في إثبات وجود الله
الباب الأول
حقائق تمهيدية
الحقيقة الأولى
ليس لنا أن نقدم لقراء كتاب “رَبّ الْمَجْد” شيئاً عن الله أو عما يختص بالله أو عن أي موضوع من المواضيع المتعلقة بلاهوت رَبّ الْمَجْد إلا إذا بدأنا بإثبات وجود الله قولاً وعملاً بأدلة قاطعة لا تقبل جدلاً لكي يستنير المعترفون، ويخزى الذين هم لوجود الله منكرون.
إن الله سبحانه وتعالى دَق خفاؤه عن الإفهام فلا يمكن لبشر أن يدرك كنهه تعالى مهما أوتي من الدرجات العلى حتى قال بعضهم:
العجز في طلب الإدراك إدراك
والبحث في عين ذات الله إشراك
فالله خفيّ عن عقول المنكرين الجاهلين الذين ادعوا العلم وهم عنه مبعدون بمقدار ما هو ظاهر بآياته المتجلية في مخلوقاته أمام أبصار وبصائر الباحثين عن الحق بالإخلاص، ذوي النيات الحسنة والطوايا السليمة، والغايات القويمة، والآمال المستقيمة. وعلى هذا فأمامنا صنفان من الناس، أحدهما منكر لله ومؤله للطبيعة، وثانيهما مؤمن بالله مبرهن على صحة إيمانه بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، والقضايا العملية، والنظريات المؤيدة. فبينما نرى الفريق الأول، فريق الإنكار، متخبطين في دياجير الحيرة، متوكئين على عكاكيز الزيغ والضلال والبغي، جادين في سبل تحبيذ الكفر الشنيع، متوهمين أن الطبيعة دائرة حول نفسها بلا مدبر، موجودة بلا موجد، لا بداية لها ولا نهاية، وأنه لا آدم ولا قيامة، نرى كذلك الفريق الثاني، فريق الاعتراف بحقائق الحقائق، باحثين في الجلائل والدقائق، واصلين بأبحاثهم ودروسهم وتأملاتهم إلى صخرة الإيمان، آمنين من الغرق في محيطات الكفران، ثابتين على الاعتراف، سالكين سبيل الإنصاف، داعين إلى الحق بلا خلاف، صارفين النظر عن كل متدرون[1] وقع في هاوية الإتلاف. وها نحن نأتيكم بأقوى الأدلة، لتعرفوا الحق اليقين.
أدلة من البحر والبر:
1- قيل أن ملكاً كافراً أرسل وراء أسقف مدينته المسيحي، وحكم عليه أن يريه الله الذي يؤمن به ويعبده ويدعو إليه إذا كان صادقاً في دعواه، وأن لم يفعل فإنه لا محالة من المقتولين. فوعده الأسقف أن يريه الله مرتين لا مرة. ثم جاء الأسقف إلى الملك في يوم كثرت أنواؤه، وهاجت زوابعه، وأنهمرت أمطاره، فأخذه ليريه الله إتماماً للوعد. فأنزله في سفينة صغيرة، وسار به فوق أمواج المحيط إلى الأعماق، فصارت السفينة كريشة ضئيلة في مهب الريح تعلو وتهبط وتميل إلى الماء كثيراً حتى كادت تنقلب بهما مراراً، وصار الماء يتسرب إليها، فانزعج الملك خوفاً على حياته، وجزع جداً، وصار ينتفض من الخوف والبرد والماء. وتضرع إلى الأسقف أن يعيده إلى الشاطئ لأن الموت غرقاً صار منه قاب قوسين أو أدنى. فنظر إليه الأسقف نظرة أسد وقال: يا سبحان الله!! ألا تقدر، يا جلالة الملك الأعظم، أن تؤثر على نسمة صغيرة من نسمات الله فتسكتها حتى تراه؟ فأين جلالك أمام جلاله؟ ألا تقدر أن توقف المطر فلا ينزل من السماء حتى لا تبتل ثيابك الملكية؟ ألا تقدر وأنت الملك المطاع أن تأمر البحر فيهدأ، والريح فيسكت، والسفينة فتعتدل وتشق بك عباب الماء فوق متون هذه الأمواج العالية؟ ألا تقدر أن تصبر على هذه الحال حتى ترى الله جيداً حسب أمرك؟ فقال الملك: "إذا كانت هذه نسمة من نسمات الله فكيف تصير الحال إذا غضب؟ لقد ضعفت وأنهزمت جداً الآن، فلا أقدر أن أحتمل سماع هزيم الرعد، ولا صفير الريح، ولا تلاطم الأمواج التي هي كجبال تتلاقى، ولا انهمار الأمطار فوق سطح البحار. ولا أطيق رؤية الماء يتسرب إلى سفينتنا. فعد بي سريعاً، أيها الأسقف، إلى الشاطئ عسى أن نصل إليه ونحن على قيد الحياة. ودع هذا الأمر إلى أيام الصيف". فعاد به الأسقف الماهر في فن الملاحة إلى الشاطئ بين تلاطم الأمواج بكل صعوبة، ووصلا إلى ميناء السلامة.
