الفصل الثامن: أساليب أخرى استعملها يسوع
لم يحصر يسوع تعليمه بأسلوب واحد ولم يفضل أسلوباً على آخر إلا أنه استعمل أسلوب المثل أكثر من كل أسلوب غيره. فإذا كان قد فكر في أساليب التعليم فإنه حسبها كلها مشروعة واستعمل ما ناسب الظروف منها.
فإن ما يدعو لاختيار أسلوب معين لتعليم درس معين هو عمر الطلاب ونوع الدرس وميل المعلم. ويرجح أنَّ المعلم الناجح يستعمل جميع الأساليب وينتقل من أسلوب إلى غيره.
1-المحاضرة
يعتمد أسلوب المحاضرة على حديث المعلم وحده أو يتخلله إجابات قليلة من الطلاب ويفرض أن تكون المحاضرة تقديماً شاملاً منظماً للحقيقة لكنها قد تقصر عن هذا. وقد يستعمل معها اللوح أو غيره من المساعدات. وقد سمّى ولسون هذه الطريقة "بالأسلوب الأدبي في الصف" وسماها آخر الخطابة التعليمية.
(1) قوة المحاضرة وضعفها
لم يستخدم ولم ينتقد أي أسلوب آخر أكثر من هذا الأسلوب. وكثيراً ما نسمع محاضرة ضد استعمال المحاضرة! فلهذا الأسلوب قوة وضعف وعلينا أن نقدره بحسب استحقاقه.
تظهر قيمة هذا الأسلوب وأفضليته إذا كان عدد تلامذة الصف كبيراً لدرجة أنه لا يمكن للمعلم أن يشرك إلا بضعة أعضاء من الصف في البحث. ويرجح أن يكون تأثير التعليم في الصفوف الكبيرة أقل فاعلية منه في الصفوف الصغيرة ولذلك يستحسن ألا تكون الصفوف كبيرة. أما إذا كانت الحالة تفرض ذلك فرضاً فإن المعلم عندئذ لا يستطيع إلا أن يقدم الدرس بواسطة المحاضرة. ويفيد هذا الأسلوب أيضاً الصف الذي ليست لأعضائه المقدرة الكافية أو المستوى العلمي اللازم لمتابعة درس يعطَى بأسلوب آخر.
وله قيمة خاصة في الدروس العقائدية، وفي تقديم بعض الدروس الصعبة في العهد القديم. وكذلك يستفيد الطلاب بواسطة المحاضرة من علم المعلم وسعة اطلاعه واختباره الثمين. فياله من امتياز أن يجلس الشخص ويسمع تعليم بعض العظماء! وبإمكان المعلم بواسطة المحاضرة أن يقدم الدرس بصورة أشمل مما يمكنه في استعمال الأسئلة والأجوبة ولا تكون له إلا فرص قليلة ليحيد عن الموضوع الرئيسي أثناء المحاضرة التي تمكنه أيضاً من الوصول إلى القمة في الدرس بختام حاسم. وذلك غير ممكن إذا استخدم أسلوباً آخر.
ومن جهة أخرى نجد لهذا الأسلوب مصادر ضعف عديدة أعظمها هو أنه يحمل الطلاب على الكسل فلا يقرأ أكثرهم الدرس أبداً لا سيما إذا تأكدوا من أن المعلم سوف لا يسألهم عن الدرس. ويصح هذا القول حتى على طلاب اللاهوت. علم الكاتب صفاً من الرجال في مدرّج في المدينة فوجد أن واحداً فقط من أصل ثلاثة وستين رجلاً قد حضّر درسه. ومن الطبيعي أنهم لم يكونوا مستعدين لفترة الدرس.
وضعف آخر في الأسلوب يبدو في عدم تمكن المعلم من معرفة نتيجة تعليمه أفهم الطلاب الدرس أم لا، وفي عدم استطاعته أن يصلح أغلاطه. استنتج معلم من ثلاثة أجوبة على سؤال واحد في الامتحان أنَّ طلابه لم يفهموا تعليمه ولكنه لم يستطع أن يلحظ ذلك حينما كان يلقي عليهم المحاضرة.
