الفصل الرابع: سفر العدد
يوجد في سفر العدد أخبار فشل بني إسرائيل وعجزهم عن امتلاك أرض كنعان. كانت غاية الله من إصعادهم من أرض مصر هي أن يأتي بهم إلى أرض الموعد (خروج 3: 8)، إلا أنه من لطفه نحوهم لم يهدهم إلى الطريق الأقرب من فلسطين "لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حرباً ويرجعوا إلى مصر" (خروج 13: 17). ومرّ بهم في برية سيناء وهناك أنـزل الشريعة على عبده موسى. ثم أتى بهم إلى قادش برنيع، وحينئذ جاء الوقت المعين لإدخالهم إلى كنعان. وسفر العدد يقص علينا في ص 13 و 14 كيف أنهم بعصيانهم وعدم إيمانهم منعوا من الدخول، ومن ذلك الوقت تاهوا في البرية سنين طويلة على غير ما قَصدَ لهم الله، وذلك بسبب عصيانهم.
وما أشبه ذلك بحالة كثير من المسيحيين اليوم الذين فدوا من عبودية الشيطان، إلا أنهم عجزوا عن الدخول إلى ملء بركات إنجيل المسيح! إلا أن الله لم يترك شعبه حتى حين تركوه بل صبر عليهم ورحمهم، ومدّهم بالطعام والماء، وحماهم وهداهم يوماً فيوماً.
الأسفار والحروب: يمكننا أن ندعو سفر العدد كتاب "سياحة وحرب". جاء ذكر الأسفار في بداءة فصوله مع بيان الترتيبات التي جعلها الله استعداداً لها، وكلها ترمز إلى المسيح. وعلى الجملة في كل صحيفة من صحائف الكتاب المقدس لمحة من جمال يسوع. وهنا نرى محلة إسرائيل محيطة بخيمة الاجتماع وفق نظام غاية في الضبط والترتيب؛ وفي ذلك رمز إلى أن المسيح هو في وسط شعبه.
السحاب: نرى عمود السحاب مستقراً على قدس الأقداس. ولعله كان أشبه بستار عظيم يظلل المحلة كلها نهاراً من حرارة الشمس، وينقلب إلى عمود نار ليلاً يضيء ما حول المحلة. وكان هذا العمود دليلهم في الحل والترحال: فكلما رأوه قد تزحزح من فوق خيمة الاجتماع يعلمون أنه ينبغي أن يرحلوا من ذلك المكان، فينفخون بالبوق إشعاراً بالرحيل. وإذا رأوه استقر على الخيمة يقيمون في مكانهم. وهذا السحاب إنما هو مثال لقيادة المسيح لنا في أسفارنا الروحية. قال يسوع "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة". من أجل ذلك ينبغي لنا أن ننظر إلى يسوع لكي لا نضل الطريق.
الأبواق الفضية: عندما يرد ذكر عمود السحاب يرد أيضاً معه في الغالب ذكر الأبواق الفضية. كان ينفخ فيها إيذاناً بالسفر أو للدعوة إلى الحرب أو للاحتفال بعيد. وكان يدوي صوتها إلى مسافات بعيدة بحيث يسمعه كل الشعب الذين في المحلة. وكل من يسمع صوت الأبواق يلبي الدعوة بدون إبطاء. ونحن أيضاً ينبغي لنا أن نصغي إلى صوت يسوع ونتبعه ونطيعه. قال "خرافي تسمع صوتي وتتبعني وأنا أعرفها".
الرايات التي كان يصطف تحتها الأسباط، والتابوت الذي كان يسير في مقدمة الجمع، وسبط لاوي الذين كانوا ينوبون عن الأبكار ويقومون بخدمة القدس ويكرسون أنفسهم للرب، وأغطية آنية الخيمة في وقت السفر، وسنة النذور، هذه جميعها تعلمنا أموراً كثيرة عن المسيح.
يبتدئ هذا السفر بذكر العرض الذي قام به موسى وهرون لكل سبط على حدته لإحصاء أنسالهم وذراريهم (عد 1: 18). كم منا يقدر أن يعمل مثل ذلك روحياً على وفق قول الرسول بطرس "بل قدِّسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف" (1 بط 3: 15). لنقف قليلاً ونمعن في التأمل متسائلين: هل عرفنا حقيقة أن التجديد الذي يعلمنا إياه المسيح هو ضروري لنا؟ قال يسوع "ينبغي أن تولدوا من فوق".
