Skip to main content

الفصل الأول: ابن الله وابن الإنسان

الجزء الثالث

العلاقة ما بين الطبيعتين

الفصل الأول: ابن الله وابن الإنسان

أولاً: يسوع المسيح ابن الله

إن لقب "ابن الله" هو من أهم الألقاب المنسوبة للمسيح، فهو اسم يسترعي الكثير من الانتباه لكرامة المسيح وخاصةً من جهة ألوهيته التي تدل على أنه مؤهل تماماً للتحدث عن أمور الله. إنه ذلك الجانب من طبيعته الذي حاز إعجاب نثنائيل عندما أدرك مندهشاً بأن المسيح له إلمام بماضيه المستور، لذلك هتف قائلاً: "يا معلّم أنت ملك إسرائيل" (يوحنا 1: 49). أما المعارضة لطبيعة المسيح الإلهية والاشمئزاز منها فقد اتضحت جلياً في محاولة التشكيك التي أجراها إبليس عندما تحدّى المسيح قائلاً: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً" و"إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (أي من جناح الهيكل العلوي) (متى 4: 3و6). هذا حدث أيضاً عند إخراج المسيح للشياطين الذين صرخوا عند خروجهم قائلين: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟" (متى 8: 29)، أما تعليق المسيح عن القصد من موت لعازر وإقامته له من الموت فكان "لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به" (يوحنا 11: 4). أما اعتراف التلميذ بطرس عن المسيح في قوله له: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (متى 16: 16) فكان نتيجةً لإدراكه لألوهية المسيح. وصرّح البشير يوحنا أيضاً بأن القصد من كتابته لبشارته إنما كان "لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يوحنا 20: 31).

يجب أن نفهم هذين التعبيرين "الآب" و"الابن" على أساس وجهة نظر المفهوم العبري في الكتاب المقدس بأن "الآب" و"الابن" هما نظيران متطابقان ومتساويان في الطبيعة والكيان. ففي كل مرة يدعو فيها الكتاب المقدس المسيح بلقب "ابن الله" فالقصد هو التشديد على حقيقة وأصالة ألوهيته. فهو ذو الطبيعة نفسها التي للآب تماماً، كما أن الأب البشري تكون طبيعة ابنه طبيعة بشرية مطابقة لطبيعته، فالمسيح ابن الله هو مثل أبيه في جوهر طبيعته الإلهية، تلك الطبيعة التي لا يشارك فيها الله أي مخلوق. الآب والابن والروح القدس هم واحد معاً في جوهرهم وطبيعتهم وأزليتهم، وهم متساوون في القدرة والمجد، كانوا ولا زالوا موجودين في أقانيمهم الثلاثة المميزة. وعلينا أن نتذكر بأن الاسمين "الآب" و"الابن" ليسا بالضرورة كافيين للتعبير الكامل والتام عن العلاقة التي تربط الأقنومين الأول والثاني في الثالوث، ومع ذلك يبقى هذان الاسمان أفضل ما لدينا، نحن البشر، للتعبير عن هذه العلاقة. وعلاوةً على ذلك فإنهما يعبران لنا في الكتاب المقدس ليس فقط عن وحدتهما في الجوهر والطبيعة، بل أيضاً عن علاقة الود والمحبة المتبادلة بينهما. المسيح يسوع هو ابن الله الأزلي أما نحن فنصير أولاد الله المتبنين بالنعمة. المسيح هو ابن الله بحقه الأزلي الخاص أما نحن فبالتبني نصبح أولاداً لله عندما نولد من جديد وتصبح الحياة الجديدة في المسيح من نصيبنا، أي عندما يحسب لنا برّه وطهارته. وصيرورتنا أولاداً لله لا تعني بأن تكون لنا الألوهية التي للمسيح، لكنها تعني بأننا قد عدنا إلى مشابهة أخلاقية وروحية أكمل من تلك التي كانت لنا عند الخليقة والتي تشوهت وتحطّمت ونُقضت معالمها بواسطة الخطية. الله هو أب الرب يسوع المسيح بمعنى خاص يختلف كل الاختلاف عن كونه أب المؤمنين به. صحيح أن يسوع تحدّث لتلاميذه عن الله كأبيهم الذي في السموات، لكنه في الوقت نفسه أظهر بذلك أن أبوّة الله لهم هي بمعنى محدود ومقيد وليس بالمعنى غير المحدود الذي يرتبط هو فيه بأبوة الآب. فبنوّتهم لله هي نتيجة ارتباطهم بالمسيح الذي هو الابن الحقيقي الكامل لله. وأوضح المسيح ذلك في قوله لتلاميذه: "الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت" (يوحنا 16: 27). هذا ما عبر عنه البشير يوحنا بجمال باهر حين قال: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1: 12).

