الفصل الثالث: سفر اللاويين
يدل سفر التكوين على سقوط الإنسان وخيبة مسعاه؛ وسفر الخروج يدل على الفداء العظيم والخلاص الباهر الذي دبره الله. ويلي ذلك سفر اللاويين بطبيعة الحال لإعلان الطريقة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله فتكون له شركة معه. وبمطالعة هذا السفر على ضوء الإنجيل يظهر أنه كتاب خاص بالذين اقتنعوا بأنهم كانوا هالكين فقبلوا الفداء الذي في المسيح يسوع، ويطلبون أن يقتربوا من الله. هذا السفر يمثل قداسة الله ويظهر لنا أن لا أحد يمكنه الدنو من الله إلا على أساس الكفارة.
هذا سفر اللاويين وهذا مؤداه. ويظهر لنا ذلك بطرق مختلفة منها مسألة تقديم الذبيحة عن الخطية. لا شك أن الأهمية المرعية في الذبيحة تنبه الإنسان إلى خطورة الخطية. ولو كنا لم نقرأه كله، ولو ظهر لنا أنه يعدد الخطايا ويكرر ذكر الضحايا تكراراً معقداً يسبب الملل، حتى على افتراض هذا فهو يقدم للناس في كل زمان ومكان درساً جوهرياً أساسياً عن قداسة الله وعدم إمكانية وصول الخاطئ إليه ما لم يكفر عن خطاياه. فهو كمنارة عظيمة مرفوعة للسلامة من الاصطدام بصخور الخطايا.
يقول روسكن (Ruskin) أن أمه ألزمته في حداثة سنه أن يقرأ التوراة بالترتيب ولا يستعفي من قراءة إصحاحات سفر اللاويين الصعبة. والنتيجة أن هذه الإصحاحات كان لها أعظم نفوذ على حياته اليومية وحصرتْه ضمن دائرة الطاعة لله. ويقول فِني (Finney) الواعظ الشهير "إن الخطية – مغفورة أو غير مغفورة – هي أغلى شيء في الكون: فإن غُفرت يكون ثمنها الذبيحة التكفيرية، وإن لم يغفر كلفت النفس العاصية هلاكها الأبدي". والدكتور جينـز (Guinness) يقول "إن أردت أن تعرف خطورة الخطية فاسبر غور ثلاثة أبحر: بحر الآلام البشرية، وبحر آلام المسيح، وبحر العذاب الجهنمي الأبدي الذي ينتظر المصرّين على خطاياهم".
ينبغي لنا أن نحكم على الخطية باعتبار مبدأ الصلاح والبر الثابت والنقاوة غير الملوثة، وهذا هو عين ما فقدناه. لأنه إن كنا كلنا أخطأنا كما هو مسلَّم به أصبحنا وليس عندنا ميزان مضبوط ولا مقياس صحيح حيث أن قوانا العقلية صارت مشوشة وأذواقنا كثيفة والحقائق مشتبهة في نظرنا. (ثانياً) هذا يؤدي بنا إلى التحدي الذي وجهه المسيح إلى خصومه حيث يقول لهم "من منكم يبكتني على خطية"؟ هنا إنسان يؤكد أنه لم يخطئ قط، ودعواه صادقة. فإذاً له الذوق السليم والنظر الصحيح والميزان المضبوط التي بها تظهر الخطية في مظهرها الحقيقي: شيء شنيع مكروه للغاية يجب الاحتراس منه. ولذلك قال إن كانت عينك تعثرك – أي تسبب لك الوقوع في الخطية – فاقلعها، وإن أعثرتك يمينك فاقطعها. ثم إن الخطية اقتضت الآلام والصليب. ومع كون يسوع يصف الخطية بهذا الوصف لم يستعف من حمل خطايا البشر بل حملها في جسده على الصليب. (ثالثاً) من الأدلة على شر الخطية ندامة التائبين المرة ودموعهم الحارة التي سكبوها حزناً وأسفاً على خطاياهم. وكانوا كلما زادوا قرباً من الله زادوا حسرة وندامة على ما فرط منهم.
وعلاوة على ذلك فحيثما يعمل الروح القدس بقوة عظيمة لاجتذاب الناس إلى الله يكون من أهم نتائجه التبكيت العميق على الخطية. وما قرأنا تاريخ انتعاش، في العصور الحاضرة أو السابقة، إلا وجدناه قد قام على هذا الأساس.
