Skip to main content

الفصل الثاني: سفر القضاة

قد أتينا هنا إلى أسوأ حالة في تاريخ الشعب المختار لأنهم تحولوا بسرعة عن عبادة الله إلى عبادة آلهة الكنعانيين الذين استبقوهم وسطهم خلافاً لما أمرهم الله. فسلط الله عليهم هؤلاء الأمم فأذلوهم، ثم عاد فرحمهم وأقام لهم عثنئيل ابن قناز أخا كالب مخلِّصاً فحارب الأعداء وغلبهم وخلص أمته. ولنا هنا درس كبير الأهمية وهو أنه مهما بلغ الفرد أو الجماعة من الدرجات العالية في التقوى والقداسة، لا يغنيهم ذلك عن الشركة مع الرب واستمداد معونته ومشورته.

يبتدئ السفر بأخبار الغلبة: طرد يهوذا الكنعانيين من البلاد وتم له الفوز عليهم لكنه لم يزل يوجد بهم بقايا إذ قيل بصريح العبارة "لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد".

وترك هذه البقايا نتيجة ضعف إيمان إسرائيل حيث قد وعدهم الرب بأن لا يقف أمامهن إنسان في ارض كنعان ولا ذوو مركبات الحديد وعلى ذلك قوله "... فتطرد الكنعانيين لأن لهم مركبات حديد لأنهم أشداء" (يشوع 17: 18).

ولنا من كلام أحد الملوك الذين غلبهم بنو إسرائيل شهادة عن عدالة الله في ضرب هذه الأمم بحد السيف وتحريمهم. ويدعى هذا الملك أدوني بازق. وبقية هذا الإصحاح تدور حول بقايا الكنعانيين الذين استبقوهم وسببوا لهم الفشل والكدر العظيم لأننا نقرأ في وقائع كل من الأسباط أنهم تركوا قوماً من السكان الأصليين وتمكنوا من ضرب الجزية عليهم لكنهم لم يقدروا على تحصيلها إلا وهم في حالة القوة.

خلاصة سفر القضاة: هذه الخلاصة متضمنة في (إصحاح 2: 11 – 23) "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب. تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت. فحمي غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم. حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم. فضاق بهم الأمر جداً. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم. ولقضاتهم أيضاً لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها. حادوا سريعاً عن الطريق التي سار بها آباؤهم لسمع وصايا الرب. لم يفعلوا هكذا. وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي. لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم ومزاحميهم. وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراء آلهة أخرى ليعبدوها ويسجدوا لها. لم يكفوا عن أفعالهم وطريقهم القاسية. فحمي غضب الرب على إسرائيل وقال من أجل أن هذا الشعب قد تعدّوا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي فأنا أيضاً لا أعود أطرد إنساناً من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته لكي أمتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها آباؤهم أم لا".

سقوط إسرائيل سبع مرات: وفي الإصحاحات 13 – 16 نجد أخبار سقوط بني إسرائيل وإنقاذ الله لهم سبع مرات متوالية. كانوا كلما يقعون في عبادة الآلهة الغريبة يقاصصهم الله بأن يسلط عليهم أمة من الأمم التي حولهم فتذلهم وتستعبدهم حتى إذا ما ندموا على شر فعالهم وصرخوا إلى الرب إلههم يعود يرحمهم فيقيم لهم مخلصاً يرد عنهم كيد الأعداء. انظر في حكمة الله وعدله: إن الله سمح للخطية التي انهمك بها شعبه أن تكون قصاصهم. فالخطية ذنب وقصاص معاً وعلى ذلك قوله "من يفعل الخطية فهو عبد للخطية". فلنحرص حتى لا ندع محلاً في قلوبنا للخطية وإلا صارت هي السيدة المتسلطة علينا.