لا يتفق الكتاب المقدس مع النظرية الشائعة بين البعض والذين تشرّبوا الفلسفة الدهرية صاحبة النظرية التي تدّعي بأن الجميع هم أخوة. حسب تعليم الكتاب المقدس لا تبنى البنوة على تلك العلاقة التي نتجت عن كون الله هو خالق البشر أجمعين، إنما هي مبنية على العلاقة الروحية التي يحصل بواسطتها البشر على الخليقة الجديدة في المسيح. وكخليقة جديدة يصبح المؤمنون أولاداً لله بإيمانهم بالمسيح. إن الله هو أب الجميع كخالق الجميع بمعنى كونه مصدر حياتهم، لكن أولاده الحقيقيين بين البشر هم الذين "ولدوا من جديد" (يوحنا 3: 3). "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2كورنثوس 5: 17). "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رومية 8: 14). كل المسيحيين الحقيقيين هم "أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع" (غلاطية 3: 26). "فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل ابراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 3: 29).

خارج دائرة التبني بواسطة المسيح كلمة "أب" معناها سطحي جداً، لأنه في المسيح وحده نقدر أن نعرف الله بالحقيقة: "وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ومن أراد الابن أن يعلن له" (متى 11: 27). أما أولئك الذين يبقون في خطيتهم وسقوطهم، دون تجديد روح الله فهم ليسوا أولاداً لله حسب مفهوم كلمة الله، بل هم أولاد إبليس، لأنهم كإبليس وشركاء له في طبيعته الشريرة، لأنهم "بالطبيعة أبناء الغضب" (أفسس 2: 3). قال يسوع لمقاوميه: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تفعلوا" (يوحنا 8: 44)، "أنا أتكلّم بما رأيت عند أبي وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم... لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأنني خرجت من قبل الله وأتيت" (يوحنا 8: 38و42).

هذا ما علّمه أيضاً الرسول بولس، عندما قال للساحر: "أيها الممتلئ غش وكل خبث، يا ابن إبليس، يا عدو كل برّ، ألا تزال تفسد سبل الله المستقيمة" (أعمال الرسل 13: 10). وعندما نؤمن بالمسيح نصير أولاداً لله لأنه "سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح نفسه" (أفسس1: 5). أما المسيح فهو ابن الله بكل ما للتعبير من معنى، إذ أنه قال عن نفسه: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30). و"من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9) و"من لا يكرم الابن لا يكرم الآب" (يوحنا 5: 23)، أما بولس فقد قال عنه: "صورة الله غير المنظور" (كولوسي 1: 15) وإن "الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (2كورنثوس 5: 19) و"فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (الرسالة إلى كولوسي 2: 9). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقد قال بأن المسيح هو بالنسبة لله "بهاء مجده ورسم جوهره" (عبرانيين 1: 3). وإضافةً إلى كل ذلك فإن عظات السيد المسيح التي نجدها في العهد الجديد إنما تدل دلالة قاطعة على إحساسه ووعيه الدائم بألوهيته لأنه كان يدرك إدراكاً منقطع النظير بالنوعية الخاصة لعلاقته بالله الآب، وكذلك كان الله الآب مدركاً كل الإدراك بنبّوة المسيح يسوع الفريدة.

إن معنى المساواة لله والوحدة معه كان واضحاً في اللقبين "الآب" و"الابن" ويبدو جلياً من جواب اليهود للمسيح عندما شفى يسوع أحدهم في يوم السبت، قال: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل"، ونتج عن كلامه هذا ما يلي: "كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً أن الله أبوه معادلاً نفسه بالله" (يوحنا 5: 17و18). بعد ذلك حاولوا قتله رجماً بالحجارة قائلين له: "لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً" (يوحنا 10: 33). وهذا القول بالذات أي بأن المسيح هو ابن الله، هذا كان محور تهمة رئيس الكهنة له التي أدّت لإصدار مجلس السبعين (السنهدريم) الحكم بالموت على المسيح (راجع متى 26: 63-66)، وقتئذٍ قال اليهود لزعمائهم: "لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله" (يوحنا 19: 7). أما يسوع فلم ينكر تلك التهمة قط، بل على العكس اعترف علانيةً بصحة قولهم. وقد علّق على موضوعنا هذا أحد كبار علماء التفسير قائلاً: "كما أنه (أي المسيح) أخذ عن أمه مريم الطبيعة البشرية، هكذا أخذ عن أبيه السماوي الطبيعة الإلهية وهو أمر مختلف ومتميز عن ناسوته. يشير الكتاب المقدس إلى المسيح باسمين داعياً إياه أحياناً بـ "ابن الله" وأحياناً أخرى بـ "ابن الإنسان". أما عبارة "ابن الإنسان" فلا يمكن إلاّ وأن تفهم على أساس أنه أنموذج ما يجب أن يكون عليه الإنسان. هذا هو ما يوحي إليه الأصل العبري لـ "ابن الإنسان" والذي يشير على أنه ذرية آدم. كذلك فإن تسمية المسيح بـ "ابن الله" تشير إلى ألوهيته وكيانه الأزليين. فمن البديهي أن يشير كونه "ابن الله" إلى طبيعته الإلهية تماماً كما يشير كونه "ابن الإنسان" إلى طبيعته البشرية". (مبادئ الديانة المسيحية – الفصل الأول ص/ 442).

