Skip to main content

الفصل الثالث: أهداف يسوع في التعليم

إن الأهداف الواضحة والمحددة لمن أهم مقومات التعليم. وما أكثر المدرسين الذين يمضون في عملهم شهراً بعد شهر وليس أمامهم غاية سوى توصيل المواد المعينة لطلابهم فيفقد الدرس بين أيديهم حيويته وقدرته على التشويق! فالمعلم الذي لا يستهدف غاية في تعليمه يعوزه الإحكام والدقة ولا يفهم نسبة أجزاء الدرس بعضها إلى البعض ولا يجد مقياساً صحيحاً يمتحن به نتائج تعليمه. فيتخبّط في سيره ولا يعرف إذا كان قد وصل إلى ما يرمي إليه أم لا!

فلم تكن الحالة مع يسوع هكذا ولم يعلم اعتباطاً أو لأنه طُلِبَ منه ذلك فقط بل كان له قصد معين وغايات محددة أراد أن ينجزها. فإنه عرف أهدافه وعزم على الحصول عليها فسار دائباً نحوها غير هيّاب للعوائق والفشل. وقد أعرب عن غايته بقوله "قد أتيت لتكون لهم حياة" (يوحنا 10: 10) "فنشد تغيير حياة تلاميذه ثم بواسطتهم تغيير حياة الآخرين وتجديد المجتمع البشري". ويدخل في نطاق هذه الغاية الشاملة أهداف كثيرة.

1- خَلْق المُثُل الصَّحيحة

إن المثل العليا من أقدر العوامل الفعالة في الشخصية لبناء الأخلاق فإنها تكوّن المخطط والدليل لمسالك الحياة وتضبط إلى حد بعيد تصرف الإنسان كما وإن الدوافع الغريزية تخضع لها. وكثيراً ما يرفض الشاب أو الشابة تعاطي المشروبات الكحولية أو التدخين أو الرقص لسبب المثل التي يتمسك بها. فكان و. س اتيرن على صواب لمّا قال "إن المثل العليا هي الروافع التي ترفع الطبيعة الفطرية إلى مستوى أعلى". فإنها هي التي تحدد تأثير ميولنا العاطفية وتصميماتنا الجدية.

إن نتائج تعهدات ثلاثة مؤمنين مكرَّسين بأن يكونوا وكلاء أمناء لله بكل ما يملكونه تختلف عن بعضها البعض اختلافاً تاماً رغم تساويهم في الإخلاص وذلك لسبب مُثُل المتعهدين. فقد يعتقد أحدهم أن عليه أن يعطي حينما يشعر بالرغبة في العطاء فقط ولا يشعر بالواجب إلا عندما تتأثر عواطفه من عظة ما. بينما الثاني يعتقد بوجوب تقديم العشر لا أكثر ولا أقل مهما كان دخله. وقد يعتبر الثالث كل ما عنده ملكاً لله فيزيد نسبة عطائه إلى تسعة أعشار إذا ازداد دخله. وهكذا فإن مثل الأشخاص الثلاثة هي العامل الحاسم في نتائج تعهداتهم. وهكذا دائماً يحدد فهم الشخص ورأيه في قضية ما تصرفاته نحوها فإن الفهم الصحيح هو أساس الحياة السليمة والمعرفة الصائبة إنما هي ضرورية للتصرف المستقيم لأن المرء لا يستطيع أن يعيش على مستوى أعلى من فهمه ولذا فإن الذي يكون مثل الناس العُليا يعين إلى حد بعيد مصيرهم.

فمن الطبيعي والحالة هذه أن يسعى يسوع لتكييف المثل الصحيحة في الناس. فقال "كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5: 48). وشدد في الدرجة الأولى على علاقة الإنسان مع الله وسعى ليوضح لسامعه طبيعة الله وموقفه نحو البشر. فصوره كآبٍ مُحِبٍّ يضطرب لخطية الإنسان وليس كسلطان قاسي القلب غير مكترث لحاجات شعبه. وروى أمثال الدرهم المفقود والخروف الضال والابن الضال ليكشف عن شعور قلب الله نحو الضالين.

