Skip to main content

الفصل الثامن: طبيعة وتأثير الخطية في نفس الإنسان

إذا أردنا أن نُقدّر ذلك العمل الذي قام به السيد المسيح من أجلنا نحن البشر حق تقديره يجدر بنا أن نقف على طبيعة وتأثير الخطية في نفس الإنسان. نصل إلى هذه المعرفة بواسطة تعاليم الكتاب عن هذا الموضوع. يُخبرنا الكتاب بأن الخطية هي – في جوهرها – عصيان وتمرّد على شريعة الله. وهناك طبعاً مظاهر عديدة للخطية في حياة الإنسان نظير القتل والسرقة والزنى والكذب والتدنيس والكبرياء والحسد والطمع وعدم احترام الوالدين وغير ذلك من أمور محزنة. وبغض النظر عن الشكل الذي تتخذه الخطية فهي جوهرياً شيء واحد: إنها إجرام يُرتكب ضد الله تعالى اسمه. وقد عرّف كتاب أصول الإيمان (وهو كتاب عقائدي وصل إلينا من القرن السابع عشر حيث لُخّصت فيه المعتقدات التي نجدها في الكتاب المقدس) عرّف الخطية بهذه الكلمات القليلة: "الخطية هي التعدّي على شريعة الله أو عدم الامتثال لها". وشريعة الله هي أخلاقية في أسمى معنى, وقد سُنّت من أجل خير البشرية جمعاء. الشريعة هي وحي من الله وهي تدل على سجية الله وهي لذلك كاملة وغير متغيرة.

وكل من يرتكب خطية إنما ينق ولاءه من الله إلى الشيطان وما أقل أولئك الذين يدركون ذلك, إذ أنهم يخدمون إبليس كلما يرتكبون الخطية. يقول الكتاب في هذا الصدد: "من يفعل الخطية فهو من إبليس (رسالة يوحنا الأولى 3: 8). وعندما عيّن الله بولس الرسول للمناداة بالإنجيل بين الأمم الوثنية أفهمه بأن ذلك سيؤول إلى فتح "عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور, ومن سلطان الشيطان إلى الله." (سفر أعمال الرسل 26: 18) وقال السيد المسيح بهذا الصدد: "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية". (الإنجيل حسب يوحنا 8: 34).

ووجّه السيد المسيح كلامه للفرّيسيين (وهم جماعة دينية ناصبته العداء) قائلاً: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (الإنجيل حسب يوحنا 8: 44)

وبما أن الخطية – حسب طبيعتها – هي تَعدٍّ على مشيئة الله, ليس لنا أن نتعجب إن كان عقابها قاس وشديد. عقاب الخطية هو الموت كما ورد في سفر التكوين وهو أول سفر من التوراة: "لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت". (2: 17) وقد أخبر الله آدم عن هذا الموضوع منذ بدء التاريخ البشري. وكرر إعلان هذا المبدأ من قِبَلِ الأنبياء في كتبهم كما ورد مثلاً في نبوة حزقيال النبي: "النفس التي تخطئ هي تموت". (18: 4) وذكر بولس الرسول هذا التعليم الكتابي في رسائله ولا سيما في رسالته إلى أهل الإيمان في رومية: "أجرة الخطية هي موت". (6: 23).

كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن الموت الذي يتكلم عنه الله في كتابه هو أكثر بكثير من الموت الطبيعي والذي هو انفصال الجسد عن النفس). الموت هو انفصال النفس الأبدي عن الله الخالق. ففي هذا المعنى الأوسع يعني الموت الابتعاد الروحي نظير ما يختبره إبليس وأعوانه الشياطين. ولقد وعد الله الإنسان الأول بالثواب المفرح (أي الحياة) إن أطاعه إطاعة تامة كما ورد بوضوح ليس فقط في سفر التكوين بل في سائر أسفار الكتاب المقدس. وهذه الحياة التي وعد الله بها لم تكن مجرد حياة جسدية كما نعرفها بل إنما حياة أبدية كالحياة التي يتمتع بها الملائكة القديسون.

ومن المهم أيضاً لنا أن نرى أن الله عيّن آدم كممثل للبشرية بأسرها. ولذلك فإن جميع الناس كانوا سيستفيدون من طاعة أبيهم الأول لله أو سيخسرون من عصيان أبيهم. فالثواب لطاعة آدم أو العقاب لأجل عصيانه قد قُصِدَ منه أن يقع ليس فقط على نفسه بل على سائر الذين ينحدرون منه. وقد اختار آدم الابتعاد عن الله وعن طرقه المستقيمة وانحاز إلى جبهة الشيطان الرجيم فسقط في الخطية وصار عبداً لها, وجلب أيضاً الساد والشر على نسله. وكل ما هو في الإنسان قد تأثر من سقوط آدم في الخطية: فَقَدَ العقل مقدرته الروحية على التمييز بين الحق والباطل, والإرادة صارت مقيدة ومستبعدة وفسدت العواطف وخسرت مكانتها الخاصة ضمن الشخصية الإنسانية. وهكذا لم يكن هناك مخرج أو إمكانية للخلاص من هكذا ورطة روحية شديدة ولا أي إنقاذ من عبودية غاشمة إلا إذا تدخل الله تدخلاً علياً وحاسماً ونهائياً. وهذا بالفعل هو ما قام به تعالى في شخص السيد المسيح الذي جاء إلى عالمنا وقدّم نفسه كفّارة عن خطايانا ووهبنا هذا الخلاص, لا لأننا نستحقه شخصياً, بل نظراً لنعمته العظيمة.

ونفهم في أن عقاب الخطية كان له علاقة أساسية بطبيعة الإنسان الروحية كون آدم لم يمت (جسدياً) إلا بعد 930 سنة من عصيانه لأوامر اله, مع أنه كان قد مات روحياً حالما أخطأ ضد الله وشعر ضمن نفسه بابتعاده عن خالقه المعتني به. ليس الموت الجسدي إلا رمزاً للموت الأشد خطورة ألا وهو الموت الروحي. طبعاً كما تكلم الله عن عقاب تلك الخطية, فإنه تكلم أيضاً عن رحمته ونعمته الخلاصية لآدم وحوّاء اللذين آمنا برحمة الله فاختبرا الخلاص من عواقب خطيتهما المحزنة. ونلاحظ لدى مطالعتنا للكتاب أن ذرية آدم غير المتجددة أظهرت أنها كانت خاضعة للشر وذلك في ابتعادها عن طريق الصلاح والبر والتقوى وفي سيرها على طرق الفساد والخطية. ويصل ذلك إلى ذروة عالية في أيام نوح عندما جلب الله تعالى الطوفان على البشرية القديمة فقضى عليها بتلك الطريقة المحزنة والرهيبة ولم يبق على الأرض سوى نوح وأولاده الثلاثة مع زوجاتهم. وكانت تلك الحادثة في تاريخ العالم القديم أمثولة للبشرية وصورة مخيفة للدينونة الكبيرة التي ستتم في نهاية التاريخ لدى عودة السيد المسيح إلى العالم. إن الخطية لأمر فظيع ومخيف, لكن الله أظهر محبته لنا بمعالجته لهذه الحالة الخطيرة بواسطة السيد المسيح وعمله الكفّاري على الصليب.

  • عدد الزيارات: 4724