الفصل الأول: شهادة المسيح عن ألوهيته
الجزء الأول
ألوهية المسيح
شهادة المسيح عن ألوهية هي بالطبع أهم شهادة بخصوص هذا الموضوع. فهو لم يكن يتمتع بشركة متواصلة بالله فحسب بل كانت لديه أيضاً قناعة واضحة بكونه، هو نفسه، ذو طبيعة إلهية. هذا ما نراه بوضوح منذ بلوغه الثانية عشرة من عمره، إن لم يكن قبل ذلك، حين أجاب عن سؤال أمه قائلاً: "لماذا كنتما تطلباني؟ ألم تعلما بأنه ينبغي أن أكون فيما لأبي" (لوقا 2: 49). كانت هذه العبارة في الواقع من التعابير الأكثر شيوعاً في تعليم المسيح. ثم إنه نسب لنفسه بكل وضوح مكانة مساوية لله الآب: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30).. وكذلك يذكر الإنجيل مكانة المسيح السماوية للآب كما جاءت في فصول بشارة يوحنا التالية: (5: 23، و12: 44 و45، و14: 9) "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله" و"الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني" و"الذي رآني فقد رأى الآب".
المسيح وحده يكشف عن الله بحق: "كل شيء قد دفع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يكشف لهم" (متى 11: 27). وفي مثل الكرّامين الأشرار كشف المسيح عن كونه الابن وارث الكرمة، معطياً لنفسه مركزاً أسمى من الأنبياء. فهو الذي رُفض وذُبح كما أنه هو الذي صار "رأس الزاوية". (متى 21: 33-45).
كان عمله مطابقاً لعمل الآب: "لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5: 19). وشهادة المسيح عن نبوته وعن شركته الخاصة مع الآب وألوهية كانت أمراً واضحاً لليهود. ففي إحدى المناسبات التقطوا حجارة وحاولوا رجمه بها، فقال لهم يسوع: "أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أي منها ترجمونني؟ أمّا هم فأجابوا: "لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف. فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً" (يوحنا 10: 32 و33). وعندما اشتكوا عليه أمام بيلاطس قالوا: "لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله" (يوحنا 19: 7).
وكلمات المسيح التي تفوه بها في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض هي كلمات الله بالذات. فلو أن إنساناً عادياً نطق بها لاعتبره البشر مجدفاً، لكن يسوع حثّ تلاميذه على أن يكون إيمانهم به نفس الإيمان الذي لهم في الله: "أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي" (يوحنا 14: 1). كما أنه أخبرهم بأنه سينطلق إلى السماء ليعدّ لهم مكاناً وأنه سيعود ليأخذهم إليه. كما أنه كشف عن كونه "الطريق والحق والحياة" وأنه لا يمكن لإنسان أن يأتي إلى الآب إلاّ به، من يعرفه يعرف الآب، ومن يراه يرى الآب، فهو والآب واحد.
هو ذاهب إلى الآب وكل صلوات يرفعونها باسم يسوع تكون مقبولة. ووعد يسوع المسيح تلاميذه بأنه سيرسل إليهم الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس. ذلك أن الروح القدس كان سيقوم بوظيفة المعزّي والرفيق والمعلم فهو الذي يحفظ تعاليمهم من الخطأ، وهو الذي يعطي البصيرة الروحية لكل المؤمنين. وكشف المسيح بأنه هو المصدر الحقيقي لحياة الكنيسة، وعلى كل مؤمن أن يكون متحداً به كما أن كل غصن حي يبقى متصلاً بالشجرة. هم لم يختاروه بل هو الذي اختارهم حتى أنه قد أصبحت بينهم وبين "العالم" هوة عظيمة. والعالم الساقط في حمأة الشر والخطية ببغض المسيح، ومن يبغض المسيح يبغض أباه أيضاً. وكشف يسوع عن أن كون كل الأشياء التي للآب هي له، وكل ما يطلب من الآب باسمه يعطى. فهو قد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وكان مزمعاً أن يترك العالم ليعود إلى الآب.