شريعة العطاء للرب: الإصحاح السابع يعدد عطايا رؤساء البيوت. كانت عطية كل واحد منهم كعطية الآخر بالضبط، ومع ذلك لم تجعل عطاياهم دفعة واحدة وذلك لأن الرب يريد أن يكرم تقدمات شعبه، فآثر أن يذكر كل واحد بعطيته. وهكذا المسيح لاحظ باهتمام عطية الأرملة الفقيرة التي ألقت في خزانة الرب كل ما عندها؛ وأمر بأن يكرز في كل مكان بما صنعته به مريم من بيت عنيا إذ دهنته بالطيب.
لا شك أنه يجب أن تتجاوز عطايانا، نحن الذين نعيش في عهد الصليب، عطايا بني إسرائيل تحت الناموس. غير أننا بكل أسف مقصرون في هذا الواجب تقصيراً فاضحاً. يقول البعض كان اليهود يعطون العشور ونخن نعطي أكثر من ذلك. ولو راجعوا دفاترهم لوجدوا ما أعطوه أقل من العشور. ومع ذلك فإن اليهود كانوا علاوة على العشور يعطون عطايا أخرى وفاء للضرائب الأخرى التي ربما بلغت مع العشور إلى الربع إن لم نقل الثلث من إيراداتهم. والتقدمات التي قدمها رؤساء البيوت لم تدخل في الحساب المتقدم. فلو أننا نحن المسيحيين تشبهنا بهم في الكرم لتيسرت أحوال المرسلين، وانتشرت خدمة الكرازة بالإنجيل في كل مكان عملاً بمأمورية المسيح التي ألقاها على عاتقنا.
هرون: إن هرون يمثل المسيح تمثيلاً عجيباً، وذلك لما أساء إليه بنو إسرائيل وأضمروا له العداوة فغضب عليهم الرب وضربهم بالوباء. فأخذ هرون مجمرته وأسرع إلى القوم المصابين ووقف بينهم وبين الأحياء يشفع فيهم عند الله فقبل شفاعته ورفع عنهم الموت (انظر عدد 16: 46 – 50). فما أشبه هرون بالمسيح في هذه الخلة. لأن المسيح شفع في نفس الذين أساءوا إليه وأذاقوه الموت الأليم. إنه قدم كفارة عن خطايا العالم أجمع، وهو اليوم في السماء يشفع فينا.
وبعد حادثة الوباء مباشرة أمر الله موسى أن يكلم بني إسرائيل بأن يأتي رئيس كل سبط من الأسباط الاثني عشر بعصا مكتوب عليها اسمه، ويقدموا العصى إلى أمام تابوت الشهادة. فالعصا التي تفرخ يكون قد اختار الرب صاحبها. وفعلوا كذلك. وفي اليوم التالي وجدوا عصا هرون أخرجت فروخاً وأزهرت زهراً وأنضجت لوزاً. أما العصي التي لم تخرج فروخاً فرمز إلى الوسائط البشرية التي ربما "تمدّن" البلاد وتصلحها إصلاحاً سطحياً. وأما العصا التي أفرخت فرمز إلى يسوع الذي يخرج من القلب الحجري قلباً لحمياً ويمنح حياة جديدة.
لم يكن للكهنة واللاويين نصيب في ميراث أرض كنعان وذلك لأن الرب نفسه ميراثهم. كانت صفقتهم هي الرابحة. فإن أطيب الزيت والقمح والخمر كان لهم وذلك بسبب المسحة التي كانت عليهم. وحيث أننا نحن المسيحيين كهنة الرب فقد صار الرب نصيبنا في كل شيء بحيث نقدر أن نقول مع المرنم: "فالميراث حسن عندي".
