الفصل الخامس: سفر التثنية
موسى: موسى من بين رجال العهد القديم أحرز مقاماً سامياً وشهرة بعيدة، فإنه كان نبياً ومشترعاً ومؤرخاً وحاكماً. لقد اجتمعت هذه الخصال في شخص واحد وهذا من الغرابة بمكان. لم نقرأ في التاريخ عن اسم يثير عواطف أمة كإسمه، ولا يتصور العقل أن يرتقي رجل بين قومه إلى المقام الذي بلغ إليه موسى بين أمة إسرائيل. فهو المؤسس لأسفارهم المقدسة وما اعترضوا قط على وصية أو تعليم من كتبه. إن تربيته اليهودية، وتهذيبه بحكمة المصريين وعلومهم، وخلوته مع الله في جبل حوريب أربعين سنة، كل هذه الوسائل أعدته ورشحته لقيادة الشعب وكتابة أسفاره المقدسة. وليس بين الأسفار سفر كالتثنية يسمو فيه مقام موسى حينما كاد ينصرم حبل حياته وينضم إلى جميع آبائه: نراه في تلك الشيخوخة البالغة الحد لم تضعف عزيمته ولا وهن نشاطه. أخذ يودع الشعب بحاله المعهود صافحاً لهم عن جميع الإغاظات التي أغاظوه بها وكدروا بها صفو حياته حتى كانت سبباً في حرمانه دخول الأرض المقدسة. لم يحقد عليهم في شيء من ذلك بل أدى به كرم الأخلاق وسموّه إلى الابتهاج بأمل دخول شعبه في أرض كنعان بقيادة يشوع.
ثم جاءت ساعة موسى الأخيرة فقال له الرب "اصعد إلى جبل نبو وانظر أرض كنعان ومت". فامتثل الأمر بهدوء وسكينة وأطاع الله عند موته كما أطاعه في كل حياته "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب" (تث 34: 5). وإن كان قد حرم من الدخول إلى أرض كنعان، غير أن الرب أعدَّ له كرامة أعظم ونعمة أسمى وذلك لأن الإنجيل يخبرنا عنه بأنه ظهر بجانب إيليا ليسوع على جبل التجلي وهو واقع داخل أرض كنعان، وتحادث مع سيده في أعظم مسائل الكون ألا وهي مسألة موته الذي سيموته خارج أورشليم.
يذكر موسى في سفر التثنية معاصي إسرائيل وزيغانه، ويعيد الشريعة الأدبية على طريق الإيجاز مع الإشارة إلى حالتهم في أرض كنعان التي كانوا على وشك دخولها. وعلى كل حال فالشريعة الأدبية أسمى مقاماً عند الله من الشريعة الطقسية، وذلك أن الله من ذات فمه القدوس أوصى بها شعبه على جبل سيناء؛ وأما التعليمات المتعلقة بنظامات خيمة الاجتماع فأوحى بها الله إلى عبده موسى وألحقت بها نظامات التطهير والتقديس وسائر الفروض الطقسية كالذبائح والمحرقات الخ. حسبما هو وارد في سفر اللاويين والعدد. وفي التثنية وجّه موسى هذا الخطاب إلى بني إسرائيل وجعل محور كلامه الطاعة لله وعلق عليها أهمية خطابه.
الطاعة: هي نغمة سفر التثنية كما هي سر نجاح الحياة المسيحية. سفر التثنية يشدد – أكثر من أي سفر آخر – على ذكر البركات الناجمة عن الطاعة "يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد" (تث 5: 29). هذه أمنية الله! وكم أعيد على مسامعهم أن الغرض من هذه الوصايا ما هو إلا خيرهم.
وعلاوة على ذلك فقد اتضح أن غاية الطاعة ليست اكتساب مرضاة الله وإنما هي القيام بحق الشكر لله. فقد افتداهم الله من أسر فرعون قبل الناموس، ولماذا؟ لأنه أحبهم ليس إلا؛ وقد اختارهم شعباً خاصاً له وقدسهم لنفسه ودعاهم إلى حفظ وصاياه لخيرهم فكان ينبغي لهم أن يعبدوه ويطيعوه لا مكلفين بل متطوعين مسرورين.