فما هو معلن لنا في سفر اللاويين على سبيل الرمز والإيماء معلن في صليب المسيح على سبيل الحقيقة عينها. لم يكن الصليب مظهراً لمحبة الله فقط بل هو المقياس الصحيح الذي يعلم به مقدار شر الخطية، كما أنه الوسيلة الوحيدة التي تكفر عنها. لا وسيلة لغفران الخطايا سوى صليب المسيح الذي يفي العدل الإلهي حقه. لا نتصور مداركنا البشرية سر الكفارة التي نعترف بفاعليتها العظيمة. يقول الكتاب "عاملاً الصلح بدم صليبه" (كو 1: 20). كم من قلوب مضطربة ونفوس منـزعجة من جرى الخطايا سكن روعها وملك عليها السلام بصليب المسيح! لا يعلم هذه الحقيقة أحد مثل الذين بكتهم الروح القدس على خطاياهم.
تقديم الذبائح: إن الإصحاحات السبعة الأولى من سفر اللاويين تتكلم عن خمسة أنواع من الذبائح؛ وفيها ضروب متنوعة من الرموز الدالة على المسيح. وأول ما يستلفت أنظارنا أن في كل تقدمةٍ ثلاثةَ أركان: الذبيحة والكاهن والمقدِّم. ولا بد من معرفة كل منها معرفة تامة. فالمسيح هو الذبيحة "فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عب 10: 10) والمسيح هو الكاهن: "إذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله" (عب 4: 14) وهو أيضاً المقدم "الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم" (تيطس 2: 14).
تقسم الذبائح إلى قسمين رئيسيين: ذبائح لإصعاد رائحة طيبة لله وأشهرها المحرقات، وذبائح التكفير أو الترضية وأشهرها ذبيحة الخطية. فالمحرقة هي تقدمة ذات رائحة طيبة عند الله وهي ذبيحة تحرق تماماً على مذبح النحاس في الدار الخارجية لخيمة الاجتماع. تحرق كلها بحيث تصير رماداً ولا تبقى لها بقية. نرى هنا مثالاً لحياة الطاعة الكاملة التي عاشها المسيح بحسب مشيئة أبيه. من أجل هذا لا يظهر المسيح أمام الله كحامل الخطايا فقط بل كمقدم شيئاً لله أثمن من كل الأشياء: حياة كلها طاعة وتكريس كامل شامل لله. وعلى ذلك قوله "أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف 5: 2) وقوله "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررتُ".
فذبائح المحرقات هي كناية عن حياة الخضوع والتسليم الكلي لإرادة الله، وعن قيام الإنسان بواجبه نحو الله. أما تقدمة اللحوم والدقيق والزيوت، تلك التقدمة التي كانت ملحقة بالمحرقات، فتشير إلى واجبات الإنسان نحو قريبه. فيسوع كإنسان قام بالواجب الذي عليه نحو الله كنا تقدم بيانه؛ وقام بالواجب الذي عليه نحو الإنسان لأنه قد انسحق قلبه كإنسحاق الحنطة تحت الرحى إلى دقيق، وانعصر كالزيت من شدة ما لاقى من مقاومة الأشرار. وعلى ذلك قول الكتاب "فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلنّوا وتخوروا في نفوسكم" (عب 12: 3).
أما ذبيحة الخطية فتختلف عن المحرقة تماماً، لأنها تقدم للتكفير عن الخطية. كان يُحرَق شحمها على مذبح النحاس وتحرق بقيتها في خارج المحلة إشعاراً بأن الخطية مكروهة جداً. وكذلك المسيح صار ذبيحة خطية من أجلنا "ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عب 9: 26). لا نقدر أن نتصور شدة آلام المسيح لأنه وهو لم يعرف خطية صار خطية من أجلنا واحتجب وجه أبيه عنه.
