Skip to main content

الفصل الأول: كفاءة يسوع للتعليم

لم يكن أحد كفوءاً لمهمته أكثر مما كان يسوع كفوءاً للتعليم. فإنه كان المعلم المثالي من جهة مؤهلاته كما كان كذلك من كل الجهات الأخرى. كان المعلم المثالي بصفته إلهاً وبصفته إنساناً أيضاً إذ "أنه أتى من الله معلماً" بكل معنى الكلمة. وكفاءته للتعليم تجمع عناصر كثيرة بعضها إلهية وبعضها بشرية، بعضها فطرية وبعضها إكتسابية، والتأمل في هذه العناصر ينعشنا في خدمتنا كمعلمين.

1- أنه بيّن الحق في حياته:

من أهم مؤهلات المعلم أن يكون هو نفسه مثالاً للحق الذي يعلمه. فإن القدوة تفيد أكثر من مئة عظة. ولذا يُقال "لا أسمع أقوالك لضجة صوت أعمالك" ويُقال أيضاً "أن أفضل غلاف للإنجيل هو ذلك المصنوع من جلد بشري". وأهمية جعل المعلم نفسه قدوة لنجاحه في التعليم هي ما جعل الرئيس جارفيلد يقول أن الجامعة المثالية تتكون من معلم مثالي مع تلميذ له ولو كان محل عملهما على قرمة من خشب في البرية. وقال أحد الشعراء أن المهم في التعليم ليس ما يتعلمه الإنسان بل ممن يتعلمه.

"إن الحق المبين في الحياة له وحده التأثير الفعال وعليه يجب أن يقول كل معلم أن درسه الأقوى تأثيراً هو نفسه أي حياته أمام تلاميذه." (1) هذا لأن الحق يُنقل بالتقليد أكثر مما يُنقل بالتدريس، والتأثير المعروض أفعل من التأثير المقصود، فلا يمكن أن تؤثّر كلمات المعلم أكثر مما تؤثر حياته. (2) كما أن قدرة الفأس على قطع الخشب تتوقف على ثقلها. فيجب على معلم كلمة الله أن يبيّن الحق في مجرى حياته لا أن يتكلم عن الحق فقط فيصبح تعليمه فعالاً بالنسبة إلى فاعلية حياته. إن المعلمين العظماء جميعهم هم الذين جعلوا أعمالهم شواهد وصورة مطابقة لتعاليمهم في حياتهم.

كانت حياة يسوع بيان الحق فقال "أنا هو... الحق" (يوحنا 14: 6). كان يمثل في حياته كل ما يعلمه ومهما كان موضوع تعليمه فقد كانت حياته المثل الحيّ في تطبيقه. وكان يعلم من فيضان حياته الفُضلى التي فيها طبّق كل درس قبل أن علّمه لغيره وبينه في أعماله أكثر مما بينه في أقواله. (3) قال أحدهم: "رحابة روحه اتسعت لمسح الروح القدس الكامل... فكان من ينظر إلى عينيه ينظر النور الكامل... كان له ينبوع لا ينضب من الحق والمهابة والإحسان والغيرة والصبر والمواظبة وطول الأناة... فإنه وضح للمعتمدين كيفية الاعتماد وللخاضعين كيفية الخدمة وللحكام كيف يجب أن يحكموا وللجيران كيف يجب أن يتصادقوا وللمحتاجين كيف يصلون وللمتألمين والحزانى كيف يتحملون وللجميع كيف يموتون... حقاً إنه هو المثل الأعلى لتعليم كل العصور."

نتج بيانه للحق عن أمرين أوّلهما كونه الله واقتناؤه صفات الله جميعها ولذا كان الكائن الكامل الوحيد، وبهذا اختلف عنا لا بدرجة فضائله فقط بل بجوهر كيانه أيضاً، لذلك لن نتمكن من الاقتراب إلى كماله. لكن بيانه الحق في حياته نتج أيضاً عن درسه الحق وتأمله فيه واختباره إياه حتى أصبح الحق جزءاً من نفسه. كما قال البشير "كان يسوع يتقدم في الحكمة" (لوقا 2: 52). فإنه كان يتعلم كابن كأخ في البيت وكتلميذ وكمشترك في المجتمع. تعلم من اختباراته في الحياة اليومية وتعلم من التجارب التي جربه بها إبليس- قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين "لأنه لاق بذاك (أي الله)... أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام" (عبرانيين 2: 10).