وإذا صدق هذا الوصف على بني إسرائيل فكم بالحري يصدق علينا! ما أكثر الذين يظنون أن عليهم ربح الخلاص بواسطة طاعتهم، وكان أجدر بهم أن يفهموا هذه الحقيقة أنه ينبغي لهم قبول خلاص الله أولاً كنعمة وعطية مجانية من الله لكل من يؤمن بيسوع ومن ثم يؤهلنا هذا الخلاص إلى الطاعة ويقدّرنا على إحراز الغلبة في الجهاد الروحي. وعلى ذلك قول الكتاب: "مخلصنا يسوع المسيح ... بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة" (تي 2: 13 و 14). قد فدانا من أسر الخطية والعالم ليأتي بنا إلى أرض أخرى هي أرض النصر والفرح في المسيح يسوع. ولكن ما أكثر أبناء الله المفديين الذي يحرمون من الدخول إلى منطقة الغلبة والصلاح بسبب قلة إيمانهم وعدم طاعتهم. ففيهم يتم قوله تعالى "لم يدخلوا لعدم الإيمان".
تأكد أن الناموس لا يستطيع أن يدخلنا إلى أرض الموعد. إن موسى ممثل الناموس نفسه قد أخطأ مرة وبسبب هذه الخطية حرم من الدخول. وعدم دخول الإسرائيليين على يده رمز صريح إلى أن الناموس لا يدخلنا السماء. إذاً من الذي أدخلهم؟ يشوع. كذلك نحن لا يدخلنا إلى السماء إلا يسوع.
التسليم: الخطوة الأولى للوصول إلى ملء بركات الإنجيل أو بعبارة أخرى للدخول إلى كنعان السماوية هي أن نسلم – كما سلم الشعب المختار – تسليماً كلياً للخطة التي رسمها الله لنا بحيث ينطبق علينا خطاب موسى: "هذا اليوم قد أمرك الرب إلهك أن تعمل بهذه الفرائض والأحكام فاحفظ واعمل بها من كل قلبك. ومن كل نفسك. قد واعدتَ الربّ اليوم أن يكون لك إلهاً وأن تسلك في طرقه وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته. وواعدَكَ الرب اليوم أن تكون له شعباً خاصاً كما قال لك وتحفظ جميع وصاياه وأن يجعلك مستعلياً على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء وأن تكون شعباً مقدساً للرب إلهك ... " (تث 26: 16 – 19).
ومما يمثل التسليم لله العبدُ الذي له الحق في الحصول على العتق في السنة السابعة، لكنه لكثرة محبته لمولاه يفضل أن يبقى في خدمته على الدوام. فمبارك أولئك الذين يتطوعون لخدمة يسوع ويسمحون له أن يثقب آذانهم مثل تطوع ذلك العبد علامة الخضوع (تث 15: 12 – 17؛ خر 21: 5 و 6).
مسيا الموعود: إن سفر التثنية يبلغ إلى ذروة المجد حينما انعكس على موسى بهاء جلالا مسيّا بأن يأتي على مثاله "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون" (تث 18: 15). نرى هنا ضرورة التجسد لكل وظيفة من وظائف المسيح الثلاث نبي وكاهن وملك. لأنه ينبغي لكل خدمة من هذه الخدمات الثلاث واحد من إخوتنا، بشَرٌ مثلنا، جسداً ودماً.
فعن الكاهن قال الرب: "قرب إليك هرون أخاك ... ليكهن لي" (خر 28: 1). وقيل عن يسوع "من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً" (عب 2: 17).
وعن الملك قيل "متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها فإن قلت اجعل علي ملكاً كجميع الأمم الذين حولي فإنك تجعل عليك ملكاً الذي يختاره الرب إلهك. من وسط إخوتك تجعل عليك ملكاً" (تث 17: 14 و 15).