إن ملك كنعان يابين ورئيس جيشه سيسرا ضايقا شعب الله عشرين سنة (إصحاح 4: 2 و 3) وبعد ذلك انتصر عليهم مديان وضايقوهم جداً حتى صنعوا لأنفسهم كهوفاً مغائر وحصوناً (إصحاح 6: 2). ولما استغاثوا بالله من هذه الشدائد لم يخلصهم على الفور بل بعث إليهم أولاً نبياً يبكتهم على انقيادهم السريع لعبادة الأصنام عساهم يتأثرون من تلك الخطية الفظيعة ويتوبون عنها. ثم حمي غضب الرب عليهم فأسلمهم لأيدي الفلسطينيين وبني عمون فأغاظوهم واستعبدوهم ثماني عشرة سنة (إصحاح 10: 7 و 8). ولما استغاثوا به في هذه المرة هددهم بقوله لهم: "امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها. لتخلصكم هي في زمان ضيقكم". فأثر فيهم هذا الصوت فتواضعوا وتذللوا قائلين: "أخطأنا فافعل بنا كل ما يحسن في عينيك إنما أنقذنا هذا اليوم. وأزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم وعبدوا الرب فضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" (إصحاح 10: 10 – 16).

مخلص: يا لها من صورة! صورة قوم يدمنون ارتكاب الخطايا وصورة إله لا يكف عن الصبر وإغداق نعمه! قرأنا عن بني إسرائيل أنهم سقطوا سبع مرات سقوطاً فاحشاً في عبادة الأصنام. وقرأنا أن الله خلصهم سبع مرات خلاصاً باهراً بواسطة عثنئيل وهود وشمجر ودبورة وباراق وجدعون ويفتاح وشمشون. لا شك أننا إذا تأملنا في أولئك المخلِّصين الذين خلصوا إسرائيل من مضايقيهم ومعذبيهم يتمثل لنا المخلص العظيم الذي جاء إلى العالم ليخلص الخطاة من عبودية الخطية. ووعد الله على لسان نبيه أشعياء "... فيرسل لهم مخلصاً ومحامياً وينقذهم" (أش 19: 20). بد تحنن الله وترأف على الخاطئ التعيس المستعبد لخطيته فأرسل يسوع المسيح ليخلصه.

مخلص "ولد لكم .... مخلص هو المسيح الرب (لو 2: 11)

مخلص العالم "هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو 4: 42)

مخلصي "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لوقا 1: 47)

ليس بكاف أن تعرف أن المسيح مخلص أو أنه مخلص العالم. يجب على كل من يطلب الخلاص أن يقول "بإيمان ثابت وثقة تامة أن المسيح هو مخلصي".

خطوات إلى الوراء: أخطأ بنو إسرائيل بعدم طردهم أمم كنعان وبإسكانهم إياهم في وسطهم وترضيتهم إياهم. والخطوة التالية في سقوط بني إسرائيل هي مصاهرتهم للأمم (3: 6) ثم مشايعتهم في عباداتهم. فماذا كانت النتيجة؟ فساد شامل وارتداد فاحش. فسفر القضاة والحالة هذه ينبئنا عن أسوأ حالاتهم وأظلم تواريخهم من ص 17 إلى ص 21. ليس المتن على منوال ما يقابله من سفر أخبار الأيام بل يستوفي الكلام بما وصل إليه الشعب من فساد الحال وسوء السيرة في هذا الزمان. وفي تسبحة دبورة تلميح لعله أوضح من التصريح عن رواج الرذائل والدنايا في أرضهم قالت "انقطعت الطرق وعابرو السبل ساروا في طرق معوجة خذل الحكام في إسرائيل". وفي الإصحاحات التالية نقرأ عن وقوع البلاد في الاضطراب والفوضى. تكررت أربع مرات العبارة "لم يكن لإسرائيل ملك في تلك الأيام" وتكرر مرتين قوله "وعمل كل إنسان كما حسن في عينيه. ولهذا يصح أن يعنون الجانب الأخير من هذا السفر بعنوان "الفوضى".