ولما انتهى أجل هرون أمر الله موسى أن يصعد به على جبل هور ويخلع ثيابه الكهنوتية ويلبس ابنه أليعازار إياها ثم يموت بعد ذلك. فهنا مثال آخر للمسيح رئيس كهنتنا العظيم لأنه في آخر أيامه على الأرض بعد القيامة من الأموات صعد على جبل بمشهد تلاميذه ومن هناك صعد إلى السماء. "يقوم كاهن آخر قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية بل بحسب قوة حياة لا تزول" (عب 7: 15 و 16). إن السبب الذي من أجله لم يدخل موسى وهرون أرض كنعان هو عصيانهما أمر الرب من تكليم الصخرة إلى ضربها لاستخراج ماء منها. وورد ذكر ذلك مرتين. ففي المرة الأولى في سفر الخروج أمر الرب موسى أن يضرب الصخرة. والصخرة هنا رمز إلى المسيح باعتباره قد "ضرب من أجل ذنب شعبي". ولكنه قد ضرب مرة واحدة لا اثنتين. لذلك لم يكن جائزاً لموسى أن يضرب الصخرة في الواقعة الأخرى (سفر العدد 20: 8) بل يكلمها تكليماً. والصخرة هنا رمز إلى المسيح باعتبار كونه ممجداً. ومن الغريب أن كلمة صخرة الأصلية في الموضع الأول تفيد صخرة واطئة وتفيد في الموضع الثاني صخرة مرتفعة عظيمة.
ماء النجاسة: وردت في الإصحاح التاسع عشر حكاية ذلك الماء الذي كان بتدبير عجيب من العناية الإلهية لتطهير شعبه من النجاسات اليومية. إن قوة التأثير (الفعالية) المودعة في ذلك الماء حتى يطهر من النجاسة ترجع إلى الدم؛ وبيان ذلك أنه كان يؤتي ببقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها ولم يَعلُ عليها نير، وتذبح وتحرق وترش دماؤها في ذلك الماء. وهذا رمزاً إلى دم المسيح الذي يطهرنا من كل خطية إن كنا نسلك في النور (1 يو 1: 7).
ويجوز أن يكون ذلك الماء رمزاً إلى الماء الذي أشار إليه المسيح في حديثه مع نيقوديموس حيث يقول: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله". ولما لم يفهم نيقوديموس ذلك الرمز وبخه قائلاً: "أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا" (يو 3: 10). فكم يفوتنا من تعاليم العهد الجديد وذلك لعدم تأملنا في رموز العهد القديم!
التعليم بالرموز والأمثلة: أما ربنا يسوع نفسه فقد استعمل هذه الرموز في مواعظه وتعاليمه للدلالة بها على شخصه. لقد شبه نفسه بالمن الذي نـزل من السماء وأيضاً بالماء والنور. وأما الرموز المشيرة إلى بقية وقائعه، كموته وقيامته وصعوده إلى السماء، فلم يشر إليها إلا نادراً وذلك لعدم مناسبة التكلم عنها قبل إتمام ما ترمز إليه فعلاً. ومما ذكره عن تلك الرموز قصة الحية النحاسية وسيأتي الكلام عنها حالاً، ومكوث يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال". ومثّل جسده بالهيكل إذ قال "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه". ولا شك أن حديثه بعد قيامته مع التلميذين اللذين كانا منطلقين إلى عمواس قد اشتمل على كثير من الرموز الدالة على الوقائع الأخيرة من حياته وأسس عليها كتبة أسفار العهد الجديد تعاليمهم.
الحية النحاسية: حدث في ارتحال بني إسرائيل حول أرض أدوم بقرب خليج العقبة أنهم تذمروا على الرب وعلى عبده موسى فأرسل الله عليهم حياتٍ محرقة (ص 21). فكأن الله اتخذ من تلك الدبابات المنتشرة بكثرة في تلك العقبة وسيلة لتأديبهم. يروي لنا أهل السياحة أن الحيات في ذلك الإقليم كبيرة الحجم رقطاء ومخططة لا يأمن شرها عابرو السبيل. كان كل من لدغته الحية من الشعب يموت. فاعترفوا بخطاياهم وندموا ووسّطوا موسى بينهم وبين الله ليشفع فيهم، فقبل الرب وساطته وأمره أن يصنع حية من النحاس ويرفعها على راية، فإذا لدغت الحية أحداً فما عليه إلا أن ينظر إلى الحية النحاسية فيحيا في الحال.