وعن النبي قيل: "نبياً من وسطك من إخوتك له تسمعون". يشبه موسى المسيح في وجوه كثيرة: في نجاته من الموت وهو طفل، في حياته الخفية الهادئة، وفي تركه عرش الملك ليخلص شعبه من العبودية، وفي وداعته وحلمه وأمانته وإكماله مأمورية الله (خر 40: 33 ويو 17: 4 و 19: 30) وفي خدمته كوسيط بين الله والشعب، وفي مكالمة الله وجهاً لوجه. في جميع هذه الوجوه كان يشبه موسى ابن الإنسان الآتي.
لكن أين موسى من المسيح! شتان بين الظل والحقيقة! "موسى كان أميناً في كل بيته كخادمٍ شهادة للعتيد أن يُتَكلّم به. وأما المسيح فكابنٍ على بيته ... " (عب 3: 5 و 6). موسى أخطأ وأما المسيح فبلا خطية. لم يستطع موسى أن يحمل الشعب بدون مساعدة الغير، أما المسيح فحمل خطايا العالم كله ويدعو جميع المتعبين والثقيلي الأحمال أن يطرحوا أحمالهم عليه، وهو يعتني بهم ويريحهم. لم يمت موسى عن خطايا شعبه، أما يسوع "فمات من أجل خطايانا كما في الكتب المقدسة". موسى عجز عن إدخال بني إسرائيل إلى أرض الموعد، أما يسوع فقادر أن يدخلنا إلى السماء ويعطينا ميراثاً مع المقدسين بالإيمان باسمه. ففي كل هذه الأمور "تعيّن ابن الله بقوة". (رو 1: 4) أي أظهر إظهاراً.
كلمة موسى هي شريعة لأنها كلمة الله، لذلك يقول موسى بصريح العبارة "لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقّصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها" (تث 4: 2). وهنا نقول إن كانت الكلمة التي نطق بها خادم الرب صارت ذات نفوذ وسلطان فكم بالحري يكون سلطان الكلمة التي تكلم بها ابن الله "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" (تث 18: 18 و 19).
وهذا تم في شخص المسيح بالضبط والدقة لأنه قال "من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير. لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم" (يو 12: 48 – 50). ليس بحثنا هنا عن كاتب سفر التثنية بل التعويل على شهادة المسيح. وقد قلنا في مقدمتنا أن المسيح قاوم تجربة إبليس بأجوبة قد اقتبسها من هذا السفر وقد توّجها بقوله "مكتوب". تبلغ اقتباسات العهد الجديد من سفر التثنية تسعين اقتباساً؛ ويظهر من إصحاح 31: 9 و 24 و 25 أن كاتبه هو موسى، ويدل مجمله على ذلك. شهد موسى للمسيح قائلاً: "له تسمعون"؛ وكذلك شهد المسيح لموسى قائلاً: "لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني".
إن بطرس كان على الجبل شاهد عيان لمجد المسيح متكلماً مع موسى وإيليا. وقد سمع بطرس صوت الله من السماء يقول "هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا". وعليه فقد عمل حسناً إذ شهد له أمام اليهود بأن الذي أنكروه وصلبوه هو ذات النبي الذي كتب عنه موسى وأوصاهم أن يسمعوا له في كل ما يكلمهم به (انظر أع 2). وقد أصابت المرأة السامرية في ما شهدت به للمسيح إذ نادت أهل بلدها "هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت ألعل هذا هو المسيح". وما أحرى بنا أن نشهد له نحن أيضاً مع توما قائلين: "ربي وإلهي".
ومما يذكرنا بالمسيح أن موسى في هذا السفر شرح الوصايا العشر، وقد شرحها المسيح أيضاً وضمنها في وصية واحدة وهي قوله: "تحب الرب إلهك من كل قلبك وتحب قريبك كنفسك".