وكما ذُكر سابقاً لا يتعلم الطالب بدون العمل الفكري، والعمل الفكري يتضاءل جداً خلال المحاضرة إذ يجلس الطلاب فقط ولا يشتركون في البحث بينما يلقي المعلم محاضرته عليهم.
إذاً لأسلوب المحاضرة قوة وضعف.
(2) محاضرات يسوع
استعمل يسوع المحاضرة أو الخطابة التعليمية كثيراً لا سيما في النصف الأول من خدمته حين علم الجماهير أكثر من الأفراد والجماعات الصغيرة. وألقى محاضرات على الجماهير الغفيرة وعلى الجماعات الصغيرة وعلى تلاميذه وعلى الغرباء. "وكان منبره سفح الجبل أو القارب الراسي على شاطئ البحيرة وكانت قاعته تحت سقف السماء الأزرق وكان سامعوه الجماهير التي اشرأبّت إليه أعناقهم منتبهين باشتياق...وقالوا عنه (أتى من الله معلماً)".
يذكر هورن ستين محاضرة ألقيت على الجماهير أو على التلاميذ أو على الفئتين. ألقاها في الهيكل وفي الجامع، في المدن وفي الريف، على الجبال وقرب البحيرة. وكانت مواضيعها مختلفة منها الغنى والطلاق والسبت ونشر ملكوت الله. وعلى ضوء قول يوحنا أن العالم نفسه لا يسع كل ما قاله يسوع يرجح أنه ليس لنا إلا شيء قليل من محاضراته وجزء فقط من التي ذكرت.
هناك ثلاث محاضرات تملأ كل واحدة منها أكثر من أصحاح فهي أهم محاضراته. وواحدة منها تعليمه عن الدينونة وهي تملأ أصحاحين (متى 24-25) فيها وصف ظروف مجيئه الثاني ومفاجأته والحوادث التي تتبعه. وتشتمل على قصص التينة التي لم تثمر والوزنات والعذارى الحكيمات والجاهلات. وأخرى هي تعليمه على الجبل الذي يملأ ثلاثة أصحاحات وهي معروفة أكثر من أي محاضرة أخرى (متى 5-7). فيها يبرز امتياز تعليمه على تعليم الناموس والأنبياء ويصف مواطن الملكوت وأعمال المؤمن به. اما محاضرته الطولى فهي الوداعية التي تملأ أربعة أصحاحات في إنجيل يوحنا (14-17) وهي رسالة تعزية تُخبِر بمجيء الروح القدس وتُعْلِم عن علاقة الكرم بالأغصان، والمشاكل التي سيواجهها التلاميذ، والانتصار النهائي. وقد ختمها بصلاته لأجلهم.
كانت محاضراته تثير التفكير وتفحص القلوب وكانت عملية وحيوية. وقد اشتملت على نطاق واسع في مواضيعها فبيّنت تفكيره واستعداده وهي تختلف بعضها عن بعض من حيث الأسلوب والطريقة وكانت جذابة لانتباه الناس ومرغبة في الاستماع إلى درجة أن الجموع بُهِتوا من تعليمه (متى 7: 28). وحتى الذين لم يؤمنوا به تركوه وهم يقولون "لم يتكلم قط إنسان مثل هذا الإنسان" (يوحنا (7: 46). فتأثروا من رسالته. لما ألقى السيد محاضراته استمع إليه الناس وتعلموا وزادت معرفتهم وتأثروا وتغيرت حياتهم. وكان لمحاضراته تأثير ثلاثي على الفكر والعواطف والإرادة. فكانت أهمية المحاضرة في تعليمه تساوي أهمية القصة. والحق يقال أن القصص ألفت الجزء الكبير من المحاضرة.