شريعة الله: سبب القلاقل والمفاسد مخالفتهم شريعة الله. أما كون الشريعة محفوظة عندهم كما سلمها الله لموسى فمشار إليه ضمن كل الأخبار والتعاليم. وقد خاطبهم الله كثيراً بكيفية يفهم منها أنهم عالمون بها. ففي ص 2: 1 – 3 يذكرهم الله بسابق عهده وشرائعه المقدسة. أمر الله جدعون أن ينادي بين الرجال الذين تجندوا للحرب قائلاً "من كان خائفاً أو مرتعداً فليرجع" على وفق شريعة موسى كما ورد في التثنية (20: 8) وهذه خطة رشيدة لأن فيها صيانة للجنود من أن يسري فيهم الخوف الذي في قلوب الجبناء منهم لأن الخوف داء مُعدٍ. وأمر الله أبوي شمشون أن يفيا النذر الذي نذراه. ثم إن ما ورد في سياق الكلام من الإشارات إلى الذبائح والمحرقات ونداء الشعب للقتال بالأبواق كما ناداهم إهود وجدعون وإشارات يوثام إلى زيت التقديس والمصباح والخمر لشراب التقدمة، كل هذه أدلة قاطعة على بقاء شريعة الله في أيديهم كما سلمهم إياها موسى وإن هذه الشريعة كانت في أيام الانتعاش الروحي موضوع حفاوة بالغة وإكرام. ولكن ميل الشعب في ذلك الزمان انصرف بوجه عام عن مطالعة الشريعة وسماعها فنتج عن ذلك كل هذا الانحطاط وفساد الأخلاق وسوء الحال. وهذه نتيجة لازمة في كل زمان ومكان للأمة التي تهمل مطالعة الكتب الإلهية. والتعليل الصحيح لظلمة الأجيال الوسطى والأقاليم الكاثوليكية البابوية الآن هو أن القانون البابوي حرم قراءة الكتاب المقدس على عامة الشعب.

الكتاب المقدس دليلنا الأمين: يزعم بعض المتأخرين أنه إذا كان لنا المسيح، نستغني به عن الكتاب المقدس. فنسأل هؤلاء ماذا عسانا نعرف عن المسيح بدون الكتاب المقدس. أما إن قلت أن الكتب الدينية تفيدنا فأجيب قد يخبرنا بعضها عن تاريخ المسيح ولكن بدون أن يفيد شيئاً عن شخصية المسيح وعن تعليمه وعمله. ولو كنا عرفنا المسيح بغير الكتاب ما كنا عرفنا حتى اسمه. إن المعرفة العقلية والشعور الباطني لا يكفيان لأن يكونا دستوراً للحياة المسيحية. هلا ذكرت ما ورد في سفر القضاة في هذا المعنى أن الشعب لم يحكِّم ضميره بل كان يفعل ما يحسن في عينيه؟ هذا ما تنتهي إليه كل أمة تُعرض عن كتاب الله وتعتمد على تحكيم العقل والضمير.

كاتب سفر القضاة: هو على الأكثر احتمالاً صموئيل النبي. فالسفر كتب بعد تأسيس الحكومة الملوكية في إسرائيل (كما يظهر من إصحاح 19: 1 و 21: 25) وقبل أن يأخذ داود أورشليم (1: 21) ويضمها إلى مدن اليهود (2 صم 5: 6 – 8). وعليه فقد كتب في زمن شاول الملك. ونبي ذلك المكان هو صوئيل فهو على الأرجح كاتب سفر القضاة وقوله "لم يكن ملك في إسرائيل في تلك الأيام" يفيد أن الكاتب معاصر لحكومة ملوكية تحكم بحسب شريعة الله.

ولنا في هذه العبارة معنى أبلغ، فإنها تمثل لنا دناءة قلب الإنسان الذي لا يملك عليه المسيح والذي يفعل ما يحسن في عينيه. إن الكتاب المقدس يحتوي على شريعة الله فحيثما يهمل يهمل العدل وتنعدم الأمانة من بني البشر. "بم يزكي الشاب طريقه بحفظه إياه حسب كلامك". فإهمال كلمة الله كانت العلة الوحيدة في فساد أحوال بني إسرائيل في زمن القضاة. مهما قال الإنسان أو فعل معاكساً لكلمة الله وادعى أنه منقاد بالروح مباشرة فهو ضال .. لأن الأسفار المقدسة المكتتبة بإلهام الروح هي التي تفصل بين الحق والباطل.

