إلا به لننتصر، وذلك بقوله "مكتوب" ثلاث مرات.

9- أن الكتاب المقدس لم يكتب حسب رغبة فلان أو فلان، أو حسب رغبة الكاتب وتبعاً لأهوائه، بل كتب كله بإلهام الله وأمره، بدليل شهادة الرسول القائل: "لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بطرس 1: 21).

"كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً ومتأهباً لكل عمل صالح" (2تي 3: 16و17). "لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات" (1كو 2: 13). "كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لوقا 1: 70). "فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك أعلمك ما تتكلم به" (خروج 4: 12). "هكذا تكلم الرب... قائلاً. اكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر" (ارميا 30: 2).

10- أنه هو الكتاب الأوحد الذي أعلن الله فيه افتتاح طريق السماء، وعقد معاهدة الصلح بينه وبين الإنسان وختمها بدم يسوع المسيح، ومقدار التنازل الإلهي لأجل خير البشر أجمعين بلا فرق بين جنس وجنس وأمة وأمة.

وهذه البراهين الفطرية والخارجية والداخلية كلها تؤكد لنا صحة الكتاب، وضرورة الاعتماد على نصوصه في موضوع كتابنا هذا. وأن هذا الاعتماد له المقام الأول لأنه لا يمكن لبشر أن يعترض على الوحي إلا إذا كان معترضاً على الموحي به والحفيظ عليه. فهل أنتم بهذا مقتنعون؟

  • عدد الزيارات: 9074