2-السؤال
إن أسلوب الأسئلة والأجوبة هو من أقدم أساليب التعليم وأكثرها استعمالاً ، اشتهر به سقراط وهو مستعمل كثيراً في أيام العهد القديم والعهد الجديد وقد مارسه الناس منذ تلك الأيام دون انقطاع وهو يستعمل اليوم أكثر من كل أسلوب آخر تقريباً. وكما سنرى كان يسوع يستعمله كثيراً في تعليمه.
(1) غايات هذا الأسلوب وصفاته
يستعمل هذا الأسلوب ليسبر غور معرفة الطالب وقد تكون الأسئلة فيه اعتباطية أو سلسلة منظمة لكي تبين حقائق الدرس. استعمله سقراط بنظام لكي يستمد المعلومات من الطلاب بناء على اعتقاده بان المعرفة شيء بديهي في الإنسان. فهذا الأسلوب مستعمل منذ بداية الجنس البشري ومنتشر في كل مكان بقدر ما ينتشر التعليم نفسه وهو مناسب لجميع الأعمار ولاسيما للأحداث والفتيان (10-15) فلن نستغني عنه.
تستعمل الأسئلة لعدة غايات أولاً لأنها تجذب الانتباه وتضبطه لأن الطالب الذي قد ينام أو يتجول بأفكاره خلال المحاضرة يستيقظ خلال إلقاء الأسئلة إذ لا يعرف متى يسأله المعلم سؤالاً! ففي استعمالها عنصر مفاجئ. وثانياً تثير الأسئلة التفكير إذا كانت ملقاة بطريقة جيدة. ولا يستغني التعليم عن التفكير إذ لا يتعلم أحد بدونه لأن قبول الحقائق بدون التفكير لا ينمي عقل الطالب ومعارفه.
وكذلك توضح الأسئلة الموضوع وتعمق تأثيره. والذي يجيب على السؤال يثير أفكاره ويعبر عنها أيضاً ، وهذان عاملان يساعدان في التعليم. وللأسئلة التي ليس لها أجوبة، أو أجوبتها واضحة حيث لا حاجة للجواب عليها، تأثير خاص.
ثم إن المعلم يعرف بواسطة الأسئلة أيفهم الطالب ويتذكر الدرس أم لا وهكذا يمتحن تأثير تعليمه، ويوضحه إذا كان بحاجة إلى إيضاح، ويزيد فاعلية خدمته.
لا تحصل هذه النتائج إن لم تتصف الأسئلة بالصفات التالية: أولاً يجب أن تكون الأسئلة واضحة أي بسيطة ومختصرة ومحددة يفهمها الطالب، وليس كسؤال راع تألف من 222 كلمة ولا كسؤال المعلم الذي قال: "من طارد من حول أسوار أي شيء؟".
وثانياً يجب أن يبعث السؤال على التفكير. إن الأسئلة عن المعلومات لا تكفي إذ يجاب عليها بصورة ميكانيكية كما فعل الطالب الذي رجع إلى مدرسة الأحد بعد غياب طويل ولما سأله المعلم "أين كنت في الأسبوع الماضي؟" نظر إلى الدرس وأجاب على السؤال الأول فيه قائلاً "اثني عشر كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من أورشليم". ويجب أن يلقي المعلم السؤال بطريقة توقظ انتباه التلاميذ كلهم ويستحسن عادة أن يسأل السؤال قبل أن يذكر اسم أحد وأن لا يعيد السؤال إن لم يسمعه الطالب، وأن يُسأل الطالب أكثر من سؤال واحد في فترة الدرس. ويجب أن يسأل عما يهتم به جميع طلاب الصف.
(2) أمثلة من تعليم يسوع
في أول مشهد من حياة السيد بعد ولادته وطفولته نراه يسأل الأسئلة ، إذ في سنه الثانية عشرة تركه والده في أورشليم ثم وجداه في الهيكل "جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم" (لوقا 2: 46). وظل هذا ميله إلى آخر حياته. تشير مجلة مدارس أحدية إلى مئة وأربعة وخمسين سؤالاً مسجلة له.