وكذلك لم يصور الإنسان كامل الكفاءة بذاته بل محتاجاً إلى تأثير روح الله المجدد الحياة إذا أراد أن يدخل إلى ملكوت الله. ويظهر هذا التعليم بأجلى بيان في حديثه مع نيقوديموس (يوحنا 3: 1- 1: 14).

وكان يهدف إلى تكييف مثل الناس لما لخَّص في تعليمه على الجبل الصفات والأعمال التي يتَّصف بها مواطن ملكوته في حياته الخاصة والعامة. فحذّر الناس من الكبرياء والحسد والغضب والنظرة بشهوة إلى امرأة. وفضلاً عن هذا التعليم أعطى أتباعه وجهة نظر في الحياة تقوِّم تصرُّفهم وهذه هي أهم أمور الحياة.

وكان الناس يزدحمون حول يسوع لأنه قدم لهم الحقائق المغذية التي احتاجت إليها قلوبهم الجائعة لتغذي فهمهم وترشد حياتهم. ويحسُن بمعلمي المدارس الأحدية أن يقتبسوا درساً مفيداً من هذا لأن تلاميذنا سيواصلون الحضور إلى صفوفنا إذا واظبنا نحن على تقديم الغذاء الروحي لهم وكما تفعل الطيور في بقعة معينة في أوربا الوسطى فإنها تتردد بانتظام إلى هناك لأن رجلاً أوصى قبل موته بأن يقدّم لها الطعام باستمرار. وهكذا سيعود طلابنا إلى مدرسة الأحد باستمرار إذا أمنَّا لهم ما يستحق الرجوع من أجله! فإن زيادة أعضاء صف مدرسة أحدية لا ترجع إلى الذين يزورون الصف بل هي مسؤولية المعلم حيث تتوقف على تعليمه المغذي ومواظبة زياراته بيوتهم. فتعليم كهذا يجذب الشخص بقوة داخلية إلى الحضور ويعمل مع الدافع الخارجي على زيادة أعضاء إلى الصف. "فلا الحماسة الشديدة ولا القصص أو النوادر ولا طلاقة اللسان تعوض عن تقديم المعرفة المغذية".

ولما كانت الأهمية في هذه الأيام تُعطَى لحل المشاكل وللتعليم الذي يمس وقائع الحياة فلنتذكر قيمة غرس الحقائق الروحية في عقول التلاميذ وبناء مثل الحياة الصحيحة فيهم، لأن مثل الحياة الرئيسية والاعتقادات القوية ضرورية لتوحيد الحياة بحسب قول علماء النفس. "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 4: 23).

2-تركيز الاعتقادات

لم يقف يسوع عند إعطاء المعرفة عن الأمور الروحية والخلقية لأنه كان يدرك أن المعرفة وحدها لا تستطيع أن تتغلب على الدوافع الغريزية والبيئات الفاسدة لأن الإنسان قد يعرف شر الزنى والسكر ومخاطر القمار ومع ذلك ينقاد إلى السقوط في إحداها أو جميعها. وقد وجد أناس في بيوت سيئة السمعة وفي جيوبهم كراريس تدعو إلى الطهارة والعفة. ومرة سار رجل متمايلاً حتى وصل إلى باحة كلية وهناك شرع يقرأ ويتكلم اللغة اليونانية بطلاقة فاجتمع حوله عدد كبير من التلاميذ وعندئذ تناول قبعته بيده وطاف بها يجمع الدريهمات من المجتمعين لشراء قليل من المُسْكِر.

وقِيْلَ أنه لا تكاد تذكر سيّئة كبيرة إلا ويكون لبعض خريجي الكليات صلة أكيدة بها كما وأن خمسمائة من خريجي الكليات قد أنقذوا من حياة الانحطاط في أحياء مدينة نيويورك وبعض هؤلاء كانوا قد ذهبوا إلى تلك الأحياء ليقوموا بأعمال صالحة لرفع المستوى الأخلاقي. لا، لم يكن يسوع ليُخْدَع فيظن أن المعرفة وحدها تصلح جميع الشرور. ولما قال "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يوحنا 8: 32) كان يخاطب اليهود الذين قد آمنوا به وجعل التقيد بكلمته شرطاً ضرورياً لهذه الحرية.