مدن الملجأ: مدن الملجأ (انظر تث 4: 41 و 19: 1) والصخرة (تث 32: 4 و 15 و 18) تمثل لنا المسيح باعتبار كونه ملجأنا. أمر الله بني إسرائيل أنهم متى امتلكوا الأرض يفرزون ست مدن للالتجاء إليها من وجه الخطر، ثلاث منها على الجانب الواحد من الأردن وثلاث على الجانب الآخر تسهيلاً للوصول إليها. كل من قبل نفساً سهواً يهرب من أمام ولي الدم إلى إحدى هذه المدن فينجو من خطر الانتقام. ويقال في التقليد اليهودي أنه كانت توجد في مفارق الطرق المؤدية إلى مدن الملجأ سوارٍ مكتوب عليها "إلى الملجأ". وكان يوجد عند كل سارية ساع معين بحسب الشريعة يرشد الهارب إلى مدن الملجأ ويركض معه ليستحثه على السرعة حتى يصل إلى المكان قبل أن يوافيه المنتقم. فإذا صح هذا التقليد فيكون هؤلاء السعاة رمزاً إلى فئة خدام الإنجيل الذين يجوبون الأرض لإرشاد الخطاة إلى المخلص العظيم.
وكان يفحص القاضي عن القاتل الهارب فإن وجده لم يتعمد القتل يسمح له بالبقاء في مدينة الملجأ حتى يموت رئيس الكهنة ويتعين خلفه. حينئذ يرجع القاتل إلى بلده ويسترد أملاكه. هذه هي الوسائل التي اتبعتها شريعة الله لتخليص البلاد من تبعة الدم البريء.
نرى في مدن الملجأ مثالاً للمسيح الذي يهرب إليه الخاطئ فيخلص. ونرى أيضاً في القاتل الهارب مثالاً لبني إسرائيل فإنهم سفكوا دماً بريئاً بغير تعمد. قال بطرس مخاطباً اليهود في سفر الأعمال "رئيس الحياة قتلتموه ... والآن أيها الأخوة أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم كما رؤساؤكم أيضاً". وأنا كساع أرشدكم إلى مدينة الملجأ وأقول لكم "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا" هذا هو مدينة الملجأ ولن تخلصوا من مطاردة سيف عدل الله إلا بالالتجاء إليه لأنه "إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم يرد كل واحد منكم عن شروره" "وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص".
شريعة التعليق أو الصلب: ورد في تث 21: 22 "إن المعلق ملعون من الله". وورد في العهد الجديد "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا" (غل 3: 13). وإذا قرأنا عن اللعنات الهائلة التي ذكرت في الإصحاح 27 و 28 تفيض قلوبنا شكراً لمن حملها بالنيابة عنا وتمم الناموس.
الأوريم والتميم: "وللاوي قال تميمُك وأوريمك لرجلك الصديق". (تث 33: 8). الأوريم والتميم كانا موضوعين على صدرة رئيس الكهنة يحملها أمام الرب عند ما يستشيره في المسائل الخطيرة. ومن العبث أن نبحث في معرفة ما هو الأوريم والتميم. نعلم من سفر العدد 27: 21 أن قضاء الأوريم حق. معنى هذين الاسمين في العبري "نور وكمال"؛ وأن كلمتي "إظهار الحق" (2 كو 4: 2) مستعملتان للدلالة عليهما في الترجمة السبعينية – في المسيح يسوع رئيس كهنتنا "مذخر جميع كنوز الحكمة والعلم". قلنا أن موسى لم يستطع أن يحمل أثقال أمته وأما المسيح فيستطيع. ونذكر هنا بعض آيات من سفر التثنية تدل على ذلك "حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه" (تث 1: 31) "كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه" (تث 32: 11) "حبيبُ الرب يسكن لديه آمناً. يستره طول النهار وبين منكبيه يسكن" (تث 32: 12). هذه الآيات تردد على مسامعنا صدى كلام المسيح حيث يقول إنه الراعي الصالح ويحمل خروفه الضال على منكبيه. والذين يأتون إلى الله بواسطته يعلمون ما هو الاختباء في صدر الآب السماوي "الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت".
- عدد الزيارات: 5671