الفصل الخامس عشر: سفر حبقوق
حبقوق نبي الإيمان، ومعنى اسمه "قبلة" أو "عناق". ومن مناقبه أنه، مع كونه نشأ في جيل شرير واقع تحت قضاء الله وغضبه، ألقى رجاءه على الله، وتمسك تمسكاً شديداً بمواعيده المباركة. لم يحدثنا عن نفسه شيئاً سوى أنه نبي. ولكن، نستنتج من الإصحاح 3 من سفره الذي هو مزمور من تسابيح الهيكل، أن الرجل كان كاهناً يتناوب القرعة في خدمة الهيكل، وله آلات موسيقية للتسبيح "آلاتي ذوات الأوتار".
ويفتتح نبوته بآنات المتألم المستجير "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلّص" إذ قد تألمت نفسه من الفساد المتفشي في يهوذا.
أما جواب الرب فهو أنه على وشك إنـزال أحكامه ودينونته على هذه الأمة الخاطئة؛ وأنه مسخّر للفتك بها جيوش الكلدانيين وقد كانوا مشهورين بسرعة خيلهم وفرسانهم الشجعان ومن دأبهم أن يسخروا بأسراهم من الملوك والرؤساء (1: 10). وما أنبأ به أرميا عن الملك يهوياقيم بن يوشيا أنه "يُدفن دفنَ حمارٍ مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم" قد تم ولما أعاد النبي نظره إلى الدمار الذي سيقع على أمته انثنى إلى الله يسأله كأنه مرتاب في أمانته حيث يقول "ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي. لا تموت".
البار بالإيمان يحيا: ثم يسأله سؤالاً آخر: كيف وهو بار وقدوس وعيناه أطهر من أن تنظرا إلى الجور ينفذ أحكامه في يهوذا على يد أمة أشر منه؟ وبعد السؤال بقي صامتاً ينتظر الجواب من الله على شكواه. وفيما هو صامت في مرصده عاد الله إلى مكالمته، وأعلن له الجواب وأوصاه بأن يكتبه بجلاء لكي يركض قائها لأنه خبر مجيد لكل العصور ألا وهو: "البار بالإيمان يحيا". على هذه الآية الذهبية بنى الرسول بولس رسالته إلى رومية (1: 17) وغلاطية (3: 11) والعبرانيين (10: 38). أما في رومية فيفيض في شرح "البار"، وفي غلاطية "الإيمان"، وفي العبرانيين "الحياة". تكلم حبقوق عن هذا الإعلان كشيء واقع في الوقت الحاضر؛ غير أنه يرمي بنظره إلى الختام "في النهاية تتكلم ... إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي اتياناً ولا تتأخر". وورد في الرسالة إلى العبرانيين هذا الإعلان "البار بالإيمان يحيا" مسبوقاً بقوله "لأنه بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يبطئ". وختم المسيح الكتاب المقدس بقوله "أنا آتي سريعاً".
ثم إن الله عاد فأرى حبقوق أن الكلدانيين الذي يعاقب بهم يهوذا سيعاقبون هم أيضاً. استعملهم الله كمطرقة ضرب بها الأمم وحينئذ انثنى إلى المطرقة فكسرها (أر 50: 23). ثم أراه يوم المسيح السعيد الذي فيه تمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر (2: 14).
صلاة حبقوق: تنتهي نبوته بهذه الصلاة مصدَّرة بوصف بليغ عن جلال الله وعظمته الصمدانية من أبدع ما جاء في الكتاب، ثم ينتقل إلى تعداد أفضال الله على شعبه الخاص حينما أسكنهم أرض كنعان وخلصهم من أعدائهم. وفي خلال كلامه يمثل خلاصاً أعظم من خلاص إسرائيل من أعدائهم يتممه ذاك الذي هو بهاء مجد أبيه ورسم جوهره.
إن حبقوق استعمل في هذه الصلاة لفظة "سلاه" ثلاث مرات والمراد تنبيه النفس إلى الصمت والإصغاء برهة في حضرة الله إلى أن تستشعر بصوته الجليل. وأشار إلى هذا المعنى بقوله "أما الرب ففي هيكل قدسه. فاسكتي قدامه يا كل الأرض" (2: 20)، وقوله "أراقب لأرى ماذا يقول لي" (2: 1). فما أحوجحنا إلى تعلم هذا الدرس أي الإصغاء في محضر الرب وتوجيه النفس إليه بكليتها حتى نعطي له فرصة إلى محادثتنا!
اكتشفوا أخيراً أن بزوغ الأشعة يعمل صوتاً كما أسلفنا بيان ذلك في إبداء ملاحظاتنا على قلوب أيوب ترنمت كواكب الصبح معاً ولكن لا يسمع صوتها إلا بآذان أدق من آذان البشر. فمن باب أولى ينبغي لنا أن نصمت ونفتح آذاننا في محضر الرب حتى نسمع صوت أنواره الإلهية تبزغ في آفاق قلوبنا!
وجدير بالملاحظة أن حبقوق، مع كونه ارتجف من إعلانات الله ورؤاه، استند على الله مطمئناً وجعل متكله عليه عالماً أن "الساكن في ستر العلي" يقدر أن يستريح في يوم الضيق. ثم يضيف إلى ذلك بعبارة شائقة أنه مهما أظلمت الدنيا في وجهه، حتى لو أجدبت الأرض من الأثمار جميعها ومن المواشي، يفرح بالرب. قال "فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" أي بيسوع لأن معنى يسوع المخلص أو الخلاص.
- عدد الزيارات: 4305