لهذه الأسباب كان يهدف يسوع المعلم إلى تركيز اعتقادات سامعيه وليس تقديم المعرفة فقط. أو بتعبير آخر كان يهدف إلى إيقاظ الشعور وإنماء وجهات النظر. وكان قصده النهائي التأثير على الإرادة. فأدرك كما ندرك نحن ضرورة حرارة الحماس مع ضرورة نور الفهم لها ليكون تأثيرها فعالاً. وعرف حاجة الإنسان إلى الشعور بالواجب نحو الحقيقة الذي يدفعه إلى السير بموجبها.

قال و. أ سكوايرز "عالجَ الحياة بكاملها وليس الناحية الفكرية منها فقط بل غَذَّى الناحية العاطفية والناحية العقلية من حياة تلاميذه أيضاً". ولهذه الغاية سعى ليُشوِّق سامعيه للبحث في مواضيع تعليمه كما سعى لجعله غزيراً بالحقائق أيضاً. ولطالما سأل أسئلة: " ماذا تظنون؟" (متى 18: 12) "ماذا تظنون في المسيح؟" (متى 22: 42). وبهذه الأسئلة جذب السامعين إلى مواصلة التأمل في موضوع معين ورغبتهم فيه وقوّى اعتقادهم فيه.

وكثيراً ما كان يوجه دعوته إلى المحبة وهي الشعور الرقيق كما فعل عندما كرر السؤال على بطرس ثلاث مرات سائلاً "أَتُحِبُّني أكثر من هؤلاء؟" (يوحنا 21: 15- 17) وأحياناً استخدم الخوف والكره أيضاً ليرسِّخ الاعتقاد والاقتناع فشدد على الثواب والعقاب وفي بحثه في الدينونة الآتية صور البعض يُطرَحون في الظلمة الخارجية: "هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (متى 25: 30).

وعلى ضوء هذا التشديد من المعلم العظيم لا يستطيع المرء إلا أن يشعر بأن تعاليمه أثّرت على سامعيه أعمق التأثير فتركوه وهم متأكدين من أهمية الحقائق التي علمها ومقتنعين بواقعيتها لأنه خلق في سامعيه إما الاعتقاد الراسخ في ما فاه به وإما المعارضة الشديدة له.

وهنا أيضاً يحسن بنا أن نقتفي خطواته فإذا أردنا أن ننجز شيئاً من تعليمنا يجب أن يترك طلابنا الدرس مُفعمين بالإدراك الجلي لقيمة ما درسوه والعزم الأكيد على العمل بموجبه وأن هذا الإدراك والاقتناع الشديد والعزم الأكيد لأمور ضرورية لإكساب الدرس الشديد والتأثير المطلوبان في عصر يستخف أبناؤه بأكثر الأمور حتى المقدسة منها. فيجب أن يقوي التعليم الاعتقاد ويرسخه فيخلق في الشباب السلاح الداخلي الذي يمكنهم من الحياة الصالحة المفيدة في وسط بيئة شريرة.

قال البحارة لوالد رديارد كبلينغ عندما أخذ أبنه_ للتنزُّه في مركب "إن ولدك قد تسلق الحبال فأصبح فوق الماء، ولا شك في أنه سيموت إذا سقط". فأجابهم "إن ذلك الولد لن يدع نفسه يسقط". وهكذا يجب أن نقوي اعتقادات طلابنا حتى لا يسمحوا أبداًَ لأنفسهم بالسقوط.

3- مصالحة طلابه مع الله

إن مهمة المعلم الأولى والعُظمى هي أن يخلق العلاقة الصحيحة بين الله الطالب أي أن يصالحه مع الله. لأن المصالحة مع الله هي العمل الديني الأساسي والأكبر شأناً في حياة الفرد. وكما أن التعليم لا يتم بدون الاستجابة إليه كذلك التعليم الديني يبقى ناقصاً إلى أن يستجيب الفرد إلى الله في الاختبار الشخصي إذ لا يمكن أن ينسجم الفرد مع ذاته أو مع غيره قبل أن يتصالح وينسجم مع الله تعالى. وهذه العلاقة الصحيحة مع الله هي الأساس الوحيد لتوحيد الحياة وتصحيحها بصورة حقيقية. وكما أن الإبرة المغنطيسية تهتز وتتأرجح إلى أن ترتكز في اتجاه الشمال هكذا يبقى الفرد قلقاً متأرجحاً إلى أن يستقر في المسيح. إذاً المصالحة مع الرب هي أساس كل بر وكل تقدم خلقي.

