Skip to main content

ثانياً: عمل المسيح الكامل

لا بد أن يكون القارئ العزيز قد لاحظ في هذه الكلمات السامية العجيبة "خلاص ويُخلِّص" فهي تشمل الماضي والحاضر والمستقبل. فالمسيح خلّصنا في الماضي من دينونة الخطية "المسيح مات لأجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" (رومية4: 25), "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع المسيح وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت لأن القلب يؤمّن به للبرّ والفم يُعتَرف به للخلاص" (رومية10: 9و10). ويخلّصنا في الحاضر من سيادة الخطية وسلطانها فإنه بموته لأجلنا خلصنا من عقاب الخطية وباعتبار مقامنا فيه وباتحادنا معه في قيامته صار هو فينا كمصدر قوتنا وبه نتغلب على الخطية باعتبار مسئوليتنا. "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة (رو6: 1-14) فما دمنا ثابتين في المسيح كالمقام من الأموات نستمد المعونة بقوة قيامته وشفاعته وننتصر على الخطية. فإنه يقول "الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً يو15: 5. وعلى ذلك يقول الرسول "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني", والذين يسلكون هكذا قد حصلوا على الكمال النسبي ويقال لهم كاملين أعني بالنسبة إلى غيرهم, ومن هذا الوجه يقول الرسول "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا" (1يو2: 1). ولكن من الوجه الآخر نعلم أنه لا توجد عصمة مطلقة من الخطية أو كمال نهائي للإنسان على كما هو مكتوب "لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ (جا7: 20و1مل8: 46) "وإن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل إثم" (1يو: 8و9) ومن هذا الوجه يقول الرسول وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضاً". وبناءً على ما تقدم أقول إن الغاية من كلمة الله هي وقايتنا من الخطية, ولكن إن أخطأ أحد أي من أولاد الله فيوجد من يدبّر دعواه ويرد نفسه إلى سبل البرّ وهو الشفيع عند الآب يسوع المسيح البار الذي ببرّه أكمله على الصليب وصار له حق الشفاعة في المؤمنين. فليس لنا من يهتم بنا عند الحاجة إلاّ يسوع المسيح البار الجالس في السماء عن يمين الله ليشفع فينا ويجاوب ويحامي عنا ضدّ المشتكي علينا نهاراً وليلاً (رؤ12: 10), وإلاّ لما كان لنا أمل بالرجوع والقيام بعد السقوط والابتعاد. قال الرسول "من سيشتكي على مختاري الله. الله هو الذي يبرّر. من هو الذي يدين. المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً. الذي هو أيضاً يشفع فينا. لا يخفى أن شفاعة المسيح هي العمل الذي يمارسه كرئيس كهنة لأجلنا أمام الله. ومعنى الشفاعة التوسل أو بالحري تحصيل المعونة وذلك بالنظر إلى سقطاتنا وقصوراتنا الشخصية وتشكّيات الخصم علينا إذ يجتذبنا إلى الخطية بواسطة شهواتنا ثم يقدّم الشكوى علينا أمام العدل. ومن أمثلة ذلك صلاة المسيح الشفاعية لأجل بطرس الرسول كما قال الرب "سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك" (لو22: 31و32) كانت ثقته الذاتية عرضة لتجربة الشيطان فسقط في خطية الإنكار ولكن سبق الرب وطلب كل ما ينبغي لحفظ إيمانه من الفناء وأيضاً ردّ نفسه فيما بعد. وعليه فالمؤمن المُجرَّب إذا ضعف وعثر أو أُخِذ في زلة ما فله شفيع عند الآب يسوع المسيح البار يطلب لأجله ويمدّه بالمعونة والقوة ويقيمه من السقوط ويرد نفسه إلى حالة القوة والشركة وهذا هو نفس الأمر المشار إليه في موضوعنا في قوله " يقدر أن يخلِّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم.