وأثر تجسد الحق في حياة يسوع على تعليمه من ناحيتين على الأقل. أولاً كان الحق المبين في حياته يدخل إلى تعليمه نغمة السلطان التي لم يكن لها مثيل في تعليم الكتبة والفريسيين أي المعلمين المعترف بهم في تلك الأيام. لأن علمهم كان إجمالياً من مصادر خارجية، وكانوا قد استمدوا مما سمعوه فكانوا يعلمون بواسطة الاقتباس من الثقات. أما علم يسوع فكان من الداخل من صميم حياته ولم يكن بحاجة إلى ما يدعمه. وعليه كان يعلم بجلاء ويقين وقوة. "فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مرقس 1: 22).

وكانت أعماله المثالية في حياته تخلق الثقة بتصريحاته في قلوب سامعيه لأنهم رأوه يمارس ما طلب منهم أن يمارسوه. شاهدوا كيف أنه واجه الحزن والانتقاد وخيبة الأمل والاضطهاد فكانت حياته العملية توضح وتعزز كلامه. "فإن أعظم ما استفاده تلاميذه من تعليمه لم يكن عقيدة ما أو تعليماً ما بل كان تأثير حياته عليهم. ومجرد حضورهم معه كان العامل الكبير في حياتهم حتى ساعتهم الأخيرة."(5) "فأقام اثني عشر ليكونوا معه" (مرقس 3: 14).

أما نحن المعلمين من بني البشر فباستطاعتنا أن نبين تأثير حياة يسوع الساكن فينا وهكذا فقط نكون أكفّاء للتعليم من هذه الناحية.

2- أنه جاء لكي يَخدم:

من أهم مؤهلات المعلم الاهتمام بالآخرين والرغبة في مساعدتهم فإن أعوزه هذا الاهتمام وهذه الرغبة فإنه يصبح "نحاساً يطن أو صنجاً يرن". ومهما امتاز في معرفة الكتاب المقدس وفي تفهم الطالب وفي المهارة في أساليب التعليم فلا شيء من هذه يعوّض عن عدم الاهتمام بصالح الآخرين. وكذلك الاهتمام بأن يكون الصف كبيراً وبأن يكتب له النجاح في العمل أو بأن يتقن الطرق المستحدثة في التعليم لا يحل محل الاهتمام القلبي بالأفراد.

ومن جهة أخرى فإن المحبة والرغبة في خدمة الطالب تعوضان إلى حد بعيد عن الضعف في العلم وأساليب التعليم. عرف المؤلف من معلمي صفوف الفتيان في المدارس الأحدية (أي الطلاب من السن الثالثة عشرة إلى الخامسة عشرة وهي أصعب سن للتعليم) معلمين كان ينقصهم تقريباً كل مؤهلات التعليم ما عدا المحبة لطلابهم وكانت هذه المحبة وحدها تكسبهم النجاح والتأثير الفعال، لأن الطلاب يدركون إما عاجلاً أو آجلاً اهتمام المعلم فيقابلونه بالمثل. إن المحب محبوب من الجميع.

من الأمور البارزة في شخصية يسوع اهتمامه بصالح الآخرين. إنه لم يكن يعطي للمذاهب والفرائض والأنظمة والأبنية والمفروشات والأدوات الأهمية التي كان يعطيها للأفراد. رآهم "كخراف لاراعي لها" (مرقس34:6). فلما انتقد الفريسيون تلاميذه على فركهم القمح في السبت دافع عنهم بقوله "السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت" (مرقس 27:2). ولما أوقفه الشاب الأناني البخيل في الطريق ليسال عن طريق الحياة يُقال أنه "نظر إليه يسوع وأحبه" (مرقس 21:10). ولما تضرع إليه الرجل المصاب بذلك المرض الكريه (البرص) رقّ له قلب يسوع فمدّ يده ولمسه ( مرقس 41:1). وكان يتحنن على الكتبة المنتقدين والفريسيين الحاسدين وعلى العشارين المبغضين والخطاة المحتقرين وعلى العميان والطرش والعرج.

