الباب الثالث عشر: في إيقاد البخور واستعمال المصابيح والأضواء في النهار
لا يوجد دليل يثبت أن هذه العادة دخلت في الكنيسة قبل القرن الرابع. والبعض يقولون أنها لم تدخل في الكنائس حتى القرن الخامس.
وكانت هذه العادة مكروهة من المسيحيين الأولين بناءً على أنها جزءٌ من عبادة الأوثان ولهذا حسبوا أن دخولها في الديانة المسيحية غير جائزٍ. هكذا يتكلم عنها ترتوليانوس[278] وكذلك أثيناغوروس[279] وفضلاً عن أن آباء الكنيسة كانوا يرفضونها هكذا نرى تواريخ تلك الأعصار تشهد أيضاً أنها لم تُستَعمل قبل العصر الذي ذكرناه.
غير أن البخور كان مستعملاً في الجنازات ولكن لا كطقسٍ ديني بل نظير مانع للروائح الكريهة فقط. ثم في آخر القرن الرابع ابتدأوا يستعملونه في العبادة ولكن ليس في أول الأمر نظير جزءٍ من الخدمة الدينية بل إنما كان لأجل إصلاح الهواء الرديء الحاصل من ازدحام الجموع[280].
وكون البخور لم يكن جزءاً من العبادة في الثلاثة القرون الأولى يتضح من أنه لا يوجد ذكرٌ للمباخر في الكتاب الملقب بالقوانين الرسولية الذي يظن البعض أنه كُتِب في أواخر القرن الثالث أو في أوائل القرن الرابع. والبعض يظنون أنه كُتِب في القرن الخامس. وأما فاغريوس الذي كتب تاريخاً كنسياً في القرن السادس فيذكر مباخر ذهبية وصلباناً ذهبية[281] وذلك يدل على أن الصلبان والمباخر دخلت في الكنيسة في وقتٍ واحدٍ.
ثم أن لاون الأول الأسقف الروماني حكم في القرن الخامس أنه يجب استعمال البخور عند الجميع. وذلك دليلٌ على أنه لم يكن شائعاً بين الجميع قبل ذلك. ثم من هذا القرن فصاعداً صار استعمالهُ من العوائد الدينية وتحدد زمان وجوب استعمال البخور ومكانهُ وكيفيتهُ[282].
وأما أصل هذه العادة فظنَّ جماعةٌ أنها مأخوذة عن اليهود. وآخرون أنها مأخوذة من الوثنيين. ولعل الحقيقة أن العلتين كانتا كلاهما سبباً لوجوده وربما ساعدتهما أمورٌ أخرى على ذلك.
وأما استعمال المصابيح في الكنيسة نهاراً فلم يكن جائزاً عند المسيحيين الأولين. وإنما كانوا يستعملونها في الليل فقط لأجل الضرورة لأنهم كانوا يلتزمون بالاجتماع للعبادة تحت ظلام الليل خوفاً من الاضطهاد. ولكتنتيوس الذي ظهر في القرن الرابع يخبر بوجود مثل هذه العادة بين الوثنيين[283] ومجمع اليبريس الملتئم سنة 305 ينهى عن ذلك في القانون الرابع والثلاثين. نعم إن إيرونيموس الذي توفي في ابتداء القرن الخامس يذكر المصابيح كأنها كانت تُستَعمل في النهار أيضاً ولكن لا يذكر أمراً من الكنيسة أو عادة عمومية لإثبات لزومه. بل إنما يقول أن هذه العادة كانت محتملة في بعض الأماكن لإرضاء بعض أناس ضعفاء دنيويين من ذوي البساطة[284].
وأما أسباب استعمال المصابيح في الكنيسة نهاراً فقد اختلف العلماء فيها. فذهب قومٌ إلى أنه نتج من وقوع الكنيسة تحت الضيق والاضطهاد في القرون الأولى حين كان المسيحيون يلتزمون بالاجتماع ليلاً وفي شقوق الأرض ومغايرها وأنه بعد ما ملكوا حرية للاجتماع نهاراً بقيت هذه العادة في الكنيسة لكي تكون تذكاراً لأيام الاضطهاد ولكي لا يبطلوا عادة كانت عمومية مثل هذه. والبعض يظنون أن استعمال المصابيح والشموع في احتفالات الوثنيين الدينية المدعوة أسراراً كان سبباً لدخول ذلك في الكنائس المسيحية. لأن المسيحيين في القرن الثاني رتبوا أسراراً مثل هذه وسمّوا بعض عوائد مستورة عن العامة كعشية الرب والمعمودية أسراراً. وأدخلوا أيضاً بالتدريج نفس العوائد المستعملة في تلك الأسرار الأممية[285] التي كان من جملتها استعمال الأضواء. وقد ذكر أمثلة ذلك إسحق كاسوبون الذي ظهر في القرن الثامن[286] وآخرون غيره أيضاً. والبعض يظنون أن ذلك مأخوذٌ من خدمة هيكل اليهود. وذهب آخرون إلى أنه بما أن عشية الرب قد ترتبت أولاً في الليل وكانت أعياد المسيحيين المعروفة بولائم المحبة تُصنَع مساءً بقي استعمال الضوء بعد ذلك محفوظاً لأجل المشابهة التامة بينهما.