وينبغي أن تستوحي أعمال الحياة جميعها اتجاهها من هذه النقطة المركزية ألا وهي علاقة الإنسان مع خالقه فإن هذا الانتساب هو التكييف الأعظم في حياة كل فرد. "فروح التهذيب هو تهذيب الروح" وبالصواب قِيْل أن المشاكل الجنسية وغيرها لا يمكن حلها إلا على ضوء خوف الله ومحبتنا له ويصح هذا القول أيضاً في مشاكل ضبط النفس والاعتدال والسلم العالمي. كما قال المسيح "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزداد لكم" (متى 6: 33). وأشار إلى أهمية مصالحة الفرد مع الله أيضاً لما قال "إن لم تتوبوا (أي تغيروا فكركم) فجميعكم كذلك تهلكون" (لوقا 13: 3) ولما قال لنيقوديموس المثقف "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3: 3). هكذا نشد المسيح أولاً مصالحة الناس مع الله، وإلى أن تتحقق هذه المصالحة في حياة طلابنا نحن تظل هذه غايتنا العظمى كمعلمين.

وهذا الاختبار الشخصي يسمى ولادة أو قيامة أو استنارة أو حصول على قلب جديد أو تغيير اتجاه في الحياة. وقد يتنوع قالبه بالنسبة إلى المزاج والعمر والثقافة ودرجة السقوط في الخطية لكنه في جميع الحالات يشتمل على مصالحة الشخصية البشرية مع الشخصية الإلهية وانسجام الاثنين في علاقة صحيحة وقد يكون هذا الاختبار هادئاً أو عنيفاً، وقد يأتي فجأة أو تدريجياً وقد يكون في الأغلب عقلياً أو عاطفياً أو إرادياً، وقد يكون الدافع الأكبر فيه الهرب من الخطية أو التمسك بالبر والصلاح لكنه في كل حال هو التسليم لله والدخول في الحياة المسيحية.

وتنتج عن التجديد دوافع جديدة ورغبات جديدة وأعمال جديدة مُعَبَّراً عنها بالآية "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك" (مرقس 12: 30) فإن هذا هو الاختبار الذي يغير العالم كله ويجعل الهوتنتوت الإفريقي المجدَّد أقرب إلى النقطة المركزية في الحياة من الشخص المتمدن المثقف الذي لم يتصالح مع الله.

قالت أم الحاكم جوزف فولك "لم أعتز بجوزف يوم الاحتفال بتقليده منصباً رفيعاً بقدر اعتزازي به يوم انضمامه إلى كنيسة معمدانية". وعلى كل معلم مدرسة أحد أن يصلي ويعلم ويجتهد حتى يسلم كل تلميذ حياته لله بأقرب فرصة ممكنة وحتى يقول كل واحد كما قال الابن الضال "أقوم وأذهب إلى أبي" (لوقا 15: 18).

4- تحسين العلاقة بين الناس

تحتوي الحياة المسيحية الحقيقية على العلاقة الصحيحة مع الآخرين كما مع الله. وفي الحقيقة كلا الأمرين يجمعهما الاختبار ذاته والمسيح عندما أشار إلى الوصية الأولى أضاف إلى واجب محبة الله واجب محبة الناس قائلاً "تحب قريبك كنفسك" (مرقس 12: 13). ولما علَّم عن الثواب في الآخرة أشار إلى أنه مبني على إطعام الجائع وإرواء العطشان وإكساء العريان وملاطفة الغريب وزيارة المريض والمسجون (متى 25: 35-36). وقال يوحنا الرسول "إن قال أحد أني أحب الله وأبغَضَ أخاه فهو كاذب" (1 يوحنا 4: 20).

