الفصل الثالث: مغزى أو معنى موت السيد المسيح
لا بد لكل مضطلع على الإنجيل بأن يقر بوجود تشديد كبير على تلك الحوادث التي تمت في الأسبوع الأخير من حياة الرب يسوع المسيح على الأرض. فمع أن الإنجيل يذكر بعض الحوادث المتعلقة بولادة السيد المسيح وبأيام طفولته, إلا أنه يسرد لنا بصورة مفصلة فقط ما تم في السنين الثلاث الأخيرة من حياته على الأرض. وليس ذلك فقط بل نرى بكل وضوح أن نحو ثلث الإنجيل يصف لنا بكل تدقيق تلك الأمور التي تمت في أيام المسيح الأخيرة أو الأسبوع الأخير المعروف عادة بأسبوع الآلام. وهذا لدليل قاطع بأن العمل المميز للسيد المسيح قد أنجز ليس بحياته بل بموته على الصليب. لا مثال ولا تعاليم ولا معجزات السيد المسيح كشفت وأظهرت محبة ورحمة وعدل الله ببرهان قاطع نظير موته وبالتالي أصبح الصليب أفضل رمز للمسيحية!
ماذا نلاحظ لدى مطالعتنا للإنجيل؟ نلاحظ أن السيد المسيح له المجد كان يتكلم مراراً وتكراراً وبإصرار عن الموت الذي كان سيتكبّده في المدينة المقدسة. فقد أشار البشير إلى وقت معين أثناء خدمة المسيح العلنية وقال: "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة, ويقتل." (الإنجيل حسب متى 16: 21) أما البشير لوقا الطبيب فإنه يدون ما يلي في الإنجيل المعروف باسمه: "وأخذ الإثني عشر وقال لهم: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان لأنه يسلم إلى الأمم (أي إلى الرومان عابدي الأوثان) ويستهزأ به ويشتم ويثفل عليه, ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم." (الإنجيل حسب لوقا 18: 31 - 33).
في حادثة التجلي, أي عندما ظهر مجد وبهاء السيد المسيح ظهر كل من موسى وإيليا وتكلما مع السيد المسيح عن "خروجه الذي كان عتيداً أن يكمّله في أورشليم." (الإنجيل حسب لوقا 9: 31). ويخبرنا لوقا أيضاً بأن السيد المسيح مع علمه بكل ما كان سيجري له في القدس "ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم." (الإنجيل حسب لوقا 9: 51). لم
يكن هناك ما يثني المسيح عن عزمه للذهاب إلى الصليب بالرغم من أن التلاميذ كانوا يتعجبون و"يخافون". (الإنجيل حسب مرقس 10: 32), ألم يخبرهم السيد عن حتمية الصليب والآلام قائلاً: "ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل؟" (الإنجيل حسب لوقا 12: 50).
نتعلم من هذه الكلمات الربانية ومن غيرها أيضاً أن المسيح أحب خاصته إلى النهاية. لقد أحب شعبه المؤمن به محبة غير محدودة وكان قد وفد إلى عالمنا هذا بشكل خاص من أجل فدائهم وإنقاذهم. وبما أن ذلك لم يكن ليتم بدون آلامه وموته, فانه كان يتوق بشدة إلى إنجاز وتكميل عمله الخاص. فموت السيد المسيح كان ماثلاً أمامه في كل وقت وكون العمل الرئيسي الذي جاء إلى الأرض من أجل إنجازه.
وكان القصد الخاص أو الهدف المعين لموت السيد المسيح هو الحصول على الغفران للآخرين. هذا هو تعليم الكتاب الصريح: "لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا." كانت هذه كلمات السيد المسيح عندما أنشأ فريضة العشاء الربّاني (الإنجيل حسب متى 26: 28) وقال أيضاً السيد له المجد "لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليَبذل نفسه فدية عن كثيرين." (الإنجيل حسب مرقس 10: 45) "وأنا أضع نفسي عن الخراف". (الإنجيل حسب يوحنا 10: 15) "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي." (الإنجيل حسب يوحنا 10: 17 و18).
ولا يكفينا مطلقاً الاعتراف بالمسيح كمعلم بينما نرفضه كالمخلص والفادي الذي يُكفّر عن الخطية. جاء إليه مرة أحد زعماء اليهود الدينيين يدعى نيقوديموس وقال مرحباً بالمسيح: "نعلم أنك أتيت من الله معلمنا." لكن المسيح لم يبال بهذه الكلمات بل صرّح بكل وضوح أنه لا بد من الاختبار الروحي العميق المسمَّى بالولادة الثانية أو الولادة من فوق (أي من السماء) لكي يقدر الإنسان أن يرى ملكوت الله. وعندئذ يستطيع كل إنسان متجدد بأن يرجع أمر تجديده إلى عمل الله الخلاصي والكفّاري الذي يشكّل أساس قبول الإنسان لدى الله وسبب قدوم الروح القدس إلى حياة المتجدد. ومن المهم جداً أن نلاحظ أن نهاية العهد القديم أو النظام القديم (الذي كان في أيام ما قبل المسيح) لم يتم لدى معمودية المسيح في الأردن ولا يوم مناداة المسيح بعظته الشهيرة المعروفة بالموعظة على الجبل! تم بدء نظام العهد الجديد عندما مات المسيح على الصليب. وقد أظهر الله ذلك بصورة جلية في حادثة انشقاق حجاب هيكل القدس (والذي كان يفصل بين المكان المسمى بالقدس وقدس الأقداس).
وما نلاحظه بخصوص التعليم الكتابي عن قيمة أو مغزى موت المسيح في أسفار الإنجيل نلاحظه أيضاً في رسائل العهد الجديد التي تُظهر لنا إيمان الكنيسة في بدء تاريخها. مثلاً كان الرسول بولس يشعر ضمن حياته بأنه نال غفران الله التام بعد اختباره الفريد وهو ماض إلى مدينة دمشق. لكن الرسول لم يشعر بذلك الغفران بناء على أمر داخلي حدث في حياته الخاصة, بل نظر إلى موت المسيح كالسبب الأساسي للغفران. "المسيح افتدانا من لعنة الناموس (أي الشريعة) إذ صار لعنةً لأجلنا (أي نظراً لموته على الصليب ذلك الموت الذي كان ملعوناً في الكتاب)." (الرسالة إلى غلاطية 3: 13) وكتب الرسول أيضاً "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بِرُّ الله فيه." (الرسالة الثانية إلى كورنثوس 5: 21) وفي الرسالة إلى أهل الإيمان في رومية كتب الرسول عن المسيح "الذي قدّمه الله كفّارة بالإيمان بدمه." (3: 25) وأظهر بولس أهمية موت المسيح في هذه العبارة المستقاة من رسالته الأولى إلى المؤمنين في مدينة كورنثوس اليونانية: "لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً." (2: 2).
- عدد الزيارات: 5373