ويتألف جزء كبير من سجلات حياته من أسئلة وأجوبة لولاها لتغيرت محتويات الإنجيل إلى درجة بعيدة. وقد اعتمد يسوع كثيراً على هذا الأسلوب. فقد قال السيد مارل "أتى ليس لكي يجيب على الأسئلة بل ليسألها وليس ليهدئ نفوس الناس بل ليثيرها وليس ليسهل الحياة بل ليجعلها أداة التعليم". وقال ماركْوِس "اعتاد ربنا أن يلقي سؤالاً من وقت إلى آخر يهيج به طمأنينة طلابه ويثير تفكيرهم".
وفي بداية الدرس كان يسوع يستعمل السؤال ليجذب الانتباه ويتصل بطلابه ويعد عقولهم لما كان عتيداً أن يقوله. والمثال على ذلك سؤاله التلاميذ "وأنتم من تقولون أني أنا؟" (متى 16: 13-15). فأثار بهذا السؤال التأمل في شخصه وجعلهم يفكرون به وأعد الطريق لكي يعلن نفسه كابن الله.
وأيضاً حينما طلب يعقوب ويوحنا امتياز الجلوس إلى يمينه وإلى يساره بدأ تعليمه بالسؤال "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا" (مرقس 10: 35-40). وهكذا أعدهما لجوابه وكاد أن يجعلهما يجيبان على طلبهما لنفسيهما. وحينما قال للشاب الرئيس الغني الذي سال عن طريق الحياة "لماذا تدعوني صالحاً ؟" (مرقس 10: 18) كان يعد الشاب للجواب الصعب الذي أراد أن يقدمه له عن ماهية الحياة الصالحة.
استعمل السيد أسئلة عديدة في صلب درسه وكان هذا استعماله الرئيسي لها. وكانت الأسئلة التي استعملها متنوعة . كانت غايته منها أحياناً أن يحصل على المعلومات كسؤاله يعقوب ويوحنا "ماذا تريدان أن أفعل لكما ؟ " (مرقس 10: 36). وأحياناً كان يلقيها لكي يساعد الطالب على التفكير في مشكلته وحلها. فلما رأى منتقديه يراقبونه ليشتكوا عليه وهو عتيد أن يشفي ذا اليد اليابسة قال لهم "هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر، تخليص نفس أو قتل؟" (مرقس 3: 1-5). واستخدم الأسئلة لتوضيح التعليم وتطبيقه فلما اتهم الفريسيون طلابه بقطف السنابل في السبت أشار السيد بشكل سؤال إلى دخول داود وأتباعه إلى بيت الله وأكلهم خبز التقدمة الذي لم يحل لهم (مرقس 2: 23- 28).
وكذلك استخدم الأسئلة كحجج. والمثال الأعظم على ذلك هذا السؤال"فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غداً في التنور يلبسه الله هكذا أفليس بالأحرى جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟" (متى 6 : 30 ). فهو حجة تنتقل من الأمر البسيط إلى الأعظم. والتجأ حتى إلى سؤال اشتمل على معضلة لكي يؤكد نقطته فلما سأله رؤساء الكهنة والشيوخ عن سلطانه على التعليم سألهم "معمودية يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من الناس؟" (متى 21 : 25 ). فسكتوا إذ لم يستطيعوا الجواب عليه بأية طريقة بدون ان يقعوا في ورطة.
من الصعب تمييز الأسئلة للتشديد والحجة عن الأسئلة للتطبيق والحث على العمل لكن الظاهر أنه استعمل البعض خاصة للتشديد على تعاليمه. فلما ختم قصة السامري الصالح سأل المحامي المكايد "أي هؤلاء الثلاثة صار قريباً للذي وقع بين اللصوص ؟ " (لوقا 10 : 36 ). فكان السؤال للحث على العمل بقدر ما كان للاستفهام.