وفي وسط أيام الصيف أرسل الملك وراء الأسقف فحضر. فأمره بإنجاز وعده، فأجاب بالسمع والطاعة. وأخذه إلى جبل عال أجرد وقت الظهيرة، وقال له: افتح عينيك، يا أيها الملك، وارفع نظرك وثبته جيداً في قرص الشمس المتوهجة لكي ترى الله. ففعل الملك، ولكنه ارتد في الحال كليل الطرف كثير الدمع، ونكس رأسه وقال للأسقف: " كادت الشمس تخطف بصري، فلا أستطيع التحديق بها مطلقاً". فأجابه الأسقف "في الشتاء لم تقدر على نسمة من نسماته، وفي الصيف لم تستطع النظر إلى إحدى مصنوعاته، فكيف تقدر أن تراه ببهاء ذاته، وجلال صفاته؟ ألم تتأكد من وجوده إلى الآن بعد أن رأيت ما رأيت من عظمته في مخلوقاته؟" فخجل الملك، وصغرت نفسه لديه، وهتف باسم الرب شاكراً له ثلاثاً، وانقلب إلى أهله مسروراً.
ومن هذا المثل الواقع تتأكد لديكم قدرة المؤمن الحي على إثبات وجود الله، لأن سبيل الإقناع يؤدي إلى منزل الاقتناع حسب القاعدة الذهبية التي وضعها رَبّ الْمَجْد بقوله: "من فضلة القلب يتكلم الفم" (مت 12: 34) فهل انتم مقتنعون؟
أدلة من صوت الطبيعة:
2- إن الطبيعة بنظامها العام قد خدمت قضية إثبات وجود الله أجلّ الخدمات، فأعلنت لنا وجود الله، وأيدت إعلانها، أثبتته بأقوى البراهين العملية، لأن سيرها على هذا النظام المضبوط البديع ينادي الملأ بوجود منظم حكيم قدير جداً، وينادي معلناً أن الكائن الذي نظم الطبيعة وسيرها يجب أن يكون أقدم منها نفسها، لأن الوالد سابق المولود[2]، وأن هذا الكائن هو الذي أنشأ الطبيعة أولا، ثم سيرها على نظامها الجميل ثانياً. وإلا فكيف يضبط سيرها ونظامها إن لم يكن هو الذي أنشأها؟ وهل يقدر سائق السيارة أن يسيّرها إن لم يكن عارفاً كيف يركّب آلاتها ثم يفكها حين اللزوم؟ وهل توجد سيارة ركّبت نفسها وسارت بنظام دون أن يركبها مهندسها ثم يسيرها؟ فإذاً لا تمشي الطبيعة مضبوطة بلا ضابط، ولا يضبطها إلا الذي أنشأها. وبما أنه لا بد للطبيعة من منشئ ضابط لها فهو الله. وهذا برهان ظاهر لقوم يعقلون. وفوق هذا وذاك فإن الطبيعة بنظامها الدقيق تنادينا. إنها بهيكلها ونظامها وحي إلهي عمليّ كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن سطور هذا الوحي العجيب تقرأ دائماً في حوادث الطبيعة المتتالية، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، لمن ألقى السمع وهو شهيد.