وعلى ضوء هذا التعليم واضح أننا نُجَدَّد كمخلوقات اجتماعية وليس كأفراد يستقل كل واحد منهم عن الآخر فعلينا أن ننسجم مع الآخرين كشأننا مع الله. وأشار هنري كينغ إلى تأثير الإيمان هذا لما قال "إن الدين مرتبط بكل علاقات البشر وميولهم وجهادهم وهو متشابك في شؤونهم جمعاء. فيجب أن نرى مجده ليس في انعزاله في برج عاجي بل في قابليته للتغلغل في الحياة وهيمنته عليها". نعم سعى يسوع لجعل الناس منسجمين مع بعضهم البعض كما سعى لمصالحتهم مع الله فينتظر منا أن نفعل كذلك.

وتحتوي مهمة تحسين علاقة الإنسان مع غيره على عدة أمور أولها تشديد يسوع على إنجيل المحبة كما ظهر في الوصية المذكورة سابقاً وكما قال أيضاً "كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً" (يوحنا 13: 34). لأنه عرف أن المحبة الحقيقية تحطم جميع الحواجز بين الناس. وحذّر من أقل بغض قائلاً "صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (متى 5: 44). إذ لا يمكن أن تقوم بين الناس علاقات صحيحة حيث تسود البغضاء فإنها نقطة الانطلاق لجريمة القتل. وشدد تشديداً عظيماً على السلام فقال "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" (متى 5: 9). وبصدد الطهارة الجنسية قال "إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (متى 5: 28).

فإن الوضع والتشديد اللذين علمهما يسوع في صدد علاقات الإنسان مع غيره يكونان عاملاً قوياً جداً في منع المسكرات وإزالة التحزُّبات العنصرية وحلّ الاختلافات بين العمال وأرباب العمل والتخلص من الحروب. فإذا كانت العلاقات السلمية تتوطد في مثل هذه الحالات فإنها لا تتوطد بواسطة السياسيين الرسميين الذين يترعون الأنخاب حول طاولات المؤتمرات بل بواسطة معلمي المدارس الأحدية وأمثالهم المنتشرين في العالم الذين يعلمون الشباب المواقف الصحيحة نحو الناس في كل مكان ومن أي لون وطبقة وطائفة.

5-مواجهة مشاكل الحياة

لم يهمل المسيح في أثناء تعليمه مشاكل سامعيه الداخلية بل سعى لحلها ولجعل تلاميذه سعداء كاملي الشخصية. "وقد كان تعليمه بنت ساعته جوهرياً وكلياً حسب ما تدعو إليه حاجات سامعيه الظاهرة في اتصاله معهم ومحادثتهم وحوادث الساعة أو اليوم". أي أن تعليمه كان يدور حول حياة سامعيه لا حول مواد التعليم. وباستثناء التعليم على الجبل كانت معظم أقواله المسجلة موجهة نحو مساعدة أشخاص على مواجهة مشاكل معينة تعرض لهم. ولم يكن يستعمل عبارات معنوية عامة كـ"دينية" أو "روحية" أو "أخلاقية" أو "ضميرية". بل شدد على الفضائل المعينة. ومن المرجح أنه حتى في التطويبات لم يلق نصائح عامة بل كان أمامه من كانت تصارعهم مشاكل الكبرياء والرذيلة والأحزان وما شاكلها.

كما أن معلم اللغة اللاتينية المسن قال انه لم يكن يعلم اللاتينية بل كان يعلم الصبيان، هكذا لم يكن يسوع يعلّم الحقائق بل علم الناس وكانت الأسفار المقدسة ومواده الأخرى وسائل فقط لبلوغ هذه الغاية. وحتى أن الآية من الكتاب المقدس التي تشدد على وحيه تشير إلى أن الكتب المقدسة لم تكون غاية في ذاتها بل إنها "نافع للتعليم ...لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح" (2 تيموثاوس 3: 16-17). "أهدف يسوع دائماً إلى التأثير على الحياة العملية لا على الفكر فقط".