يشبهه السؤال الذي ألقاه على التلاميذ والذي لم يتطلب جواباً "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وأهلك نفسه أو خسرها؟" (لوقا9 : 25). لا تصريح يعادل قوة هذا السؤال. وكذلك استخدام السؤال مكرراً ثلاث مرات لبطرس "يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟" فإنه أراد أن يشدد على حثّ بطرس على رعاية خرافه.
إذاً كانت الأسئلة قريبة من محور أساليب يسوع التعليمية وكانت أسئلته دائماً عملية لا نظرية.
3- المُباحثة
من أكثر الأساليب ذكراً لليوم، ولا سيما في تعليم البالغين، المباحثة. ويُعتقَد أن هذا الأسلوب يناسب خاصة الشباب وطلاب الكلّيات. وله مكان هام في تعليم السيّد الذي لم يستعمل المباحثة بصفاتها الرسمية كما تُمارَس اليوم بل استعمل المبادئ الأساسية فيها.
1- طبيعة المباحثة وقيمتها
يكون هذا الأسلوب رد فعل عن الأسلوب الرسمي كالقصة أو المحاضرة الذي فيه يتكلم المعلم وحده، عن أسلوب التمسيح الذي فيه يعيد الطالب عن ظهر قلب مواد الدرس. ففي هذه الأساليب قد لا يفهم الطالب الحقيقة المقدَّمة له. وقد عرّف أسلوب المباحثة "بعملية الاستنتاج الممحص بواسطة تفكير الجماعة" فيحتوي على فهم الطالب الدقيق للحقيقة. وتختلف المباحثة عن التكلم العرضي بدون نظام وقصد لأن الصف يتقدم تدريجياً في البحث. وتختلف أيضاً عن الدعاية إذ يطلب المشترك الحق ولا يحاول أن يفرضه على غيره ويعتمد على العقل المستفهم. ويختلف أيضاً عن المجادلة إذ يسعى المشترك لفهم المقصود في وجهة نظر غيره وتقديرها لا لنقضها. يسعى لذلك وهو على استعداد لقبولها متى وجدها صحيحة. فالمباحثة إذاً بحث عن الحقيقة يشترك فيه المعلم والطلاب معاً.
والحالة الداعية لحل موضوع البحث يقتضي بعض المطاليب. أولاً يجب أن يكون الطلاب على مستوى واحد في التعليم تقريباً وأن يكونوا ممن يهتمون بالأمور ذاتها. وعادة تتكون الجماعة المناسبة لهذا الأسلوب من طلاب الصفين أو الثلاثة الصفوف العليا في المدرسة الثانوية ومن طلاب جامعة أو كلية. وينبغي أن يكون بينهم إجماع على ما يهتمون به لأن الموضوع يكون عادة شيء يخص أمور الجماعة الشخصية أو الاجتماعية أو الروحية. ويتطلب هذا الأسلوب أيضاً عقلا مفتوحاً لقبول الحق أنَّى كان مصدره ولتقديره ولاتخاذ ما هو جيد فيه. ومن الطبيعي أنه يجب أن تكون هناك معلومات يستمد الطلاب منها لكي يصلوا إلى نتيجة بحثهم. ولا ينكر أن المباحثة قد تقام في أقل من هذه الظروف المثالية.
وفي أسلوب المباحثة يثير المعلم أفكار الطلاب ويرشدهم أكثر مما يعلمهم. لأنه يكون المحرِّك الغير المنظور. ولا يقدم آراءه هو أو آراء كاتب ما بل يقود الصف إلى تكوين آرائهم. فمهمته هي مساعدة الصف على الاختيار من مواد الدرس لمشكلة يهتم بها الكل اهتماماً حيوياًً ثم مساعدته على إيجاد مصادر المعلومات عن ذلك الموضوع. ومن ثم يشرف على جمع المعلومات وتقديمها إلى الجماعة ويساعد على تقديرها وترتيبها ويعمل في سبيل تقديم البحث وتركيزه على الموضوع المعين وأخيراً يتأكد من الوصول إلى استنتاج ما. ووصفنا هنا ينطبق على حالة مثالية لا توجد تامة في الصف العادي.