رئيس الكهنة: نرى في تكريس هرون رئيساً للكهنة وفي كهنوته مثالاً للمسيح رئيس كهنتنا العظيم. وفي تكريس أولاد هرون وتكريس اللاويين كهنة نرى مثالاً لكهنوت كل المؤمنين الحقيقيين بيسوع المسيح. وعدا ذلك نرى صورة مؤثرة للغاية تُظهر هذه الحقيقة وهي أن التقرب إلى الله لا يمكن إلا بالذبائح وذلك من حكاية ناداب وأبيهو اللذين ألقيا في المجمرة "ناراً غريبة" فأحرقتهما نار الله وكان الواجب عليهما أن يأخذا النار من مذبح المحرقات (انظر لاويين 16: 12 وعدد 16: 46). ومن هنا نعلم أن صلواتنا، التي هي بمثابة بخور، لا تقبل عند الله إلا إذا تقدمت باستحقاق ذبيحة المسيح.
ناموس الحياة اليومية. كثير من مضامين هذا السفر قائمة على الوصايا للسير بموجبها يومياً. ومن هنا نعلم مبلغ اهتمام الله بمصلحة شعبه نفساً وجسداً "كونوا قديسين لأني أنا الرب إلهك قدوس". تكررت هذه الوصية ثلاث مرات في هذا السفر وهذه الكلمات – طهارة – نقاوة – قداسة – تجدها في مواضع شتى بين سطوره. ولا مسألة وردت فيه بخصوص شؤون الحياة اليومية إلا مقرونة بوصية إلهية سواء أكان في ملبس أو مطعم أو مشرب أو مصلحة. وعلى وفق هذا قوله في العهد الجديد "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31)؛ وقوله "فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكمِّلين القداسة في خوف الله" (2 كو 7: 1).
البرص: شريعة البرص الواردة في إصحاح 13 و 14 ترمز إلى الخطية باعتبار كونها تفصل الإنسان من الشركة مع الله. وورد قوله "إن كان البرص قد أفرخ في الجلد وغطى البرص كل جلد المضروب حسب كل ما تراه عينا الكاهن ... يحكم بطهارة المضروب": نجد هنا الشرط الأول للتطهير – ألا وهو الاعتراف بالاحتياج لا يمكن أن ننال غفران خطايانا ما لم نقر أننا خطاة. لما صلى العشار قائلاً "ارحمني اللهم أنا الخاطئ" نـزل إلى بيته مبرراً.
من الشروط المرعية في تطهير الأبرص أن يخرج إليه الكاهن خارج المحلة حيث هو منفي ويقوم بجميع تعليمات الشريعة. وما لم تتم هذه الإجراءات فلا يجوز للأبرص الرجوع إلى قومه والدخول إلى خيمة الاجتماع. كذلك يسوع إذ قصد أن يخلصنا من خطايانا ترك السماء واقترب منا في منفانا. كان الكاهن في يوم يطهر الأبرص يأتي بعصفورين حيين وخشب أرز وقرمز وزوفا؛ ويأمر الكاهن أن يذبح العصفور الواحد في إناء خزف على ماء حي. أما العصفور الحي فيأخذه مع خشب الأرز والقرمز والزوفا، ويغمس الكل في دم العصفور المذبوح على الماء الحي، وينضح على المتطهر من البرص سبع مرات فيطهره. ثم يطلق العصفور الحي على وجه الصحراء. فالعصفوران يرمزان إلى هاتين الحقيقتين أن يسوع "أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا". وفرار العصفور في الصحراء علامة أن الأبرص طهر وبالتالي رمز إلى غفران خطايانا. ولاحظ هنا أنه قد اقتضت حكمة الرب أن يجعل ذبيحة التطهير من البرص عصفورين حتى يتيسر للفقير والمعوز الإتيان بهما بثمن رخيص جداً. وهكذا فإن أبسط إيمان بالمسيح المصلوب من أجل خطايانا والمقام لأجل تبريرنا كاف للتبرير.
ولا تكفي الأبرص الإجراءات التي مر بيانها لتخوله حق الدخول إلى خيمة الاجتماع، بل كان عليه عدا ما ذكر أن يغتسل بالماء الحي. كذلك على المتبرر بدم المسيح أن يجتنب كل خطية يعلمها. ثم بعد ذلك يقدم الأبرص كل التقدمات المأمور بها في الشريعة حسب ظروف حاله، ويرش من دم ذبيحة الخطية على رأسه ويده ورجله ويدهن بالزيت. نحن بحاجة، لتبريرنا وتقديسنا، إلى دم المسيح الثمين، ثم إلى مسحة زيت الروح القدس على الدم.