أدلة على وجود الله من نهر النيل وأمثاله:
3- قفوا بنا أمام نهر النيل أو غيره من الأنهار لنتأمل في نظام النهر ومصدره، بصرف النظر "مؤقتاً" عن آراء القائلين أن نهر النيل مصدره الجنة وينبوعه نقطة باء بسم الله الرحمن الرحيم، لأن هؤلاء القصاص الجهلاء لا يعرفون ما وراء وادي حلفا جنوباً، ولا ما وراء بحر الروم شمالاً، ولا ما وراء جبل المقطم شرقاً، ولا ما وراء صحراء الأهرام غرباً. فماذا نرى في نهر النيل؟ وماذا نرى في مصادره؟ إننا نرى ما يخلع القلوب هلعاً، ويحير الألباب جزعاً، ويذهل كل مرضعة عما أرضعت! نرى بخاراً قد ولدته حرارة الشمس في فصول معلومة من السنة فصعد من " الاوقيانوسات " المحيطات العظيمة، وتجمّع في الفضاء فكوّن سحباً هائلة سارت إلى اتجاه معلوم، كأنها جبال مارة بين السماء والأرض بقوة الرياح، أيأما محدودة إلى جهات معينة، فتصل إليها في أوقات مخصوصة. وهناك تتزاحم السحب، وتتلاطم في الجو بعد تلطيف الهواء لمائها وذهاب ملوحته، فيحدث هزيم الرعد، وتتوالى البروق فينصب المطر من هذه السحب كأفواه الجداول الجارية فوق رؤوس الجبال، فتمتلئ الكهوف والمغاور والحفر والمسالك والوديان، وتفيض إلى أن تغطي قمم الجبال وتعم الصحارى، فلا يبقى نفق أو حفرة أو سهل أو جبل إلا هو ممتلئ بالمياه في تلك الجهة المعينة. ويستمر الحال على هذا المنوال أياماً معلومة، فتفيض على البحيرات فتملأها، ويجري الماء منها في عدة جداول ذات مسالك متنوعة إلى أن يجتمع وينتظم في رأس النهر أو ينبوعه، فيسير فيه جارياً بفيضان عظيم حاملاً معه تراب الجبال والصحارى التي مر بها أو نزل عليها، فتعلو مياه النهر في أيام معلومة من السنة، فتروي الأراضي الزراعية كلها حول النهر وعلى طوله من منبعه إلى مصبه بماء مشبع بتراب الجبال الذي يكسب الأرض قوة تعادل القوة التي تكتسبها من الماء ذاته على الأقل، وهذا في أوقات مناسبة تماماً للزراعة، بنظام أدق واضبط من نظام الساعة، من بدء الخليقة إلى قيام الساعة. فحالما انتظم سير الطبيعة في بدء الخليقة انتظم سير هذه الأنهار بالأوقات المعينة من تلك الأيام إلى الآن دون خطأ ولو صغير. وعلى رغم القيود الصناعية التي ابتدأ البشر يقيمونها بكل همة لأجل تحويل منافع هذه النظامات الطبيعية إلى ما يشاؤون وإلى من يشاؤون، فإن القوات الطبيعية النهرية التي نظمها الله لفائدة قوم لا يقدر على تغيير نظامها شيء في الوجود. ومما يدل على هذا الناموس الطبيعي باق لا يتغير هو نفس مقدار الماء الذي يكاد يكون متوازياً كل عام، وهذا أعظم برهان على قدرة اليد الإلهية المسيرة لنظام الطبيعة. ولقد وافق القرآن على نظريتنا هذه بقوله: "أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أ أنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟"
ولقد أعلن لنا الوحي المقدس أن الله هو الذي سيّر نظام الطبيعة بقدرته وحكمته وإرادته وحده، لأنه هو خالقها منذ البدء، كما قال تعالى "ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وجزمت عليه حدّي وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تُتخم كبرياء لججك. في أي طريق يتوزع النور وتتفرّق الشرقية على الأرض" (أيوب38: 8- 11و 24)، وكما قال حينما كلمنا في ابنه "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" (متى 5: 45). فبرهن لنا بهذه المعلنات السمائية، في كلامه عن الماء والنور، على حقيقة وجوده، وعلى أزليته وتكوينه للخليقة، لأن هذين العنصرين هما علة حياة الأحياء تحت قبة السماء. ألا تستيقظون!
أدلة على وجود الله من نظام الطبيعة في سوريا وفلسطين وغيرها:
وكذلك توجد أراض وبلاد، كسوريا وأمثالها، ينزل الله فيها ماء المطر فيكون كافيا لحياة زراعتها وأشجارها ومواشيها وسكانها بلا نقص فيظمأون، وبلا زيادة فيغرقون. فهم لا يحتاجون إلى نهر كنهر النيل كما في بلاد مصر والسودان مثلاً. فهل يتصور عاقل أن الطبيعة نظمت نفسها بلا منظم بهذا المقدار؟ ألا يدل وجود هذا النظام على وجود إصبع الله في خلقها ونظامها؟
والأعجب من كل ما مر هو أن المياه التي تتبخر من الأوقيانوسات (المحيطات) سنوياً، وتحملها الرياح إلى الأماكن التي رتب الله أن تنزل فيها جهة منابع الأنهار أو الأراضي المحتاجة إليها، لم تنقص سنوياً في كل مكان عن حاجة العالم الضرورية والأراضي الزراعية والغابات التي يسافر فيها الراكب شهوراً حتى يصاب سكان اليابسة بالشرق والقحط[3]، ولم تزد عن المطلوب في جميع الأرض عامرها وغامرها حتى تتلف المزارع والمصانع ويصاب الناس بالغرق. ومما هو من الغرابة بمكان أن الاوقيانوسات لم تنقص بسبب التبخر مثقال ذرة سنة من السنين من بدء الخليقة إلى الآن. فهل هذا الترتيب العجيب رتبته يد الصدفة كما زعم المنكرون؟ ألا يدل هذا الإبداع الواضح في عالم الطبيعة على وجود الكائن الحق المعبود؟ إن في هذا تذكرة لكم لعلكم تتفكرون.