نحتاج في مركبنا لقطع بحر الحياة الدنيا وبلوغنا إلى الميناء بسلام إلى ثلاثة أشياء: خريطة السفر وهي الكتاب المقدس، وبوصلة الروح، ورئيس خلاصنا الرب يسوع. فمن الحماقة أن يقول الملاح لا حاجة لي إلى خريطة السفر ما دام لي البوصلة التي تعين الجهة الشمالية على الدوام كما أن الروح دائماً يمجد المسيح ودائماً لأن الروح يشهد للمسيح بما هو مكتوب في الكتاب المقدس لا بدونه. فشهادة الروح وشهادة الكتاب لازمتان معاً ومتفقتان أبداً.

عبادة الأوثان: إنما هي عبادة آلهة باطلة من مواليد الأوهام. فإن كان أحد يتصور إلهاً مخالفاً لإله الكتاب المقدس أو مسيحاً غير مسيح العهد الجديد فهو عابد صنم لا محالة.

ومن عبادة الأصنام أن نسمح لشيء محبوب عندنا أن يشغل المكان الأول من قلوبنا. فسواء كان ذلك الشيء محرماً في حد ذاته أو مشتبهاً فيه أو جائزاً بل مقدساً فبمجرد أنه يحتل من قلوبنا المكانة الأولى التي هي حق المسيح فهذا الشيء هو صنم. لما صنع جدعون أفوداً من الذهب كان قصده حميداً بدليل أنه لما دعي إلى الملك رفض وقال "الرب يتسلط عليكم"؛ ولكي يظهر أن النصر من الله لا من إنسان صنع هذا الأفود الذهبي. ولكن إسرائيل على توالي الأيام صار يعبد الأفود. ومن الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى معاشرة الأمم ومصاهرتهم الطمع في أموالهم. "والطمع عبادة أوثان" كما ورد في الكتاب المقدس.

شهود الله: لم يترك الله نفسه بلا شاهد حتى في تلك الأجيال المظلمة؛ فقد أقام لشعبه مخلٍّصين لم يكونوا رموزاً فقط للمسيح المخلص الوحيد بل شهوداً لحق الله. وفي ذلك تعليم لنا أن نكون نحن أيضاً شهوداً للمسيح. ومن أخص مزايا سفر القضاة تعليمه الصريح بواسطة الوقائع العقلية أن الله في كل زمان ومكان "اختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء ... لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه".

دبورة: اختار الله إهود وهو رجل أعسر لينقذ إسرائيل فأنقذهم. ثم اختار شمجَرَ ولم يكن معه سوى منساس البقر فضرب به ستمئة رجل وخلص إسرائيل. وأغرب من ذلك أنه عيَّن امرأة وهي دبورة لخلاص شعبه؛ فأثارت الحماسة في نفس باراق الخائر وعنفت رجال إسرائيل الذين لم يعاونوا أمتهم في أوقات الشدائد. ومن أقوالها لباراق "ألم يأمر الرب إله إسرائيل. اذهب وازحف إلى جبل تابور ... فأجذب إليك ... سيسرا رئيس جيش يابين بمركباته وجمهوره وأدفعه ليدك" (4: 6 و 7). ولما اشترط عيها باراق أنها إذا ذهبت معه للحرب يذهب أجابته "إني أذهب معك غير أنه لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها. لأن الرب يبيع سيسرا بيد امراة".