وأما من جهة استعمال الشموع فقد ذكر غريغوريوس النـزينـزي في القرن الرابع أن إيقادها في وقت العماد إنما كان من جملة الطقوس المستعملة عند مباشرة هذا السر. والظاهر أنها كانت تستعمل في هذا القرن في الجنازات أيضاً. وربما كان سبب استعمالها أنه في الثلاثة القرون الأولى كان المسيحيون يلتزمون لأجل الخوف من أعدائهم أن يدفنوا موتاهم ليلاً ولذلك كانوا يحتاجون إلى الضوء. والذي حصل لأجل الاضطرار في أول الأمر صار سبباً لإبقاء العادة فيما بعد مع وجود الإجازة لهم بالدفن في النهار. وفي أواخر القرن الرابع يتشكّى فيجيلنتيوس من أن العادة الوثنية في إيقاد الشموع أمام تماثيل آلهتهم قد تحوَّلت إلى الشهداء وأن الشموع كانت توقد في وسط النهار في كنائس الشهداء[287] وأجاب إيرونيموس على ذلك بأنه لا يوجد عندهم مثل هذه العادة في الكنائس الغربية إلا متى اجتمعوا ليلاً فقط وذلك لأجل الإضاءة لجماهيرهم عند الاجتماع. وأما في الكنائس الشرقية فلم يكن الأمر كذلك لأنه من دون التفاتٍ إلى الشهداء كانوا يوقدون الشموع عند تلاوة الإنجيل لكي يظهروا فرحهم بالبشارة التي يسمعونها من الإنجيل[288] وكانوا يستعملون الشموع عندما يصنعون عشية الرب أيضاً. فيظهر مما تقدم أن الشموع كانت تُستَعمل في الجناز والمعمودية وعشية الرب ولكن لم تستعمل في غيرها من العبادة الإلهية في القرن الرابع إلا في الكنائس الشرقية عند تلاوة الإنجيل. غير أنه من هذا الابتداء لا بد أن العادة كانت تمتد بسرعة إلى أجزاءٍ أخرى من العبادة ثم إلى كلها. وبالإجمال نقول أن هذه العادة قد ابتدأت أولاً في القرن الرابع وأما انتشارها العمومي فلا ريب أنه كان في القرنين الخامس والسادس وما بعدهما.
ولكن مهما كان الزمان أو السبب لدخول هذه العادة لا يوجد لها سند في الكتب المقدسة ولا هي ضرورية. فمتى كان نور الشمس ساطعاً في المشرق فما هي الحاجة إلى إيقاد الشموع. نعم إنها تعطي رونقاً خارجياً للعبادة ولكن ذلك لا يأمر به الإنجيل ولا يمدحه. فإن القلب المتواضع المنسحق المتخشع هو الذي يطلبهُ الله لا مجد الاحتفالات الطقسية وعظمتها[289].
وإذ لم يوجد أثرٌ لاستعمال البخور أو المصابيح في العبادة نهاراً في أحد أسفار العهد الجديد فذلك برهانٌ كافٍ لكونها غير ضرورية ولا نافعة.
[278] - ترتوليانوس في اعتذاره رأس 32 وفي إكليل المجاهدين رأس 10.
[279] - أثيناغوروس في الجوائز عند المسيحيين الأولين رأس 13.
[280] - سيجل مجلد 1 وجه 27 ومسهيم مجلد 1 وجه 230.
[281] - فاغريوس كتاب 6 رأس 21.
[282] - سيجل مجلد 1 وجه 27.
[283] - لكتنتيوس كتاب 6 رأس 2.
[284] - إيرونيموس رسالة 53 إلى ريباريوس.
[285] - مسهيم مجلد 1 وجه 162.
[286] - في أخبار بارونيوس وجه 388.
[287] - إيرونيموس ضد فيجيلنتيوس فصل 4.
[288] - إيرونيموس ضد فيجيلنتيوس رأس 3.
[289] - راجع أشعياء 1: 10 إلى 16.
- عدد الزيارات: 4441