قال الرب يسوع إن الحية النحاسية تشير إليه. لا ينكر أحد أن حية النحاس في حد ذاتها لا شيء، وأنها لا تؤثر في أحد شراً ولا خيراً؛ وكذلك الخشبة المرفوعة عليها. إذاً أين كان سر الحياة؟ أجيب في يسوع مرفوعاً على الصليب. إن سمّ الخطيئة هو الذي يجلب الموت على الإنسان، أما الدواء الإلهي فهو حية نحاسية ترفع على خشبة. وهي غير مؤذية ولكنها على شكل الحية التي سببت البلاء العظيم "لأنه جعل الذي لم يرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2 كو 5: 21)
وهنا نقطة مهمة يغفل عنها كثيرون وهي أن المسيح أشار في هذا الرمز إلى التجديد أو بعبارة أخرى إلى الميلاد الثاني. إن الذين لدغتهم الحية يحسبون أمواتاً لأن السم يسري فيهم بالتدريج حتى يموتوا فعلاً. من أجل ذلك لم تكن الحية النحاسية دواء للشفاء بل لتجديد الحياة "من ينظر إليها يحيا". وهذا وجه المناسبة في سرد هذه الأقوال على نيقوديموس. لأنه لما رآه متحيراً في فهم الولادة الثانية وكيف يمكن الحصول عليها وجَّه نظره إلى الصليب فقال له "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 14).
النبوة: نختم ملاحظاتنا على سفر العدد بنبوات بلعام. قد وجد بين الآثار المصرية شقة ورق من البردي (موجودة اليوم في متحف لندن) على ظهرها تذكرة عن رسالة بعثت بها الحكومة المصرية إلى ملك صور السنة الثالثة من حكم منفتاح ملك مصر. وعُهد بهذه الرسالة إلى بالاق ابن بصور. فورقة البردي هذه أثر تاريخي يثبت صحة النبوات التي أمامنا الآن؟ وإن اسم ملك موآب الذي روَّع جيوش بني إسرائيل بقي معروفاً في ذلك الإقليم مدة قرن أو قرنين بعد تاريخ أسفار موسى. هذا وقد ثبت أن مدينة فتور الواقعة على النهر المشار إليه في النبوة هي بعينها الواقعة على نهر الفرات.
من تلك الأرض القاصية استدعى ملك موآب بلعام النبي ليلعن له شعب إسرائيل. غير أن الرب ألقى على لسانه وقلبه أن يبارك إسرائيل لا أن يلعنه، فنطق بهذه العبارة التي تُعدُّ من أشهر النبوات عما سيحدث لتلك الأمة قال "هوذا شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا تحسب". يقال إن فردريك إمبراطور الألمان سابقاً سأل قسيسه الخاص: هل تقدر أن تبرهن لي صحة الديانة المسيحية بكلمتين؟ فأجابه: "الشعب المختار". ولا شك أنه افتكر في تلك الساعة في هذه النبوة العظيمة. وفي أسفار موسى جملة نبوات عن الشعب المختار كتبت منذ ثلاثة آلاف سنة وقد تمت لهم ونشاهدها اليوم وهاك بعضها:
إنهم يطردون من بلادهم ومن أرضهم (لا 26: 33)
وتكون أرضهم خربة وخالية من السكان (لا 26: 33)
ويتفرقون بين أمم الأرض (تث 4: 27)
ومع ذلك يحفظون جنسيتهم كأمة مفروزة على حدتها (عد 23: 9). لم يحصل لأية أمة على وجه الأرض مثل ما حصل لشعب الله المختار.
ثم إن بلعام نظر إلى مستقبل الأزمان فرأى من بعيد ذلك القادم العظيم فتنبأ قائلاً: "أراه ولكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل ... ويتسلط الذي من يعقوب .... (عدد 24: 17 و 19). "أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (مت 2: 2). أين الملك؟ رأينا نجمه. قد أخبر بخبر نجم الملك وقضيب ملكه من قبل أن تتم هذه الحوادث بنحو ألف وخمسمائة سنة. ولما جاء الوقت المعين رأى المجوس نجماً باهراً يفوق كل النجوم بسنائه فأدركوا أنه نجم ملك اليهود "أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس. أنا أصل وذرية داود. كوكب الصبح المنير" (رؤ 22: 16).
- عدد الزيارات: 6397