ويظهر مما يُذكر أعلاه أن لهذا الأسلوب قيمة عظيمة. فإنه يجبر الطلاب على العمل والتفكير أكثر من أي أسلوب آخر فيعملون في سبيل اختيار الموضوع وإيجاد المعلومات وتقديرها مما يزيد التعليم كثيراً. ويشتمل الأسلوب على إنماء قوة الابتكار في الطالب فيساعد عملية التعليم وبناء الأخلاق أيضاً. وهذا ما يميز التعليم الذي ينقل أفكار المعلم إلى الطالب دون إشراكه في التفكير من التعليم الذي يحمل الطالب على اكتشاف الحقيقة بنفسه. ويستخدم هذا الأسلوب أيضاً الدافع الاجتماعي إذ يشعر كل واحد بأن له جزءاً في البرنامج واشتراكاً فيه لأنه عملية مشتركة. وكذلك تحفظ المباحثة اهتمام الطالب وتجعله يواظب على السعي في التعلم بصورة ممتازة. ويقوم الطالب بالبحث عن الحقيقة وتقدير المعلومات فتنمو فيه قوة التفكير والتقدير.
ولهذا الأسلوب مصادر ضعف أيضاً إذ لا يناسب جميع الأعمار ولا كل الحالات ولا كل أنواع الدروس ولا جميع المعلمين. لكنه ليس بعيداً عن أفضل أسلوب للتعليم ويرجح أنه الأفضل لتعليم البالغين.
(2) أمثلة من تعليم يسوع
لا نقدر أن نقول أن يسوع استعمل المباحثة بصورة كاملة رسمية كما وُصِفَت أعلاه فهو في الواقع لم يستعمل أي أسلوب بطريقة رسمية كما نفعل نحن، لكنه استعمل المبادئ والعناصر الرئيسية في جميع الأساليب وبهذه الصورة امتاز في كل تعليمه. كان عادة يستعمل المباحثة مع شخص واحد وليس مع جماعة فإذا باحث جماعة كانت المباحثة بسيطة جداً. والمثل على هذا الأسلوب معاملته السامرية عند بئر يعقوب وقد درسناها سابقاً. كان يسوع في حديثه معها يقودها في تفكيرها ويستخلص منها آراءها ويقدم لها آراءه ويساعدها على رؤية الحق الذي يقدمه لها وتقديره وعلى الإجابة عليه. فمعاملته لها مثال جيد عن المحادثة التي هي تحديد أسلوب المباحثة على شخص واحد.
وهناك مثل آخر في تعليم السيد لنيقوديموس (يوحنا 3: 1- 21). كان هذا فريسياً ورئيساً ومعلماً، ويشبهه كالكنس "بأستاذ جامعة وقاضي محكمة عليا ومطران كنيسة" فكان له موقف شرعي وأدبي ومهني. ولسبب غير معروف أتى إلى المعلم العظيم ليلاً وتقدم إليه بعد المجاملات بدون أن يصرح بموقفه تجاه يسوع.
وحالاً أثار يسوع موضوع الاختبار الروحي فأخبر القائد الديني المؤدّب بحاجته إلى ولادة جديدة إن أراد أن يرى ملكوت الله. وكانت هذه الفكرة بعيدة عن ديانة نيقوديموس الرسمية فظن أنه يشير إلى الولادة الطبيعية. ثم قال له يسوع أن عليه أن يولد طبيعياً (من الماء) وروحياً (من الروح) قائلاً "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح" (ء 6).
