Skip to main content

الفصل الثاني: ذبيحة المسيح وقيمتها غير المحدودة

يظهر السر الرئيسي في موضوع الكفّارة في أن الله يختار بأن يقبل آلام السيد المسيح التي لم يستحقها كبديل عادل عن العذاب الذي يستحقه الخطاة. وما أن نذكر هذا المر حتى تبرز إلى الوجود بعض الأسئلة: كيف يمكن لعذاب أو آلام شخص بريء أن توضع لحساب شخص مجرم بطريقة يتحرر فيها الشخص المجرم من التزام العذاب؟ وكيف يمكن للآلام التي تحملها السيد المسيح بأن توضع لحساب أو لمصلحة شعبه وكيف يمكن لتلك الآلام بأن تكون كافية لخلاص ملايين من الجنس البشري, أو حتى لجميع شعوب العالم فيما إذا وثقوا به واتكلوا عليه للخلاص؟

إن الجواب على هذه الأسئلة وعلى ما يشابهها يتطلب منا مواجهة الحقائق الكتابية المختصة بالسيد المسيح. إنه له المجد الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس فهو إذن ذو قيمة غير محدودة وعظمته لا نهائية. وهكذا فإننا لا نتردد مطلقاً في القول بأن صلب المسيح لم يكن أكبر جريمة في التاريخ فقط, بل لو أن الجنس البشري بأسره قد صُلِبَ, لبقيَ صلبُ المسيح أشد جرماً من ذلك! ويخبرنا بهذا الصدد أشعياء النبي بأننا عندما نقابل الإنسان بالله فإنه تعالى عظيم لهكذا درجة حتى أن "هوذا الاسم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب". (نبوة أشعياء 40: 15).

ويعلّمنا الرسول يوحنا عن ألوهية السيد المسيح وعن عمله في الخليقة ما يلي: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله .... كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان .... كان في العالم وكوّن العالم به ولم يعرفه العالم". (الإنجيل حسب يوحنا 1: 1 و3 و10) ويُصرِّح الرسول بولس بأن "الله كان في المسيح مُصالحاً العالم لنفسه". (الرسالة الثانية إلى كورنثوس 5: 19) ويضيف في موضع آخر: فإنه فيه – أي في السيد المسيح – خُلِقَ الكلّ, ما في السموات وما على الأرض, ما يرى وما لا يرى, سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلِقَ. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل. (الرسالة إلى كولوسي 1: 16 و17).

وعندما يُخبرنا موسى النبي عن موضوع الخليقة في سفر التكوين نرى أيضاً دلائل تشير إلى الثالوث الأقدس: "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... فخلق الله الإنسان على صورته". (سفر التكوين 1: 26 و27) أما بولس الرسول الذي كان يكتب أثناء حقبة العهد أو النظام الجديد فإنه تكلم عن هذه الحقيقة في كلمات أكثر جلاءاً حينما قال بأن عظماء هذا العالم "صلبوا رب المجد!" (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 2: 8) أو حينما أشار إلى "كنيسة الرب" أو "كنيسة الله" التي اقتناها بدمه أعمال الرسل 20" 28). وهكذا لا نكون مغالين إن قلنا بأن صلب المسيح يسوع إنما كان جريمة فظيعة للغاية! ومهما قيل عن عمل المسيح هذا – أي عن الكفّارة – فإنه من المؤكد بأن الدّين الذي دفعه السيد المسيح لم يكن أقل قيمة مما كان قد دُفع فيما لو تُرك جميع الذين قد افتداهم المسيح ليحتملوا عقابهم الخاص!

وعندما نقرأ نحن الذين اختبرنا فداء المسيح نصَّ حادثة الصليب علينا بأن نتذكر بأننا نحن أيضاً كان لنا يد في تلك الحادثة الرهيبة لأن المسيح مات عن خطايانا نحن, وكبديل عنا – بغض النظر عما إذا كنا أو لم نكن من أولئك الذين طلبوا موته أو دقّوا المسامير في جسده الطاهر!