في صلاته الشفاعية المدونة في الفصل السابع عشر من الإنجيل حسب يوحنا، طلب المسيح من الآب أن يمجد الابن (أي يسوع نفسه) وقد بنى طلبه هذا على أساس أن تمجيد الابن يؤول إلى تمجيد الآب أيضاً. ثم أننا في تلك الصلاة نرى بأنه نسب لنفسه سلطة منح الحياة الأبدية لجميع الذين أعطاه إياهم الآب، وهي الحياة الناتجة عن معرفة الله التي ترتبط بمعرفة يسوع بالذات. لكن يسوع ذكر أيضاً بأن المجد الذي طلبه من الآب هو نفسه المجد الذي للآب وهو أيضاً ذات المجد الذي شارك فيه الآب أصلاً قبل تكوين العالم.
وأثناء محاكمته أمام مجلس السبعين شهد يسوع المسيح جهاراً وعلانيةً بألوهية، وعندما تمت المحاكمة حكم عليه بالموت لأنه كان قد نطق "بتجديف" إشارةً إلى شهادته عن ألوهية. فقد سأله رئيس الكهنة: "أأنت المسيح ابن المبارك؟" (مرقس 14: 61). وأجاب يسوع: "أنا هو وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء" (مرقس 14: 62). "فمزّق رئيس الكهنة ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجديف، ما رأيكم؟ والجميع حكموا عليه بأنه مستوجب الموت" (مرقس 14: 63و64).
وعندما أسند المسيح إلى تلاميذه الرسالة العظمى (أي المناداة بالإنجيل في سائر أنحاء العالم) بعد قيامته من الموت وقبل صعوده إلى السماء قال لهم: "دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 18-20).
نلاحظ من كلمات السيد المسيح هذه أنه أورد اسمه في لائحة أسماء الثالوث الأقدس، إذ أوصى بأن على المؤمنين به أن يعمّدوا بذلك الاسم واعداً إيّاهم بأن يكون معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر. وعندما نسب إلى نفسه "كل سلطان في السماء وعلى الأرض" كان يعني بأنه يملك القدرة على كل شيء. أما كونه مع أتباعه كل الأيام وإلى انقضاء الدهر فيعني كونه موجوداً أو حاضراً في كل مكان. ثم أن ممارسة المعمودية "باسم الآب والابن والروح القدس" يضفي صيغة في غاية الأهمية بالنسبة لهذه الفريضة المقدسة. ونلاحظ أن الصيغة هي صيغة الجمع (الآب والابن والروح القدس) ثلاثة أقانيم أو كيانات مميزة لكل واحد اسم خاص به. ثم نلاحظ بأنه لم يقل باسم الآب وابن وروح قدس بحذف أل التعريف عن أقنومي الابن والروح القدس، كما لو أن الأمر كان يخص أقنوماً واحداً له ثلاثة أسماء. فالأمر هو بعكس ذلك. كل أقنوم في الثالوث الأقدس سمّي بصيغة المفرد و"أل التعريف" كررت لكل منهم بصورة دقيقة وواضحة. فمع أن الأقانيم الثلاثة موحدون في طبيعة وصفة واحدة (أي الله) إلاّ أنهم يبقون مميزين كأقانيم الواحد عن الآخر. فما أكده يسوع المسيح في هذه الوصية هو أن إيمان أتباعه ومن يؤمنون بواسطة مناداتهم بالإنجيل مبني على اسم الله المثلث الأقانيم "الآب والابن والروح القدس". ومما لا شك فيه أنه قد أشار إلى نفسه في اسم "الابن" واضعاً نفسه على ذات المرتبة مع "الآب" و"الروح القدس" ذلك أنه معهما الإله الواحد السرمدي الكائن بذاته.
شهد يسوع المسيح بأنه يتمتع بصفة الألوهية، ولا بد لكل من يدرس العهد الجديد (أي الإنجيل) بطريقة موضوعية من أن يصل إلى نفس النتيجة. وهذا هو الانطباع السائد بين الجماهير الغفيرة من قراء العهد الجديد عبر العصور والأجيال.
- عدد الزيارات: 4239