كان يسوع يحب الناس ويهتم بمشاكلهم. قيل عنه "انه عبر عن محبة الله وجسدها وأشفق على الناس في مصائبهم جميعاً" (6) فلم يكن يشفق عليهم فقط بل رغب في إعانتهم في تلك المصائب. "لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (متى 28:20). صرف النظر عن تعبه لكي يكلم امرأة منحطة، عند البئر، عن ماء الحياة، ولم يعتبر زيارته لبيت العشار المكروه أمراً يحط من مكانته. واجه انتقاد قواد الدين له في معاشرة الخطاة وأظهر اهتمامه بالضالين في أمثال الخروف الضال والدرهم المفقود والابن الضال. رقت عواطفه للعالم المحتاج ومد له يد الخدمة والمعونة.

إن الرغبة في الخدمة كانت من مميزات كل معلم عظيم خلال جميع العصور. ويصح هذا القول على بانتاينوس مؤسس المدرسة المسيحية الأولى في الإسكندرية قرب جامعة وثنية ، وعلى بنديكت مؤسس النظام التعليمي في "مونته كاسينو" الذي أثر على حياة أوروبا مدة ثلاثة قرون، وعلى جرارد غروث مؤسس جمعية دعيت "بجمعية أخوة الحياة المشتركة" لتعليم أولاد الفقراء، وعلى لويولا مؤسس النظام اليسوعي لتعليم الشباب وعلى روبرت رويكس مؤسس حركة المدارس الأحدية التي قد انتشرت إلى أقصى المسكونة. إن الرغبة في خدمة الآخرين لا يُستغنى عنها في التعليم الموفق.

3- أنه وثق بفاعلية التعليم:

اعتبر يسوع التعليم الفرصة العظمى لتشكيل المثل العليا في الناس وعقليتهم وتصرفاتهم ولذا فإنه لم يكن أولاً واعظاً أو مصلحاً أو حاكماً بل كان أولاً معلماً. ومع أنه لم ينتمي إلى مهنة التعليم كالكتبة والأساتذة الذين كانوا يفسرون الناموس بأدق التفاسير لكنه كان يعلم. لم يكن يهيج الغوغاء ولم يلتجئ إلى إثارة عواطف الجماهير ولا إلى الفرائض والطقوس ولا إلى المناورات السياسية بل اعتمد عملية التعليم والتدريب المطولة. قال أحدهم "كان عمله الرئيسي التعليم. فكثيراً ماكان شافياً وتارة كان صانع عجائب وطوراً واعظاً لكنه دائماً معلماً.ولم يعلم في أوقات فراغه من أعماله الأخرى بل قام بأعماله الأخرى في أوقات الفراغ من التعليم، لأنه جعل التعليم وسيلته الأولى للفداء" (7).

ومما يبين تقدير يسوع للتعليم كوسيلة لتأدية مهمته هو أنه كان معروفاً عند الناس كافة "بالمعلم" فنرى في الأناجيل أن تلاميذه ومعاشريه عرفوه كمعلم.(8) دُعي "معلماً" لما قال له نيقوديموس "يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً" (يوحنا 2:3) ولقب بهذا اللقب لا أقل من خمس وأربعين مرة في الأناجيل ولم يلقب "بالواعظ" أو "الكارز" مرة واحدة. ويقال أنه إذا عددنا كل لقب له معنى "معلم" لكان العدد واحداً وستين،(9) منها أربعة وخمسون لقباً أخذت من الكلمة اليونانية التي تعني "معلم مدرسة"(10) ويقال أنه ورد في خمس وأربعين مرة أنه كان يعلم، وفي إحدى عشرة أنه كان يكرز وكثيراً ما ذُكرت الكرازة مع التعليم كما قيل عنه أنه كان "يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت" (متى23:4). وسماه "معلماً" لا الاثنا عشر تلميذاً فقط بل تلاميذه الآخرون أيضاً وحتى أعداؤه. (11)