أدلة من التراكيب الآلية على وجود الله:
5- تأملوا في قفل من الأقفال التي تغلق بها الأبواب، وعندئذ تتأكدون أنه صنع بنظام مخصوص لغرض مخصوص هو إغلاق الباب به حتى لا يفتحه إلا مفتاحه المخصوص. فهل القفل هو الذي صنع نفسه هكذا، أم صنعه صانع للغرض الذي صنع له؟ تأملوا.
تأملوا في الساعة لتعلموا أن كل قطعة منها قد ركبت فيها بنظام خاص، وبعد أن تم تركيبها كنظامها تعينت لغرض خاص هو ضبط الأوقات. فهل هذه الساعة صنعت نفسها، ورُكبت أجزاؤها فيها بيد الصدفة الطبيعية فقط، وبدون غرض معين، كما قال عباد الطبيعة الكافرون؟ أم صنعها صانع حكيم ماهر لغرض هام هو ضبط الوقت بالتمام؟ تأملوا فإذا كان ذاك القفل وهذه الساعة لم يصنعا إلا لغرض خاص كان موجوداً في علم الصانع قبل أن يصنعهما، فهل هذه العوالم الطبيعية كلها قد وُجدت بلا بداية، وصُنعت بلا صانع؟ وهل يوجد في العقلاء من يصادق على هذا المجون؟ ألا يدلنا منطقنا، وترشدنا عقولنا، وتعلمنا علومنا، أنه لا بد لكل مصنوع من صانع؟ ألا نفهم بالبداهة أن الصانع أقدم وأقوى من المصنوع؟ ألا يقودنا المنطق الصحيح إلى أن العوالم كلها مصنوعة، والى أن صانعها الأعلى هو الله الحكيم القدير الأزلي؟ ألا يقودنا هذا المنطق إلى أن كل مصنوع هو حادث أمام أزلية الإله الصانع الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير؟
أدلة من الأنظمة الفلكية على وجود الله:
6- لقد فتش أيوب النبي في قواميس المدح والثناء ليجد أحسن الألفاظ التي يتشرف بأن يصف الله تعالى بها أحسن وصف، فلم يجد أحسن من هذه الألفاظ التي صاغها في وصفه عز وجل فقال: "الباسط السموات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب" (أيوب 9: 8و9) ومن شاء فليراجع خطاب الرب لأيوب (ص 38و 39) في الموضوع.
وكذا داود النبي، راعي الغنم، ألِفت نفسه التأمل في سفر نظام الكواكب، فسبّح الله قائلاً: "السموات تحدث بمجد لله. والفلك يخبر بعمل يديه... جعل للشمس مسكناً فيها، وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق. من أقصى السماوات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرها" (مز 19: 1-6). وبعد هجوم الأسد والدب على الغنم وقتل داود إياهما شدد الحراسة الليلية جداً وداوم السهر فكان يباشر دوران الكواكب ويكثر من مشاهدات أنظمة الأفلاك إلى أن جعلها ساعته الخاصة التي يميز الأوقات الليلية بواسطتها. ولذلك امتلأ نعمة وفرحاً فرفع وجهه إلى الصانع الأعلى الذي نظم هذه الأفلاك وصلى قائلاً: "إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده ما أمجد اسمك" (مز 8: 3-9).
من المعلوم أن الرومان كانوا يعبدون إمبراطور هم مع أصنامهم في عصر المسيح وتلاميذه، وكانوا يحتقرون اليهود الذين يعرفون الإله الواحد، وحقدوا على المسيحيين الأولين الذين بشروا بنعمة الخلاص بالفادي وبمحبة الإله الواحد. ولذلك قال الرسول في رسالته إلى الرومانيين: "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد آمين” (رومية 1: 19-25). وقال هذا الرسول الكريم أيضاً للأثينويين: “أيها الرجال الأثينويين أيراكم من كل وجه كأنكم متدينون كثيراً. لأنني بينما كنت أجتاز وأنظر إلى معبوداتكم وجدت أيضاً مذبحاً مكتوباً عليه لإله مجهول. فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به. الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي. ولا يخدم بأيادي الناس إذ هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أعمال 17: 22-28). فكان هذا الرسول يجتهد في تحويل أفكار الوثنيين وأبصارهم من الأرض إلى السماء، لأن السماء، بما فيها من الكواكب ذات النظام البديع، برهان مفحم على وجود الله، ولأن كل كوكب من السيارات يدل على وجود بارىء الأرض والسموات.