وهدف يسوع إلى حل المشاكل العملية في حياة سامعيه يظهر في كل خدمته. إنه اقتبس في تعليمه من عشرين سفراً من أصل تسعة وثلاثين في العهد القديم وكل مرة فعل ذلك لكي يجد حلاً لمشكلة أو حالة تحرج تلاميذه وتضايقهم. ولما كلم السامرية عند البئر سبر غور حياتها لكي يعرف حاجتها. وعندما جابه نيقوديموس وضع إصبعه على نقطة الضعف في حياته الفريسية وعلمه درساً عن ضرورة الولادة الروحية وطبيعتها. ولما أتى إليه الشاب الرئيس الغني وسأله عمّا يجب عمله ليرث الحياة الأبدية ألقى عليه الأسئلة حتى عرف أن ممتلكاته هي مصدر مشكلته ثم أشار إلى حل تلك المشكلة.

ولعل أبرز مثال عن اهتمام يسوع بحل المشاكل العملية في حياة سامعيه هو طلب الذي أراد أن يقول يسوع لأخيه أن يقاسمه الميراث وقدم هذا الطلب في وسط حديث هام عن عناية الله. فكان هذا الطلب في غير محله في هذه المناسبة فكان الشيء الطبيعي أن يتجاهله السيد أو أن ينتهره ثم يستأنف رسالته لكن المعلم العظيم لم يفعل هذا ولا ذاك بل لاحظ قلب الرجل الطماع فانقطع عن مخاطبة الجماهير وعلمه درساً بارك به العالم كله. وعندما وصف المزارع الغني وهو يبني مخازن أكبر و يتنعم بالخيرات أجبر ذلك الرجل الجشع على تصور جشع قلبه هو (لوقا 12: 13-12).

إذا كانت مدارسنا الأحدية اليوم بحاجة إلى التشديد على شيء واحد أكثر من غيره فذاك هو التشديد على التعليم الذي يدور حول مشاكل الناس العملية لا حول مواد الدرس. فليكن شعار كل معلم "التعليم الموجه للحياة العملية". فإن المعلم الذي رفض السماح لأحد تلاميذه البالغين بإلقاء سؤال بحجة أن الوقت قصير وعليه بإكمال الدرس قد أخطأ المرسى وضل عن هدف الدرس الرئيسي إذ يجب عند الضرورة أن نترك الدرس جانباً لنعالج حاجة تلامذة الصف كما يفعل كثيرون من الوعاظ. قال جورج ترويت أنه مرة كرس كل عظته لمصلحة واحد من الحضور وكانوا كثيرين، إلا أنه بعمله هذا عالج حاجات عدد كبير من الناس، كما أن المسيح قدم ما يساعد البشرية مدى الأجيال عندما ترك عظته جانباً ليعالج حاجة ذلك الرجل الطماع.

ونحن إن كنا لم نستفد شيئاً آخر من هذا الدرس عن يسوع المسيح كمعلم يكفينا منه أن نتذكر أنه علم لكي يسد حاجات الناس.

6- إنماء الخلق البالغ

ولم تقف أهداف يسوع عند الحصول على استجابة رسمية لتعاليمه ولا عند معالجة مشاكل معينة. بل كان يهدف أيضاً إلى أن ينمي في أتباعه القوات والصفات التي تمكنهم من التغلب على ضعفائهم ورذائلهم وتساعدهم على إنماء الشخصية المسيحية القوية الموحدة. ووصف تشارلس كنت أهداف يسوع هكذا "تخليص الناس من السقوط في التجارب التي تهاجم كل رجل وكل امرأة بقوة وبسرعة، ومساعدتهم للانتصار على ميولهم التي تعصف بهم، وتخليص جابي الضرائب المتعجرف من أطماعه، وامرأة الشارع من المؤثرات التي تقبض عليها بقوة لا تقاوم". وسعى أيضاً لتنمية الفضائل الإيجابية كالاستقامة والتواضع والطهارة والأريحية والحنان والتضحية والفضائل التي تؤول لنبل الأخلاق والثبات في التصرف المستقيم والفرح في الحياة. فكان هدفه لتلاميذه الحياة المحرَّرة من الخطية إلى أقصى ما تسمح به الطبيعة البشرية.

