الباب الخامس: في أصل رسم إشارة الصليب وعبادتهِ
إنه لا يوجد دليلٌ في الكتاب المقدس على رسم إشارة الصليب. ولكن يظهر أن هذه العادة دخلت قديماً بين المسيحيين الأولين. فإن ترتوليانوس الذي توفي نحو سنة 220 هو أول من أشار إليها وليسَ أحدٌ من بقية آباء الكنيسة في عصرهِ يذكرها. ومن أسلوب كلامه عنها[165] يتضح أن هذه العادة كانت موجودةً حينئذٍ أقلَّ ما يكون في إفريقية حيث كان ساكناً. وأما بعد زمانهِ بقليلٍ فتكلّمَ عنها غيرهُ من العلماء.
وأما أصل استعمال رسم الصليب فكان هكذا. إن الكنيسة القديمة كانت تعتبر جداً التعليم العظيم الموجود في الإنجيل أن الخلاص بجملتهِ إنما هو بدم المسيح المسفوك على الصليب فقط وكان هذا التعليم دائماً موضوع تأمّلاتهم فإذ كانوا يرغبون أن يكون هذا التعليم دائماً أمام عيونهم ويفتّشون عن رمزٍ مناسب يشير إلى جميع البركات المسبغة علينا بواسطة موت المسيح اتّخذوا إشارة الصليب رمزاً بسيطاً لهذه الغاية. ولم تكن هذه الإشارة عندهم إلا علامة بسيطة. حتى أنهم لم ينسبوا قوةً إلى نفس الصليب ولا إلى الإشارة بل كانوا يستعملونها واسطةً محسوسةً يدلُّون بها على هذه القضية المختصة بالديانة المسيحية وهي أن جميع أعمال المسيحيين وكل سلوكهم يجب أن يقدس بالإيمان بالفادي المصلوب وأن هذا الإيمان هو أقوى الوسائط للغلبة على كل شرٍّ ولحفظ الإنسان منهُ.
وبما أنهم علّقوا هذا المعنى عليه تراهم كانوا يستعملون هذه الإشارة مراراً كثيرة جداً في جميع أعمالهم الاعتيادية أي عند النوم والقيام والأكل واللبس وإضاءة السرج وفي الصلاة وبالإجمال في كل حركةٍ قاصدين أن يدلوا بذلك على أن الديانة الإنجيلية يجب أن تدخل في جميع أعمال الناس.
ولكن مع كون الأمر هذا كان بسيطاً في أواخر القرن الثاني وفي القرن الثالث أيضاً حصل فيه تغييرٌ عظيم في القرن الرابع. ومن حين نسب قسطنطين الملك انتصارهُ على مكسنتيوس في هذا القرن إلى الصليب زاد اعتبار الصليب جداً[166].
وقيل أن هيلانة أم قسطنطين في سنة 326 وجدت الصليب الحقيقي في أورشليم وشاعت الأخبار عنهُ بأن عجائب عظيمة صُنِعت بواسطته وبواسطة قِطَعٍ منهُ حتى بواسطة الصور المأخوذة عنهُ أيضاً. ولسنا نقول هنا شيئاً من جهة صدق الخبر عن وجود الصليب الحقيقي مع أنه الآن لا يُصدَّق عند جمهور العلماء. ولكن سواءً كان ذلك صحيحاً أم غير صحيحٍ قد وجدنا أن هذا التقليد وعلى الخصوص الإشاعة بأنه حدثت عجائب بواسطته كان سبباً لصيرورتهِ موضوعاً لأعظم نوعٍ من العبادة. وأخيراً وُضِعت قِطَعٌ منهُ على المذابح[167] ومن ذلك الزمان فصاعداً صاروا ينسبون قوة عظيمةً جداً إلى إشارة الصليب وإلى الصليب نفسهِ. وكانوا يعبدونهُ ويدَّعون له في كل مكانٍ بعجائب مختلفة وينتظرون منه فوائد جزيلة.
ولكن هذه العبادة لا يوجد لها رسمٌ في مدة الثلاثة القرون الأولى. ولنا برهان صريح أنهُ لم تُقدَّم عبادةٌ للصليب قبل القرن الرابع. فإن ميناشيوس فيلكس المؤَلِّف المسيحي في رومية كتب في ابتداء القرن الثالث خطاباً يقول فيه أن المسيحيين كانوا يعبدون المسيح وأما الصلبان فإنه ينكرُ صريحاً أنهم كانوا يعبدونها[168].
وغذ كان الصليب نفسهُ يعتبر على هذا المنوال تبعهُ استعمال الصلبان معلقةً في الأعناق ومنقوشةً على الأيادي ومرسومة على أشياء كثيرة من أمتعة البيت. وكذلك استعملت الصلبان في الكنائس ورُسمت على أوانيها. وذلك من القرن الرابع فصاعداً.
[165] - ترتوليانوس عن إكليل المجاهدين كتاب 15.
[166] - أوسابيوس حياة قسطنطين كتاب 1 وجه 40 وكتاب 2 وجه 6 إلى 9.
[167] - سوزا من تاريخ كنائسي كتاب 2 وجه 3.
[168] - ميناشيوس فيلكس وجه 280 و284.
- عدد الزيارات: 11397