وكذلك كان يسمي نفسه معلماً قائلاً "أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأنني أنا كذلك" (يوحنا 13:13). وسمى نفسه أيضاً "بالنور" الذي يشمل معنى التعليم. وجديرٌ بالذكر في هذا الصدد أن نلاحظ أن يوحنا المعمدان سمي دائماً بكارز لا بمعلم.(12)

وهناك إشارة أخرى إلى الأهمية التي أعطاها يسوع للتعليم وهي الألقاب المطلقة على أتباعه فلم يُدعَوا خاضعين له ولا خُداماً ولا رُفقاء. ولم يوصفوا باللقب "مسيحيين" إلا ثلاث مرات في العهد الجديد وفي إحداها سموهم بهذا الاسم احتقاراً لهم. أما لقب "تلاميذ" فمستعمل 243 مرة ورسالته معروفة بلفظة "تعليم" (تسعاً وثلاثين مرة) وبلفظة "حكمة" (ست مرات) وهي غير معروفة بلفظة "خطاب" أو "وعظ" وحتى العبارة "الموعظة على الجبل" غير واردة في العهد الجديد بل يقول متى "ففتح فاه وعلمهم" (متى2:5) فيجب أن تسمى "التعليم على الجبل"!

يتضح تشديد الرب على التعليم أيضاً في تحمسه ونشاطه في التعليم فإنه كان يعلم في كل مكان-في الهيكل وفي المجامع وعلى الجبل وعلى شاطئ البحيرة وإلى جانب الطريق وقرب البئر وفي البيوت وفي المجتمعات وفي الاختلاء مع أفراد. وقد يخْلُ بساعاته حتى على عمل الشفاء عندما كان يرى أن بإمكانه أن يستخدمها في تقديم رسالته. (13) ويقول متى "كان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (متى23:4). كان يخلق في اجتماعاته جواً تعليمياً لا جواً خطابياً مثيراً لأن الناس شعروا بالحرية في أن يسألوه أسئلة وكان هو بدوره يسألهم أسئلة.

ودرب يسوع جماعة من المعلمين لكي يواصلوا عمله من بعده "وفي الأيام الأخيرة من خدمته العامة كرس نفسه لتعليم الجماعة الصغيرة من الذين تبعوه" (14) وأمر هؤلاء التلاميذ أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم (أي أن يجذبوهم إلى دخول مدرسة المسيح) ويعمدوهم (وهي فريضة تعليمية) ويعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصاهم به (متى 19:28-20) فكان ليسوع الثقة التامة بفاعلية التعليم وهذه الثقة هي صفة لا غنى عنها في صفات المعلم. فإنه كرس نفسه للتعليم وهكذا قدس إلى الأبد هذا العمل. "فإن مجد مهنة التعليم الأعظم هو أن يسوع المسيح لما واجه مهمة حياته اختار أن يكون معلماً". (15)

4-أنه أحاط بالكتاب المقدس علماً:

إن الإحاطة التامة بمعرفة الكتاب المقدس هي شرط ضروري لنجاح المعلم، لأن هذا الكتاب هو المادة الرئيسية في عمله. وقد كان يسوع من هذه الناحية حائزاً على كل المؤهلات كما ظهر ذلك حين تجربته في البرية لأنه قابل محاولة إبليس لإيقاعه في فخ بكلمات الكتاب المقدس (متى1:4-11). وفي أثناء خدمته العامة اقتبس من عشرين سفراً من أسفار العهد القديم على الأقل وبيّن أن محتوياتها كانت مألوفة لديه. وفضلاً عن ذلك فإنه كان يعرف الكتب معرفة جيدة لدرجة أنه قابل بين نقصها وكمال تعليمه هو (متى 17:5-48). ولم يكن يعرف الكتب فقط بل سبر أعماقها واكتنه معانيها ومراميها حتى استطاع أن يطبقها بسهولة على حوادث أيامه.