إن ممارسة الشفاعة المذكورة متوقفة على احتياجنا إليها فإننا إذا أخطأنا لا نذهب إلى المسيح ونطلب منه أن يشفع فينا بل يبتدئ هو من ذاته ويستعمل الوسائط اللازمة لإيقاظنا وليس المقصد بذلك أن المؤمن يحصل على خلاص جديد لأن الحصول على الخلاص يصير مرة واحدة عند الإيمان بل المقصود أن المسيح كشفيع يستعمل كل ما هو لازم لإرجاع نفوسنا وردّ بهجة خلاصنا. إذ يستخدم كلمة الله وإنذارات إخوتنا والتأديبات (1كو11: 30و31) حتى يوقظنا ويحكم على أنفسنا ونعود نتمتع بالشركة الروحية التي لا سبيل لنا للتمتع بها إلاّ إذا حصلنا على التنقية- وقد أشار الرب إلى ذلك بقوله إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يو13: 8).

وليس ذلك فقط بل يُخلّصنا من كل الأحوال مهما كانت ظروفنا, فأحياناً ظروفنا تربكنا وتحيّرنا, ولكن ما هي الظروف إنها الأشياء المحيطة بنا ومهما كانت لا تستطيع أن تناطح الجوزاء أو تؤثر على جو السماء الرائق, فهي لا تتعدى الدائرة الموجود فيها كل منا, وهي ليست شيئاً أمام المخلّص العجيب القادر أن يُخلّص إلى التمام في كل وقت- في الماضي والحاضر والمستقبل في نظر الرب. فمهما يكن ماضيك أيها الأخ أو أيتها الأخت ومهما كان حاضرك ومهما يجيء به المستقبل فهو قادر أن يُخلّص إلى التمام وهو قادر أن يخلّص في كل مكان. هل يقدر أن يُخلّص في بلاد الصين؟ الشكر لله من كل القلب لأنه يقدر أن يخلّص خدامه الأمناء في بلاد الصين وفي مجاهل أفريقيا وفي كل الجهات التي يتوجه إليها الخدام الأفاضل الذين أُتيحت لهم الفرصة فاختبروا, ويستطيعون أن يشهدوا بسرور قلب عن الآب القادر أن يُخلّص في كل مكان وزمان وفي كل ظرف وفي كل حاجة.

يخلّصنا في المستقبل- كما قيل "يُخلِّص إلى التمام" أي إلى النهاية. وهذه العبارة مستعارة من معاملات الله لشعبه قديماً فإنه كان قد سبق وخلّصهم من مصر, وخلّصهم بسيره معهم في البرية, وأخيراً أوصلهم إلى كنعان أرض الموعد. وعلى هذا المبدأ يخاطب الرسول المؤمنين العبرانيين على هذا الأسلوب نظراً إلى كونهم سائرين في البرية قاصدين المجد والراحة وهم معرضون لغزو الخطية الذي من شأنه أن يسقطهم في الطريق ولكن رئيس كهنتهم قادر أن يُخلّصهم ويحفظهم إلى نهاية المسير.

ولنلاحظ هنا أنه كما دُعِي المسيح مخلصاً إلى النهاية إلى يوم مجيئه: فقيل أنه يخلصنا من الغضب كما قيل "لكن الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا, فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب. لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو5: 8-10) "فإن سيرتنا هي في السموات التي منها ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" وقد أشار الرسول بطرس إلى ذلك بقوله للمؤمنين "أنتم الذين بقوة الله محروسين لخلاص مستعد أن يُعلَن في الزمان الأخير" (1بط1: 5).

هذا هو الخلاص النهائي أو إلى التمام من جميع الأتعاب الأرضية ومن كل أثر الخطية فنصل إلى درجة الكمال النهائي "إذ نكون مثله ونراه كما هو". وعلى ذلك نسير الآن في طريقنا آمنين شاكرين الله قائلين مع الرسول "شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو15: 57).

  • عدد الزيارات: 4359