جدعون: أما قصة جدعون ففيها تشجيع عظيم. لم يكن جدعون يعتبر نفسه شيئاً "يا سيدي بماذا أخلّص إسرائيل؟ هل عشيرتب هي الذلَّى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي". "إني أرسلتك وأكون معك" "التفت إليه الرب" وقوى إيمانه بآيات مختلفة تدل على قوته الفائقة. فعناية الله بعبده والتفاته إليه وتزويده بالمواعيد المطمّنة جعلت جدعون الحقير في عين نفسه جبار بأس. وبدأ ينفذ إرادة الله بين قومه فهدم مذبح البعل الذي في بيت أبيه ليلاً لأنه خاف أن يفعل ذلك بالنهار وهنا أظهر إجفاله الطبيعي فعمل ما عمله بخوف وارتعاد ولكنه تمم المهمة التي أمره بها الرب.

ثم أمره الرب أن يخفض عدد جيشه حتى يتأكد بنو إسرائيل أن الحرب للرب ومن لدنه يأتي النصر. وتقدم بثلثمائة رجل عامرة قلوبهم بالحماسة، وسيَّرهم إلى ساحة القتال بحيث لم يتسع لهم الوقت لإرواء ظمئهم وبهذا العدد القليل خلص الأمة من الأعداء.

كلما تأملنا في قصة جدعون وجدناها حافلة بالتعاليم. من ذلك أن الله سمح له أن يسمع رجلاً من الأعداء يقص على رفيقه حلماً أنه رأى رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيين حتى جاء إلى الخيمة وضربها فسقطت. ففسره له رفيقه بأن ذلك سيف جدعون قد دفع إليه الرب إلهه المديانيين. فتشجع جدعون وازداد إيمانه أن خبز الشعير، وهو أحقر طعام، رمز إلى أن الضعف البشري الذي اعتمد على قوة الله غير المحدودة هو الذي جاء بالنصر العظيم في تلك الواقعة.

شمشون: كان هذا الرجل مخالفاً تماماً في أطواره لجدعون. لم يقدر على قهر قواه وغلبة نفسه. كانت له مواهب فائقة لكنه بذرها بانهماكه بالعالم، وآل به الأمر إلى أن يخلف نذره. وفي ذلك عبرة للمسيحيين الذي يسعون جهدهم ليحرزوا سعادة الدنيا والآخرة فإنهم يخسرون قوتهم في تأدية الشهادة للمسيح.

ملاك العهد: حتى في أيام القضاة المظلمة ظهر ملاك العهد، ابن الله نفسه، لشعبه ثلاث مرات. في المرة الأولى (قض 2: 1) أتى من الجلجال إلى بوكيم حيث ظهر ليشوع تحت اسم "رئيس جند الرب". وتكلم مع الشعب بسلطان لا يتكلم به سوى الله مذكراً إياهم بقوته وجودته، ولامهم على عصيانهم. وكان لما تكلم بهذا الكلام "أن الشعب رفعوا أصواتهم وبكوا ... وذبحوا هناك للرب".

وبعد ذلك بنحو مائة وخمسين سنة ظهر لجدعون ليكلفه بمهمة إنقاذ الشعب من سلطة الأعداء. فقدم له جدعون تقدمة من لحم ومرق وفطير.فأمره ملاك الرب أن يلقي الجميع على الصخرة – الصخرة نفسها رمز للمسيح كما هي التقدمة أيضاً. فمد ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده ولمس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة وأكلت التقدمة علامة القبول.

وبعد هذه الحادثة بنحو ثلاثين سنة ظهر لزوجة منوح بالشكل الذي ظهر به لجدعون كما مر ذكره. ثم ظهر لها ثانية ومعها زوجها. فقدم إليه منوح تقدمة وألقاها على الصخرة كما فعل جدعون. عند ذلك "عمل ملاك الرب عملاً عجيباً ومنوح وامرأته ينظران". لأنه صعدت من المذبح وبلغت إلى عنان السماء، وصعد هو في اللهيب بمشهد هذين الزوجين. وكان لما سأله منوح عن اسمه قال له "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب"؟ وهذا ما سماه به أشعياء حيث قال "يولد لنا ولد ... يدعى اسمه عجيباً". وعلى ما تقدم فقد رأى منوح، وجهاً لوجه، صبي بيت لحم في شخص ملاك الرب.

  • عدد الزيارات: 7743