يوم الكفارة: أهمية سفر اللاويين تدور حول يوم الكفارة العظيم – كان يوم تذلل يشعرون فيه بالخطية شعوراً عميقاً. كان يحتفل به مرة في السنة. "المسيح أيضاً ... قُدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين" (عبرانيين 9: 28). لا تكرار لعمله الفدائي. يوم واحد للكفارة في مدار السنة كلها يحمل فيه رئيس الكهنة مجمرته الذهبية، ويأخذ من دم الثور ويدخل إلى قدس الأقداس، ويصنع كفارة عن نفسه وأهل بيته.
أما الكفارة عن الأمة فكانت تيسين عن الماعز يقترع عليهما أيهما يكون للرب. والتيس الذي تصيبه القرعة يذبح؛ ويأخذ رئيس الكهنة من دمه ويدخل إلى قدس الأقداس ويرشه على غطاء التابوت المسمى "كرسي الرحمة"؛ ويرش أمامه سبع مرات. وأما التيس الآخر فيضع عليه رئيس الكهنة خطايا الأمة بأن يعترف بها على رأسه ويسلمه لرجل يطلقه في الصحراء "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" "الرب وضع عليه إثم جميعنا" (يوحنا 1: 29 وأشعياء 53: 6).
التيسان المشار إليهما في هذا الموضع هما تقدمة واحدة: التيس المذبوح رمز إلى أنه قد أنجزت الكفارة أمام الله عن الشعب، والتيس الحي رمز إلى أن الله قبل الكفارة وغفر لهم خطاياهم. وهما في الحقيقة لا يكفران خطية واحدة، فكيف يكفران خطايا الأمة في سنة كاملة؟ إنما الرب أمرهم أن يقدموا هذه الذبائح موقتاً تنبيهاً لهم إلى ذبيحة المسيح الدائمة "لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا" (عب 10: 4). لا حيوان ولا إنسان ولا ملاك من السماء يكفر عن الخطايا بل الله الذي يكفر فقط. من أجل ذلك "ظهر في الجسد" كإنسان حتى يموت بهذا الناسوت عوضاً عن الإنسان تكفيراً عن آثامه "أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم". فالمسيح إذاً إنسان تام كما هو إله تام، وبهذا استطاع أن يقدم كفارة كافية عن خطايا العالم (انظر عبرانيين 1: 2 و3؛ 2: 14).
وبعد أن يأخذ رئيس الكهنة من دم التيس المذبوح ويدخل إلى قدس الأقداس كما شرحنا يعود فيأخذ التيس إلى خارج محلة إسرائيل ويحرقه "كذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عبرانيين 13: 12 و 13). فالصليب الذي أدخلنا إلى داخل الحجاب، وبه تيسَّر لنا التقرب إلى الله، هو نفسه قد أخرجنا إلى خارج المحلة، وبه "انفصلنا" عن العالم.
يعيد سفر اللاويين بيان هذه الحقيقة وهي أن الدم هو ذات النفس. ويؤكد لنا ذلك بشدة ووضوح لم نعهدهما في سفر التكوين فيقول "لأن نفس الجسد هي في الدم فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم. لأن الدم يكفر عن النفس ... لأن نفس كل جسد دمه هو بنفسه" (لاويين 17: 11 و 14).
يجب أن ندرك الأهمية الحيوية المكنونة في دم المسيح. لننظر إلى الشواهد الآتية، فنرى قبساً من هذه الحقيقة وندرك شيئاً من قوة الدم: دم المسيح الكريم 1 بطرس 1: 18، 19
معنى الدم (لاويين 17: 11 و 14)
الفداء بالدم (1 بطرس 1: 18 و 19)
الغفران بالدم (أفسس 1: 7)
الصلح بالدم (كولوسي 1: 20)
التطهير بالدم (1 يوحنا 1: 7)
الاغتسال من الخطية بالدم (رؤيا 1: 5)
التقديس بالدم (عبرانيين 13: 12)
الدالة أو ثقة الدخول بالدم (عبرانيين 10: 19)
الغلبة بالدم (رؤيا 12: 11)
المجد الأبدي بالدم (رؤيا 7: 14 و 15)
- عدد الزيارات: 6326