فالسماء بكواكبها، والكواكب بمنازلها، ومناظرها، ومظاهرها، ونظاماتها، براهين على وجود الله صانعها. والقضايا العملية الفلكية التي لا ريب فيها إنما هي شرح لما ابتدأ داود النبي وأيوب وغيرهما بإعلانه من الحقائق النبوية، وهذا ظاهر لقوم يتفكرون.
أدلة من خلق الحيوان والإنسان على وجود الله:
7- إننا إذا تأملنا في مصنوعات الله ندهش وتذهب عقولنا من شدة العجب لأن أعمال الله عظيمة. ولكن، لو تأملنا في وجود الحيوانات كطبائعها الغريزية، لظهرت لنا براهين جديدة على أن الله هو خالقها. فحالما يولد الحيوان يكون بدون اختبار، وقبل أن يعرف كيف يفتح عينيه يبحث عن ثدي أمه التي ولدته ويرضعه، وكلما نما زاد اختباراً وطاعة ونفعاً للإنسان. فالإبل في الجبال وما ماثلها من الأفيال تعرف المسالك، وتسير فيها بأصحابها أياماً وليالي، وتحفظ أصحابها في الظلماء. وكذلك الخيل تخاف على أصحابها، وتعمل لحياتهم. حتى أن الفرس لتروغ في الميدان إذا رأت الطعنة موجهة إلى صدر صاحبها، وتميل به يميناً وشمالاً لنجاته أو لنيله من خصمه. وكذلك الحمار يركبه صاحبه ويسير به في الظلام الشديد فيعرف الطريق المطلوبة لحياة صاحبه، ويذهب فيها ولا يميل عنها ولو ضربه صاحبه (عدد 22:22-23). والكلاب تقوم بالحراسة الأمينة، وما شاكل ذلك. فنرى الحيوانات تتحرك وتعمل لمرضاة صاحبها، وتطلب ما فيه طعامها وشرابها، ولا ينقصها إلا النطق. ألا يدل وجود الحيوانات بهذه الكيفيات البديعة على وجود مبدع قد أبدعها؟ ألا تؤمنون أن هذا المبدع هو الله؟
تأملوا في الإنسان تروا أنه ذو جلد ولحم وعظم ودم ككل حيوان، ولكنه يمتاز عن جميعها بأشياء. (أولها) أن الحيوانات تمشي على أربع، والإنسان يمشي على اثنين. (وثانيها) أن الحيوان ليس له عقل ليكون له سلطان على غيره، وأما الإنسان فقد أعطاه الله عقلاً ليكسو نفسه ستراً لعورته، وليستعمل كل ما وقع عليه نظره وتصل إليه يده من إنسان وحيوان وجماد وماء ونبات لأجل منفعته حسب إمكانه. (وثالثها) أن الله ميزه بأن أعطاه نفساً خالدة لتحيا في العالم الآتي إما في نعيمها وإما في شقائها. ولذلك أرسل الله من الإنسان إلى الإنسان أنبياء ورسلاً بكتب سماوية قيمة. فوجد الإنسان، والحال هذه، أقوى برهان على وجود الله. فجميع نظامات الطبيعة في السماء والأرض، وجميع المخلوقات العلوية والسفلية والإنسانية والحيوانية، كلها براهين على وجود الله.
[1] - أي تابع داروين صاحب نظرية "النشوء" المشئومة التي تقول أننا معشر بني آدم أصلنا القردة!
[2] - وهذا القياس ينطبق على المخلوقات المادية التي خلقها الله، وأما الروحيات فلها قياس آخر حسب القواعد اللاهوتية. فانتبهوا.
[3] - نعم قد يقع من المطر في الأرض مثلاً في بضع سنوات أقل مما هو لازم للزراعة الخ. لكن ما هو السبب يا ترى؟ - إذا عرف السبب بطل العجب - فاعلم أن السبب مذكور بل ومشروح بإيضاح في سفر تثنية الاشتراع 11: 13-17 حيث نقرأ قوله تعالى "إذا سمعت لوصاياي.... أعطي مطر أرضكم في حينه"، وإلا فلا. تأمل في هذا واحترس.
- عدد الزيارات: 11226