وهناك مناسبات كثيرة تثبت القول أنه كان يهدف إلى إنماء الخلق الثابت، منها فضحه عادة الفريسيين الذين يهتمون بمظاهر التدين والتقوى الخارجية بينما يعشش الرياء والنفاق في قلوبهم. فمن أوضح صوره الكلامية وصْفُه الفريسي المتعجرف المفتخر بصلاحه بصوت عال بينما كان العشار مطأطئاً رأسه يطلب رحمه الله لأنه خاطئ. كما أسقط من حسابه الصلوات والصيام والعطاء الرسمية وأشاد بأهمية مواقف القلب بدلاً منها. وحث أتباعه على أن يتجاوزوا الاهتمام بما تفرض قوانين الناموس والأنبياء الرسمية إلى الاهتمام بدوافع القلب وغاياته إذ هي أساس الخلق البالغ.

فإن الغضب في عرفه يستوجب اللوم كالقتل والنظرة الفاسقة كالزنى نفسه، وطلب من تلاميذه أن يتكلموا الصدق بدون تثبيت القسم كما لو حلفوا، وأن يرتفعوا عن النقمة حتى إلى درجة تقديم الخدّ الآخر لصفعه ثانية، وأن يحبوا أعدائهم كما يحبون أصدقائهم.

وشبه نمو المسيحي بنمو النبات "أولاً نباتاً ثم سنبلاً ثم قمحاً ملآن في السنبل" (مرقس 4: 28). فحث بطرس ليطعم الحملان والخراف الصغيرة والكبيرة (يوحنا 21: 15- 17). وأدرك أن "السماء لا تُنال بقفزة واحدة فعلينا أن نبني سلَّماً نصعد عليه من الأرض إلى قبّة السماء ونعلو ذروتها دورة بعد دورة".

وطلب تنمية الأخلاق الكاملة الناتجة عن اختبار روحي حقيقي كامل ثابت لما شجع تلاميذه على حساب النفقة قبل أن يتبعوه، وعلى فحص محبتهم له هل هي أقوى من محبتهم لكل شخص ولكل هدف آخر، وعلى أن يتركوا كل شيء ويحملوا صليبهم كل يوم ويتبعوه. هذا لأنه اهتم بنوعية تلمذتهم أكثر مما اهتم بكمية التلاميذ وكان يزِن الناس لا يعدهم ويهتم بالنتائج الدائمة دون الوقتية.

فإذا كنا نريد أن نقتدي به يجب أن ندرك أن حقيقة استجابة طالب ما، هي أهم بكثير من سرعة استجابته وأن عملنا مع ذلك الطالب لم يكد يبتدئ حينما يقبل المسيح مخلِّصاً له لأن مهمتنا هي تنميته حتى يصبح إنساناً كاملاً إلى قياس قامة ملء المسيح" (افسس 4: 13). وهذا قصد الذي قال "يهمُّنا أن نحافظ على الذين قد رُبِحوا إلى المسيح بقدر ما يهمُّنا أن نربح آخرين" وقصد ج.ب كامبرل بقوله "إن المعمدانيِّين بشَّروا وعمَّدوا لكنهم لم يعلِّموا وأكثر متاعبهم كانت نتيجة لذلك".

7- تدريب طلابه على الخدمة

كان هدف يسوع المعلم العظيم الأخير تدريب تلاميذه على حمل تعاليمه إلى كل أنحاء العالم وكرس معظم أيامه في الجزء الأخير من خدمته لهذه المهمة. ودربهم تدريباً جيداً جداً نتج في ربحهم، هم وأتباعهم، عدداً من الأتباع أكبر مما ربحته أية جماعة أخرى من المعلمين الدينيين على وجه الأرض. وكان تعليمهم فعالاً مع أنهم لم يكونوا من محترفي التعليم كالكتبة وأساتذة الناموس. ومع أنهم لم يتلقّوا تدريباً مهنياً اكتسبوا استعدادهم في البرهة القصيرة التي رافقوا فيها يسوع فأصبحوا أهم المعلمين في العالم، إذ أن الأحد عشر تلميذاً ثم السبعين وغيرهم سيَّروا الرسالة في انتشارها العالمي وهي لم تكف عن ذلك إلى الآن. لقد شمل تعليمهم جميع أنحاء الكرة الأرضية وغيَّر مجرى التاريخ.