وعاتب المخلِّص نيقوديموس بلطف على عدم فهمه مع كونه معلماً ومن ثم وسَّع الفكر وشدد على عطية الله يسوع لكي "لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (ء 6). وتذكُر سجلات أخرى أنه استجاب لتعليم يسوع ودافع عنه أمام المجلس وأتى بعد موته بأطياب وأكفان لدفنه.
ومثال آخر عن المباحثة أو المحادثة هو معاملة يسوع للشاب الرئيس الغني (مرقس 10: 17- 22). كان هذا الشاب متعلماً دارساً للناموس وذا أموال طائلة وعضوا ًفي المجمع ولم يكتف بكل ذلك بل واجه السيد في الطريق وركع أمامه وسأله ماذا يفعل ليرث الحياة الأبدية. وهكذا أثير موضوع المباحثة، فامتحنه المعلم إذ طلب منه أن يحفظ الوصايا فأجابه الشاب أنه قد فعل ذلك منذ صغره وعرف السيد أن الطمع أصل مصاعب الشاب فقال له "اذهب بع كل ما لك واعط الفقراء ... وتعال اتبعني". (ء 21). لكن تقدير الشاب لقيمة أملاكه رُجِّع على الشعور بحاجته إلى يسوع فمضى حزيناً. وكان عمله هذا رفْض الفرصة العظيمة في حياته. لكن المعلم سمح له أن يختار لنفسه ولم يجبره.
إذاً استعمل يسوع أسلوب المباحثة لتعليم المرأة المنحطَّة والرجل الطّماع والقائد المفتخر ببرّه.
وهناك أساليب أخرى استخدمها يسوع ولكنها أقل من هذه المذكورة. فاستعمل طريقة البيان العملي لينزع شك يوحنا المعمدان في كونه المسيح (متى 11: 2- 19). واستعمل المشاريع لكي يتعلم الطلاب بواسطة العمل كما فعل بإرساله التلاميذ ليشهدوا ويشفوا (متى 10: 1- 42) وبعد ذلك بإرسال السبعين تلميذاً لمهمة نظيرها وقَبِل تقاريرهم عن عملهم بعدئذ (10: 1- 12و 17). فتعلموا بواسطة مراقبة خدمته ثم التمرين في الكرازة والتعليم والشفاء.
ونلمس في نظام محاضراته وتقديمها شيئاً من أسلوب استخدام التبويب كما في التعليم على الجبل. إذاً نجد في تعليم يسوع المبادئ الأصلية لجميع الأساليب المستعملة اليوم. وكان يتقن الكل وكان أعظم من الكل إذ "وراء كلماته وإرشاداته وأساليبه كان يسوع نفسه".
مساعدات للتعليم
التبويب على اللوح
1- المحاضرة.
(1) قوة المحاضرة وضعفها.
(2) محاضرات يسوع.
2- السؤال.
(1) غايات هذا الأسلوب وصفاته.
(2) أمثلة من تعليم يسوع.
3- المباحثة.
(1) طبيعة المباحثة وقيمتها.
(2) أمثلة من تعليم يسوع.
مواضيع للبحث
1- لماذا لا تحبذ المحاضرة كأسلوب تعليمي اليوم بقدر ما كانت تحبذ سابقاً؟
2- ما هي أعظم محاضرة من محاضرات يسوع؟ لماذا؟
3- اذكر بعض أخطار استعمال الأسئلة.
4- ما هو أول سؤال مسجل ليسوع؟
5- اذكر مباحثات أخرى من تعليم يسوع.
6- هل استعمل يسوع أسلوباً آخر غير الأساليب التي ذكرت؟
أسئلة للمراجعة والامتحان
1- اذكر نقطتي قوة ونقطتي ضعف في استعمال المحاضرة.
2- بين كيفية استعمال السيد الأسئلة في تعليمه.
3- أشر إلى ثلاث مناسبات استعمل فيها يسوع المباحثات.
- عدد الزيارات: 5180