المقدمة
الحمد لله الواحد الأحد الحكيم، الأزلي القديم، الخالق الكريم، الرحمن الرحيم، الذي له الملك وهو بكل شيء عليم. وبعد.
فإنه لا يخفى على محبي اقتناء الكتب العلمية والتاريخية والدينية القيّمة أننا قد أصدرنا في الماضي القريب سيرة حياة القديس الرسولي مار أثناسيوس بابا الإسكندرية والبطريرك العشرين، وأسمينا هذه السيرة "حامي الإيمان" وأننا أشرنا في خلال سطوره إلى الحقيقة الكبرى التي أقرّ بها الإيمان الخاص والعام، ألا وهي أن أثناسيوس أتى في أثناء محاماته عن الإيمان الصحيح، على كل برهان قوي صريح، فأغلق بقوة بيانه، وصدق إيمانه، أبواب المناقشة في لاهوت سيدنا يسوع المسيح، ورفع الله به منار الإيمان، وجعل حقيقة اللاهوت ظاهرة للعيان. إلا أن ذاتية المسيح كانت وما زالت موضوع بحث الباحثين من ذلك العهد إلى الآن، لأن المسيحية هي شخصية المسيح بمعنى أنه لا مسيحية إلا في الاعتقاد بذاتية المسيح. فإن كان الاعتقاد فاسداً كانت مسيحية ذلك المعتقد فاسدة. وإذا كان الاعتقاد بذاتية المسيح صحيحاً كانت مسيحية ذلك المعتقد صحيحة. فهذا هو معنى قولي أن المسيحية ما هي إلا شخص المسيح.
ولقد قام في أيامنا الأخيرة قوم متحذلقون من المصطبغين بألوان الفلسفة العصرية وتنازلوا فعبّروا عن معتقداتهم بقولهم أنهم قد عزموا على التمسك بألوهية المسيح وأن أنكروا لاهوته فأقاموا بقولهم هذا جمهور المسيحيين المخلصين الأمناء الذين زاد الله إيمانهم الديني عن تهذيبهم العلمي وأقعدوهم فصاروا يبحثون ويتباحثون، ويسألون ويتساءلون: هل يوجد فرق بين الألوهية واللاهوت؟ ولذلك فقد أجبناهم بأنه يوجد فرق كبير جداً بين الألوهية واللاهوت، وضربنا لهم الأمثال لعلّهم يتذكّرون.
إن من يسير سيراً حميداً ويسلك سلوكاً حسناً ويحيا حياة مقدسة طيبة من الناس نقول عنه أنه "قديس" ولكن لا يجوز أن نقول أنه "قدّوس" لأن القديس هو من اكتسب القداسة بنعمة الله، ولأن القدوس هو معدن القداسة ومانحها منذ الأزل والى الأبد. فالقديس مخلوق ضعيف وأما القدوس فهو الخالق القوي - وعلى هذا القياس فإن الفرق كبير بين الألوهية واللاهوت كما بين القديس والقدوس. فالألوهية هي الشيء الإلهي فقط وأما اللاهوت فهو الله. وحاشا أن يكون الإلهي هو الله. وعلى هذا فألوهيتي هي صلتي بالله لكوني إنساناً مؤمناً. ولا يجوز لي أن أقول "لاهوتي" لأن هذا القول خاص بالله. فإذا علمتم هذا فقد علمتم قيمة زيغ أولئك الذي انتفخوا بروح الفلسفة العصرية، ذلك الزيغ الذي صبغوه بطلاء الألفاظ التي توهم الإيمان حال كونها بعيدة عن الحقيقة.
أن أهم غرض من نشر هذا الكتاب "رَبّ الْمَجْد" إنما هو أن نعلّم بني جنسنا ما هو معنى "لاهوت المسيح" وكيف نقول بذلك اللاهوت الكريم وما هي براهيننا التي نستند إليها عند اصطدامنا مع أولئك المقاومين.
إننا لا نعتقد بألوهية المسيح بل بلاهوته لأن المسيح ليس منسوباً إلى الله فقط بل كما قلنا أنه هو الله الذي كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق مختلفة ثم كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه المسيح يسوع- أي أنه هو الله الذي تجسد لخلاصنا.
ولقد استنتجنا من الكتاب المقدس أن الله سبحانه وتعالى لم يظهر في كل الأجيال بمظهر واحد لأن كل أقنوم من الأقانيم اللاهوتية الثلاثة يمتاز اسماً ورتبة وعملاً إلا أن الأقانيم الثلاثة واحد في الجوهر، فالمظاهر متنوعة وأقانيم الله ثلاثة ولكن ذاته تعالى واحد وجوهره واحد لا أكثر. هذا مع العلم أن غرضنا في هذا المؤلف ليس استيعاب البحث في ماهية الثالوث الأقدس بل الاقتصار على إقامة أنواع الأدلة على أن يسوع هو الله. ولربما يقول القارئ اللبيب: "هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" فها نحن نقول له: لبيك لبيك إنا مستعدون أتمّ استعداد لتقديم براهيننا، لا برهاننا فقط.
وها نحن نتحف القراء الكرام بكلامنا عن الأساس التمهيدي للبحث والمباحثات أي المقدمات التي بدونها لا يمكن أن نصل إلى نتيجة ما. ثم أخذنا كتاب العهد القديم وبحثنا في التلميحات والتصريحات والنبوات سفراً فسفراً من التكوين إلى آخر الأنبياء وعلّقنا على كل نص بما يعزّز وجهة نظرنا ويقيم البراهين المقنعة التي طالما تعطشت إليها نفوس الباحثين، ثم إننا وضعنا عدداً من الأبواب المفيدة القوية الحجة التي لها مساس جوهري بالموضوع الأصلي أوضحنا فيها معنى البنوة وعلاقة عصمة المسيح بتجسده، وبولادته من العذراء. وكذلك بحثنا في القيامة والصعود بصفة كونهما برهاناً قاطعاً على لاهوت المسيح.
ومما يجب لفت النظر إليه أن هذا الكتاب مفيدٌ لكل قارئ من كل طائفة ومن كل مذهب ومن كل دين لأن غرضنا الأول إنما هو تمجيد الله بإعلان لاهوت الفادي المجيد.
(عبد الفادي القاهراني).
[1] - وأن كان الغرض ليس البحث في الثالوث الأقدس إلا أن البحث في بنوة المسيح والثالوث وما يتعلق بهما يأتي صدفة في سياق الكلام لتثبيت حقيقته. وحينئذ يكون الكلام فيه طريقاً مؤدياً إلى غاية وهذه الغاية هي إقامة الدليل على أن المسح هو الله.
- عدد الزيارات: 4426