Skip to main content

إله حق وإنسان حق

من أقدم العصور وعقول الناس تتساءل أمام التأكيد الصريح الذي لا مواربة فيه ولا مهادنة, تأكيد المسيحين عن لاهوت تام وناسوت تام في أقنوم واحد. وقد زعم إريوس (325م) أن المسيح كان مثل الله, لكنه لم يكن الله فعلاً. وعلّم أبوليناروس (380م) بأنه في الإنسان يسوع حل اللاهوت موضع النفس العاقلة وهي أسمى عنصر طبيعي, وبهذا جعل يسوع أقل من إنسان. ونسطور (430م) علّم بناسوت كامل, لكنه حسب أن الله إنما حلّ فقط في يسوع- فهو والحالة هذه لا يزيد عن قديس اسمى (supersaint). وايتوخيس (450م) فكّر في يسوع كبشري وإلهي, لكنه قال, إن البشري ابتلع وذاب في الإلهي كما تبتلع قطرة من الخل في المحيط. هذه أربعة أمثلة للبدع الفظيعة في الكنيسة الأولى.

ولا تزال تجري محاولات تخمينية "لإيضاح" شخص المسيح إلى يومنا هذا, وفيها نفس الروح الذي يهدف إلى تبسيط السر العميق, الذي حدا ببعضهم إلى نشر نظرية "الإخلاء" (kenosis) اللاهوتية التي تعلم أن ابن الله, في تكييف نفسه إلى أخذ طبيعة بشرية, "أخلى نفسه" من بعض سجايا لاهوته, فصار على الأرض كإنسان يهودي من القرن الأول. وبعض ما يسترعي الالتفات في هذه النظرية أنها تنطبق على عقلية بعض رجال القرن العشرين الذين ينسبون إلى أنفسهم تفوقاً عقلياً, ويزعمون أنهم أحرار أن يختاروا ما شاءوا من التعليم عن المسيح, وأن يرفضوا ما يحسبونه خرافات القرن الأول التي يرذلونها.

إن نظرية "الإخلاء" مبنية على فيليبي2: 5 وما بعده حيث ورد القول "أخلى نفسه". ونكتفي هنا بإيراد أقصر خلاصته.

1- الكلمة "صورة" يقول بولس عن يسوع "الذي إذا كان في صورة الله". وكلمة "صورة" بالنسبة لنا غالباً تشير إلى درجة من المشابهة لا تصل إلى نفس الشخصية التامة, أما الكلمة "في" اليونانية فتعبر بكل وضوح وشدة عن الوحدة التامة في الجوهر. فلما يقال عن مخلصنا أنه "كان في صورة الله" فمعنى ذلك أنه هو كل ما في الله بأوضح ما يمكن من بيان أي أنه يملك كل الصفات والسجايا التي تجعل الله هو الله.

2- "إذ كان" هذا التعبير معناه أنه "كائن أصلاً" فهو يشير إلى لاهوت المسيح الكائن سابقاً (مثلاً يوحنا17: 5إلخ) لكن هذا لا يستنفذ كل معنى الكلمة ولا قوّتها لأن الكلمة تتضمن فكرة دوام الكينونة أي أن فكرة امتلاك المسيح "صورة الله" لم تبطل عند التجسد بل ظلت كما كانت من قبل.

3- الفعل "أخلى" لو كان هذا الفعل منفصلاً يكون معناه التخلي عن أو خلع ويقود إلى الفكر أن ربنا قد تخلى عن ألوهيته (بمعنى ما) لكن بولس في هذا الفصل يتكلم عن التضحية التي قدمها المسيح لا بخلع شيء أو التخلي عنه بل بقبول شيء وأخذه أي بأخذ طبيعتنا البشرية. أي أنه لم يأخذ شيئاً لنفسه ولم يكن همه اعتبار نفسه بل كان البذل لأجل الآخرين. يتضح من هذا أن بولس من نور ما توحي به القرينة التي فيها يقدم المسيح مثالاً أدبياً للوعظ والحث على ما ينبغي عليه أن تكون حياتنا يذكر بأكمل ما يتضمنه تعليم العهد الجديد أن المسيح يسوع الشخص الواحد إذ كان أصلاً وما يزال هو الله في أكمل وأتم معنى أخذ بالإضافة إلى ذلك بشرية تامة كاملة وعاش حياة بشرية على الأرض.

  • عدد الزيارات: 3472