ولم يحصل يسوع على معرفة الكتب معرفة كاملة لأنه إله فقط بل لأنه درسها. ولقد بادر إلى ذلك من طفولته في بيت يهودي جوه التقوى والتعليم. وقال واحد عن اليهودي التقي "حتى الأعمال البيتية التي قامت بها الأم كانت تكوّن أخلاق أولادها وتعدلها بحسب التعليم الوطني" (16)

ويقول آخر "بينما ينام الطفل اليهودي على ذراعي أمه تجذب أنظاره عدة حاجات بيتية فتفسر له أمه معناها الديني" (17) ومن جملة العادات المألوفة في البيت تقبيل الأصابع التي لمست أوراقاً من الكتاب المقدس معلقة على قائمة الباب أو إلى الذراع أو الجبين. وهناك هدب ثوب الاب الملون الذي يذكر بوصايا الله، والصلوات اليومية وتقديم الشكر لا سيما عند تناول الطعام وحفظ فرائض السبت وبينها إشعال النار والمشعل السبتي وهناك الأعياد السنوية كعيد الفصح وعيد المظال وتقديم أبكار القطيع لله بكل رزانة ووقار. فتعلم يسوع الكتاب المقدس في بيته وكان ينمو في الحكمة كما في القامة. "فظهرت من وراء كل جملة فاه بها تربيته في الناصرة".

وتعلم أيضاً في المجامع التي لم تخل قرية من واحد منها في أيامه. وقد كان ذهاب الصبيان والرجال إلى المجمع عادة مستحبة إن لم يكن فرضاً إجبارياً. فقال لوقا "دخل المجمع حسب عادته يوم السبت" (لوقا16:4). وكانت تقام الاجتماعات في المجمع في السبت ويوم الاثنين ويوم الخميس وفي الأعياد وأيام الصوم وكانت هذه الاجتماعات تعليمية. فكان يقرأ أحد الرجال من الناموس (الأسفار الخمسة الأولى) ويفسره واحد عدداً عدداً ويطبقه على حياة الناس. وهكذا كانوا يقرؤون الناموس كله مرة كل ثلاث سنوات ونصف السنة كما ندرس نحن الكتاب كله بترتيب في صف البالغين في المدارس الأحدية. وبعد قراءة الناموس وتفسيره في الاجتماع كان قارئ يقرأ من أسفار الأنبياء ثم يفسر القراءة كل ثلاثة أعداد معاً. وهذا هو الجزء من الاجتماع الذي في خلاله قرأ يسوع في مجمع الناصرة كما يذكر لوقا (17:4-19). وأحياناً كان بعض الحضور يسألون أسئلة وغيرهم يجيبون عليها. وإضافة إلى هذا كان الجميع يتلون أقساماً من الأسفار المقدسة معاً. فهكذا تعلم يسوع الناموس والأنبياء واستطاع أن يرد على معلمي الناموس بالسؤال "ألم تقرأوا...؟"

وكانت تقام في المجمع مدرسة ابتدائية للصبيان يتعلمون فيها ستة أيام في الأسبوع. وفتح مثل هذه المدرسة مطلوب من كل مجمع فيه خمسة وعشرون طالباً أو أكثر وكان حضور الطلاب إجبارياً. وكان الصبي يدخل المدرسة في سنه السادسة ويستمر في دراسته إلى سنه العاشرة. وكان يبتدئ بسفر اللاويين ويدرس الناموس والتاريخ والأنبياء والشعر وبهذه الطريقة درس يسوع التعاليم الدينية والأخلاقية والطقسية. ثم من سنه العاشرة إلى الخامسة عشرة درس تفاسير الناموس الشفهية. وحينما أكمل ثلاث عشرة سنة أصبح "ابن التوراة" وعضواً مسؤولاً في المجمع.

فقال واحد عن يسوع "أنه حفظ الكتب المقدسة كلها غيباً تقريباً كما يظهر من اقتباساته ومن إشارته إلى الناموس وإلى أسفار أشعياء وأرمياء ودانيال ويوئيل وهوشع وميخا وزكريا وملاخي وأكثر من الكل إلى سفر المزامير".(18) واستطاع يسوع أن يقف أمام الأساتذة في الهيكل في سنه الثانية عشرة وأيضاً أمام أصرم منتقديه في كل حين.