وهناك عدة عوامل في تدريبه إياهم، أولها مشار إليه بقوله "هلم ورائي وأجعلكما صيادي الناس" (متى 4: 19) فإنه "أقام اثني عشر ليكونوا معه وليرسلهم ليكرزوا" (مرقس 3: 14) أي أن العامل الأول والأهم في تدريبهم كان مرافقتهم ليسوع وتعلمهم منه بواسطة التمثيل به وتقليد أعماله. رأوه وهو يشعر مع الناس ويعزيهم ويشفيهم فاقتبسوا هذه الروح.

وتألف العامل الثاني في تدريبهم من الاستماع إلى تعليمه الذي لامثيل له وذلك في ظروف مختلفة وعن مواضيع عديدة. فتعلموا "بسمع الأذن". وأخيراً دربهم بإعطائهم تمريناً في التعميد ثم أرسل الاثني عشر تلميذاً في جولة تبشيرية وبعدهم السبعين للغاية ذاتها. ولما رجعوا جمعهم ليقدموا تقريراً عن عملهم لكي يشرف هو على عملهم ويرشدهم فيه.

هكذا تعلم التلاميذ وتدربوا بواسطة قدوته ثم من كلامه وأخيراً بواسطة التمرين. فلم يكن لأية جماعة من المعلمين أفضل من هذا التدريب. وحينما أصبحوا أكفَّاء للعمل أرسلهم قائلاً "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28 :19-20). ولم يسبق أن توقفت مهمة عظيمة كهذه على مثل هذا العدد القليل ولم يسبق أن أعطى عدد قليل كهذا مثل هذا الحساب الباهر عن وكالتهم.

ونحن كمعلمين يجب أن ندرك أن تدريب الآخرين هو واحد من واجباتنا، فمن صفوفنا الحالية يجب أن يخرج معلمو المدارس الأحدية وقواد جمعيات الكنائس وعمال متطوعين لكنائس الغد. وكذلك يجب أن يخرج من هذه الصفوف قسس المستقبل ومدبرو الثقافة المسيحية وعمال بين الطلاب ومرسلون للبلدان البعيدة وقواد دينيون آخرون. ومع أن القول "إننا خلصنا لكي نخدم" لا يعبر عن الحقيقة كاملة فإنه بدون شك يجب أن يدرب كل مؤمن على الخدمة ومعلم مدرسة الأحد مسؤول عن جزء من هذه المهمة.

على ضوء ما درسناه الآن نُدهَش لسعة أهداف يسوع ومدى تأثيرها. فإنها أحاطت بكل ناحية من نواحي الطبيعة البشرية-الأفكار والمشاعر والإرادة-وأثرت على جميع علاقات الإنسان-مع نفسه ومع الآخرين ومع الله-كما شملت كل ناحية من نشاطاته-الشخصية والعائلية والكنسية والمهنية. فبالاختصار نشد يسوع "رجلاً كاملاً في مجتمع كامل" وتحقيق أهدافه هذه تعني تحقيق ملكوت الله على الأرض.

 

مساعدات للتعليم

التبويب على اللوح

 

أهداف يسوع في التعليم هي:

1-خلق المثل الصحيحة

2-تركيز الاعتقادات

3-مصالحة طلابه مع الله

4-تحسين العلاقة بين الناس

5-مواجهة مشاكل الحياة

6-إنماء الخلق البالغ

7-تدريب طلابه على الخدمة

 

مواضيع البحث

 

1-أظهر أهمية المثل العليا.

2-ما الذي يضيفه الاقتناع إلى الحقيقة؟

3-لماذا تعد الاستجابة ضرورية للتعليم؟

4-كيف نوطد السلام في العالم؟

5-صوِّر بعض مشاكل الحياة التي تعرض للصف الذي تدرسه.

6-ما هي أخطاء ديانة الفريسيين؟

7-ما هي أشد أساليب المسيح التدريبية تأثيراً؟ لماذا؟

 

أسئلة للمراجعة والامتحان

 

1-اذكر شواهد من الأنجيل تبين أن المسيح كان يسد حاجات الحياة في تعليمه.

2-بين تشديد السيد على تنمية الأخلاق.

3-بأية أساليب درب التلاميذ على الخدمة؟

  • عدد الزيارات: 5957