ويتوجّب علينا أن نُبقي أمام أعيننا هذه الحقيقة الناصعة لنستطيع فهم عمل الكفّارة الذي أتمه المسيح, ألا وهي أنه له المجد تمتع في آن واحد بطبيعتين: الواحدة إلهية والأخرى بشرية, وأنه كان قد تألم ومات على الصليب في طبيعته البشرية. لنُلقي نظرةٍ على أنفسنا: نحن البشر يتكون كل منا من شخصية واحدة ولكننا نعلم بأننا في الوقت نفسه نتمتع بطبيعتين في وحدة واحدة حيوية وهما: الطبيعة الروحانية والطبيعة الجسدية, ومهما قيل بخصوص أي من طبيعتنا يمكن قوله أو تثبيته أيضاً عن شخصيتنا الواحدة. مثلاً إن كان أحدهم صالحاً أو مفكراً أو حاذقاً أو سعيداً أو حزيناً, فأننا نقول عنه كشخص أو شخصية واحدة بأنه يتمتّع بهذه الصفات وإن كانت هذه حالات روحية أو جسدية. لنفرض أن أحدهم يزن مئة وخمسين كيلوغراماً أو أنه يتألم من ساق مكسورة أو من مرض مخيف, فإننا نقول عنه كشخص أنه يزن بهذا المقدار أو أنه يتألم من هذا المرض أو ذاك. ومع أن طبيعتنا الروحانية هي أكثر أهمية وأكثر تسلطاً من الطبيعة الجسدية إلا أنه مهما يحدث لنا في احدى الطبيعتين ينسب إلينا كأشخاص. وهكذا أيضاً في شخص أو أقنوم السيد المسيح: كانت طبيعة المسيح الإلهية أكثر أهمية وتسلطاً وسيادة من طبيعته البشرية, ولكن بما أن الطبيعتين كانتا متحدتين اتحاداً حيوياً, فما اختبره السيد المسيح في كليهما فانه يكون قد اختبره كشخص أو أقنوم واحد. وهكذا يمكننا القول بأن موت المسيح على الصليب, والذي بواسطته أنجزت الكفارة, كان حادثة هامة للغاية, بل أنها أهم حادثة في تاريخ الكون بأسره.

فعندما وقع الإنسان في الخطية كان لا بد من كفارة ما عن خطيته إن كان الله سيقوم بالعفو عن الإنسان. عدالة الله تتطلب أن يقاصص الإنسان الخاطئ. كانت الشريعة

التي وضعها الله في البدء تنص على أن قصاص الخطية هو الموت. وهذا الموت يتضمن ليس فقط هلاك الجسد بل أيضاً انفصال الروح الأبدي عن الله. وهذه الشريعة الأساسية غير قابلة لأن تلغى أو أن يبطل مفعولها. فالله لا يغير طبيعته أو ذاته وهو تعالى لا ينسى قداسته وعدله! وهكذا كان لا بد من معاقبة الإنسان عندما ثار على الله وعصي على أوامره المقدسة.

ولكن الله أظهر طريقته الفعالة لمعالجة هذه الحالة المحزنة في وضعه موضع التنفيذ مبدأ أو قانون التألم النيابي, ذلك المبدأ الذي كان يظهر بصورة حسية في نظام الذبائح الذي سنه موسى النبي في فجر تاريخ بني إسرائيل. ولكن تلك الحيوانات التي كانت تقدم كذبائح في أيام النظام القديم لم تكن في ذاتها قادرة بأن تكفر عن ذنوب وخطايا الناس. فدورها إذن كان بأن تشير وترمز إلى حمل الله أي إلى السيد المسيح الذي كان سيأتي في ملء الزمن ليقدم جسده كذبيحة مقدسة ونيابية عن سائر الذين يمثلهم من الجنس البشري.

  • عدد الزيارات: 4442