5-أنه فهم الطبيعة البشرية:

يُطلب من المعلم مع معرفة الكتاب المقدس فهم الطبيعة البشرية، ومن بعض النواحي كان هذا الفهم أهم من معرفة الكتاب لأن المعلم لا يقدر أن يطبق الكتاب على الحياة إن لم يفهم الطالب وحاجاته. ومن يعمل مع الطبيعة البشرية يجب أن يعرف عنها شيئاً. فكما أن الطبيب يحتاج إلى فحص المريض قبل أن يصف له الدواء كذلك يحتاج المعلم إلى معرفة الحياة البشرية ومشاكلها قبل أن يطبق عليها الدواء الكتابي. فبالحقيقة أن الطلاب أهم من المادة، والكتاب المقدس ذاته يعطى للتعليم والتقويم والتأديب "لكي يكون إنسان الله كاملاً" (2تيموثاوس17:3). إذاً من الأمور الهامة جداً أن نفهم الأشخاص الذين نعلمهم.

أما يسوع فلم يكن يعرف فقط عقلية الشعب العامة بأجزائها وأقسامها، بل كان هو نفسه خبيراً ذا نظر ثاقب يدخل إلى قلب الفرد وإلى حركات أفكاره الداخلية. كما يقال "لأنه علم ما كان في الإنسان" (يوحنا 25:2) أو بحسب ترجمة موفت "علم جيداً ما في الطبيعة البشرية". والإنسان لن يعرف كل ما يحتويه هذا القول من معنى إذ لا شك في أن المعلم العظيم قد سبر غور الحياة البشرية فاستطاع معرفة سامعيه أصالحون هم أم طالحون، منتبهون أم ساهون، أصدقاء له أم أعداء، مهتمون بتعليمه أم مهملون، فاهمون تعاليمه أم مرتبكون من تأثيرها موافقون على ما قاله أم معارضون له. ولولا هذه المعرفة لم يكن تعليمه فعالاً وقيماً ولكان وقع مراراً في الشرك الذي أعده له أعداؤه. كما وأنه بواسطة هذه المعرفة فهم مقدرة تلاميذه وحاجاتهم ومواقفهم ودوافعهم وبواسطتها استطاع أن يعلمهم على ضوء ظروفهم وحاجاتهم. فكانت معرفته هذه الفطرية من جهة أسلوبه في التعليم السبب الأول لقدرته العجيبة في التعليم.

وتشهد بضع حوادث لفهمه الثاقب للطبيعة البشرية حتى ولأفكار الناس. فلما قال الكتبة في أنفسهم إنه يجدف بقوله للمفلوج "مفغورة لك خطاياك" علم يسوع أفكارهم وقال "لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟" (متى 9:4). ولما تذمر تلاميذه على قوله "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم"-"علم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال...منكم قوم لا يؤمنون. لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه" (يوحنا6 : 61 و64).

ولما أراد الفريسيون والهيرودسيون أن يوقعوه في فخ "علم رياءهم وقال لهم لماذا تجربونني؟" (مرقص 12 : 15). ولما رأى نثنائيل قال "هو ذا إسرائيلي حقاً لا غش فيه" (يوحنا1 :47). وما طلب من السامرية أن تدعو زوجها وأجابته ليس لي زوج قال لها: "حسناً قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك" (يوحنا 4 :17 -18). حقاً إن يسوع عرف الناس وكان هدفه من تعليمهم أن يسد حاجاتهم العميقة المخبأة التي في أحيان كثيرة لم يدركوها هم أنفسهم.