إذاً يتضح لنا بأن لقب "ابن الله" كان المقصود منه إبراز المسيح في طبيعته الجوهرية كإله، فالذي "ولد من نسل داود بحسب الجسد هو أيضاً نفسه الذي تعيّن ابن الله بقوة" (رومية 1: 3و4). وذاك الذي، حسب الجسد، أتى من نسل عبراني قد تعين أيضاً "على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (رومية 9: 5). بالنتيجة علينا أن نؤمن بالابن كما نؤمن بالآب، وأن نكرم الواحد كما نكرم الآخر.

ثانياً: يسوع المسيح ابن الإنسان

استعمل يسوع لقب "ابن الإنسان" مراراً كثيرة عندما أشار إلى نفسه، ويبدو أن هذا اللقب كان مفضلاً لديه. وعبارة "ابن الإنسان" كانت موضع الكثير من الدراسات والنقاش عبر التاريخ المسيحي والمعنى الحقيقي والرئيسي الذي ينطوي عليه لقب "ابن الإنسان" هو أن يسوع كان إنساناً بكل معنى الكلمة. إنه الإنسان المثالي الكامل. نرى في المسيح الطبيعة البشرية في كمالها، دون تشويه ولا تلوث، وهو الأنموذج والمثال الذي بواسطته ينسق البشر حياتهم. وبما أن للمسيح هكذا طبيعة بشرية فهو ذو علاقة حيوية بجميع أعضاء الجنس البشري، وبناءً على تدبير الله له الحق في تمثيلهم جميعاً أمام الحضرة الإلهية.

يستعمل المزمور الثامن هذا اللقب إشارةً إلى البشر عامةً فيقول: "من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده؟" (مزمور 8: 4). لكن العهد الجديد إذ ينسبه للمسيح فإنه يعطي الاصطلاح مدلولات تفوق البشر، ففي سفر دانيال ومن ضمن النبوة عن عودة المسيح إلى السماء يرد في كلمة الله: "وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدّامه. فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دانيال 7: 13و14). هذا فهمه اليهود بدون تردد على أساس كونه إشارة لهوية المسيّا المنتظر. وأشار المسيح نفسه إلى تلك النبوة وهو على يقين تام من انطباقها عليه فقال: "وحينئذٍ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. و.....تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السموات إلى أقصائها" (متى 24: 30و31- راجع أيضاً لوقا 21: 31).

تُنتقى الأسماء عادةً بقصد إبراز ملامح فريدة معينة، كإطلاق لقب على إنسان ما بقصد إظهار خلاصة شخصيته. فيقال عن فلان "الطيب القلب" وعن آخر "النبيل" كما غيرها من الألقاب. واللقب هنا دلّ على شخصية صاحبه وأعطى فكرة عن نوعيته. فالناس لا يسمون تبعاً لملامح مشتركة مع غيرهم، بل تبعاً لتلك الملامح الخاصة التي تميزهم عن أندادهم من البشر. بالنسبة للمسيح فإنه منذ الأزل تميّز بالألوهية التي شارك فيها الآب والروح القدس. فهو شريك لكل من أقنومي اللاهوت الآخرين في ميزات حضورهما في كل مكان وأزليتهما وعلمهما بمطلق كل شيء. أما موضوع التجسد فكان مختصاً به، وبه وحده. تلك هي ميزته الخاصة في نطاق اللاهوت. من هنا لم يكن مدهشاً أن يكون "ابن الإنسان" قد أوجد وطبّق على الزائر المتوقع للأرض ولساكنيها.

إضافةً إلى ذلك ضرورة ملاحظة كون لقب "ابن الإنسان" استعمل من قبل يسوع عندما تحدث عن مجيئه وذهابه وعودته بالنسبة لوجوده على الأرض. فقد جاء في الإنجيل حسب (متى 24: 44 و25: 31 و26: 24) ما يلي: "... لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان" و"متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه"

"إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه"

كما جاء في الإنجيل حسب (لوقا 19: 10) "ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك". وكذلك في الإنجيل حسب (يوحنا 6: 62) "فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً".

لقد دعي لقب "ابن الإنسان" على نحو ملائم جداً لقباً "انتقالياً" ليس فقط لما يعنيه ذلك من تكاتف المسيح مع الجنس البشري تكاتفاً تاماً لدى تجسّده، بل أيضاً لما في ذلك من إشارة لأصله الأسمى قبل التجسد.  

  • عدد الزيارات: 7336