6- أنه أتقن فن التعليم:

لا نؤكد هنا أن يسوع درس أساليب التعليم وطرقه عمداً ثم سعى لتطبيقها. إن ذلك من المحتمل ولكن ليس من المرجح وبالرغم من عدم درسه هذه الأساليب كان يُتقنها ويستعملها بدون تكلُّف وبدون جهد فكان سيد أساليب التعليم وذلك إما عن طريقة البداهة أو طريقة الاقتباس. ومع أنه لم يشر إلى مبدأ نفساني ولا إلى نظرية تعليمية ولا إلى طريقة تلقينية فإنه كان خبيراً، وتحت إمرته جميع هذه الأمور فاستعملها بطريقة فعالة كما وأنه استخدم أساليب التعليم كلها بصورة مؤثرة وبدون تكلف وكأنها خرجت عنه طبيعياً. وكان يواجه كل فرصة للتعليم بكل قدرة وحذاقة تامة ويختار لها الطريقة المناسبة. وهكذا سبق جيله لدرجة أن أستاذاً في عصرنا سمى كتابه "أساليب تعليم يسوع في يومنا هذا" فإن أمهر المعلمين اليوم لم يلحق به بعد وسنستمر نتعلم منه طرق التعليم.

ويظهر إتقانه لفن التعليم باستعماله من وقت إلى آخر كل أسلوب مُستَعمل الآن تقريباً أو على الأقل المبادئ الأساسية فيها – استعمَل السؤال، والمحاضرة، والمَثَل، والمحادثة، والمباحثة والرواية، والأمر الملموس، والمشروع، والتمثيل. وسندرس هذه الأساليب بتفصيل أكثر فيما بعد. ويظهر إتقانه لفن التعليم أيضاً في تنسيقه أجزاء الدرس إذ نجد عندما نحلله إلى أجزائه المقدمة ثم صلب الموضوع ثم الختام كما هو الترتيب المرعي المستحسن اليوم. وسندرس هذه التنسيقات أيضاً فيما بعد.

كان يقدم موضوعه مباشرة ويوضحه بجلاء ويطبقه تطبيقاً جيداً. حقاً كان متقناً لفن التعليم. ويحسن بنا أن نقتدي به في إتقان فن التعليم. فإن التكريس والحماسة والأمانة لا تعوِّض عن معرفة أساليب التعليم ولا تُغنِي عن ضعف في تنسيق أجزاء الدرس. إذ ليس فن التعليم فِطرة بل هو أن يساعد هذا الكتاب المعلمين في هذا السبيل. وعلى المعلم أن يدرس كتباً أخرى عن التعليم ويتقنها وأن يدرس كتباً عن الطلاب وحاجاتهم لأن الله – مع كون الأمور الأخرى متساوية – يستطيع أن يستعمل المعلم المدرب أكثر من غير المدرب. ونحن مدينون لأنفسنا ولطلاب صفوفنا بإجادة التعليم على قدر الإمكان. إذاً وبناء على بيان يسوع للحق في حياته، ورغبته في خدمة الآخرين، وثقته بفاعلية التعليم، ومعرفته الكتب المقدسة والطبيعة البشرية، وإتقانه فن التعليم، فإنه كان أكثر معلمي العالم كفاءة. كان المعلم العظيم بل المعلم الذي لا نظير له كما قال ج. ل كورزين. إنه مثالنا الأبدي الذي سنتعلم منه على الدوام ونقتبس من رسالاته وأساليبه.

 

مساعدات للتعليم

التبويب على اللوح

 

كان يسوع كفؤا" للتعليم لأنه:

1- بين الحق في حياته.

2- جاء لكي يخدم.

3- وثق بفاعلية التعليم.

4- أحاط بالكتاب المقدس علما.ً

5- فهم الطبيعة البشرية.

6- أتقن فن التعليم.

 

مواضيع للبحث

 

1- لماذا يعتبر من الأمور المهمة أن يرفق المعلم بين ما يعمله في حياته ما يعلمه في صفه؟

2- ما هي قيمة الرغبة في خدمة الآخرين؟

3- لماذا كان يسوع يثق بفاعلية التعليم؟

4- أية منظمة عصرية تشبه مدرسة المجمع أكثر من غيرها؟

5- لماذا يحتاج المعلم إلى فهم تلاميذه؟

6- كيف تعلم يسوع أساليب التعليم؟

 

أسئلة للمراجعة والامتحان

 

1- كيف أثر بيان يسوع للحق في حياته على تعليمه؟

2- بين أن يسوع كان معروفاً كمعلم.

3- أشر إلى بعض ما علمه يسوع عن الطبيعة البشرية.

  • عدد الزيارات: 7639